إلهام بوصفارة مسيوغة، - مقاربة الذات المتنامية في "تقريبا" للشاعر التونسي أشرف القرقني (سركون تونس)

تحضر الذات في وضعية موت معنويّ. فالكاتب نزع منذ البداية إلى التجريد ووضع مسافة واجبة بين الكاتب والشاعر لضمان الموضوعيّة objectivité في هذا الملفوظ رغم أنّ موضوع الشعري ذاتي subjectif.

هذه الذات سعينا إلى رؤيتها وتتبّع حالاتها الشعرية: هذا الذي ينام في نظرة، وينسكب في حلم، أظنّه، على الأرجح أنا(1)

هذه الأنا النائمة الحالمة ما هي إلّا ذات sujet نابضة تحيا بين سطو القصيد ولها تجلّياتها ومعيّناتها déictiques من خلال الضمائر والأفعال والأسماء.

هذه الأنا ضمير محيّر. هل فيها يعيّن أشرف القرقني ذاته أم هو ضمير يتمّ تعريفه بالعموم extention؟ أم أنّ "الأنا" شكل فارغ على قول بنفنيست ويمكن لكلّ قارئ أن يملأ فيه ذاته؟

العمليّة ذكيّة جدّا لا تخلو من مراوغة. تعتقد أنّك تلاحق ذات أشرف القرقني في حين أنّك لا تلاحق إلّا ذاتك أو خيالك.

العين فاتحة الديوان " لم تكن عيني، لكنّي أعرفها، وربّما كنت أنا، هذه الحدقة السوداء تسافر في جسدي وتتّسع أكثر فأكثر..."(2) وهذه العين متّسعة تحدّق بالمخلوقات. هل هي عين حاسدة؟ عاشقة؟ حالمة؟ ماكرة؟ ساخرة؟ حانية؟ عارفة أم عين قرصان؟ فالعين قد تتّسع لكلّ الصفات إلّا أن تكون بريئة.

يحوي هذا الديوان مجموعة من القرائن والمؤشرات السياقية التي تدلّ على اندماج الشاعر ذاتيّا في خضمّ الواقع الموضوعي. وحضوره في الزمان والمكان تحت شعار" نحن – الآن – هنا " وهذا يخالف ما ذهب إليه أغلب النقاد العرب حينما ارتأوا أن القصيدة الرومنسية مغرقة في الذاتية والشكوى، بعيدة عن الواقع الثوريّ والنضاليّ.

في حين أنّ القصيدة الرومنسية\الذاتية من خلال المنظور التداولي أو التلفظي كانت أكثر اندماجا في الواقع وأكثر ارتباطا بسياقها المرجعي إضافة إلى منظور الشاعر الشخصي الداخلي الذي يعبّر فنّيا عن حضوره تعبيرا وانفعالا ومشاركته الآخرين في نقل الواقع محاكاة وتصويرا ورمزا وإيحاء. فهل أشرف القرقني من شعراء "أبولو"(3) أم شاعر مريض مُنطو على نفسه بعيدا عن الحياة أم كان شاعرا واقعيّا في هذه القصائد الذاتية؟


المعيّنات التواصلية:

يتضمّن الدّيوان قرائن إشارية تبيّن اندماج القرقني في واقعه ومدى انخراطه في السياق التداولي زمانا ومكانا.

قرائن الذات المتكلمة: الضمائر المتصلة "طفولتي، غدي، داخلي..." والضمائر المنفصلة "أنا" الدّالة على الحضور الكلّي للشاعر مقالا ومقاما.

أفعال المضارعة الدالة على زمن الحاضر "أعزف، أتحسّس"(4) الذي يبيّن حضور المتكلّم داخل سياق التلفّظ الشعري وتجذّره بهذه الأفعال سياقيا في الزمان والمكان: حضوره في الواقع قوة وإرادة ونضالا.

صيغ التملّك: الأسماء المقترنة بياء النسبة "دمي، روحي، بيتي..."(5) للاستدلال على إنّيته وكينونته الوجوديّة.
الصيغ الانفعالية أو صيغ التقويم والحكم: صيغ دالّة على حضور المتكلّم: "أيها العالم"(6)، "أيها الوغد الماكر"(7) سواء أ كان الحكم محايدا " أصباحا مضيئة، شرفة عالية، محارة زرقاء" أم سلبيّا "أحشائك القذرة، قدميك البليدتين، الخمرة الرّخيصة الفاسدة" أم إيجابيا "صداه الضاحك، أنّني شمس، غاية الدهشة..."

قرائن الذات المتلقّية:

الأعلام وصيغ الهويّة: محمد السّحّار \ سعاد أنور البوزيدي \ سركون... أسماء دالّة على إثبات الوجود وحقيقة الكينونة في الواقع وحضور الذات المرسِلة لرسائل تمتّ بصلة للواقع.
صيغة الفعل ماضيا "لحقتَ، هجرتَ" ومضارعا " تفتّش، تعوي" ومستقبلا "ستصير، سوف تعجب" وأمرا "حاذر، ازرعني، اقرأ" ما يكشف عن تأرجح الذات بين ماضي البؤس والعنف والألم والضغينة " أيها العالم، أعرف رجلا يحمل لك في أعماق قلبه ضغينة، أووه لو تعلم حجمها..."(8) وحاضر الصمت والانتظار والانحدار"لا شيء أفعله تماما سوى أنّني في انتظار العالم، وهو يتأهّب للوثوب على صورة"(9) ومستقبل الفرح والمعرفة والفناء " وافرحْ! خلّفتَ قلبيْ شاعرين يتقضقضان في رحى غيابك..."(10)
ضمائر الخطاب المنفصلة والمتصلة: مفردا وجمعا ولها وظائف تنبيهية تأثيرية كما يقول جاكبسن.
صيغ النداء: للمتكلّم سلطة تواصلية عليا لتأكيد التمركز الذاتي وتضخيم الأنا البؤرية داخل النسيج النصّي.

خاتمة

لكلّ ذات إيقاعها وحركتها في ملفوظها وينبغي تتبّع هذه الحركة من خلال مستويات اللغة لندرك المعاني من خلال طرائق الذات في إخراجها. وأشرف القرقني شاعر فذّ يحسن بناء ملفوظه الشعريّ ويجيد صناعة الذات في مختلف أحوالها العارضة لها. يمسك بناصية اللّغة ويحسن الاستحواذ على المشترك منها ويجريه إجراء خاصا ليخرج تعبيرات مصوّرة وفريدة. ورغم اختلاف الإيقاع بين ذات وأخرى فهذا لايمنعنا من رصد بعض التقارب بين ذات أشرف القرقني وذات الشاعر العراقي الراحل سركون بولص أيقونة الشعر الحديث.





1 أشرف القرقني، تقريبا...، تونس، مومنت، 2017، ص9
2 المصدر نفسه، ص11
3 شعراء أبلو:(جماعة أبولو الشعرية هي إحدى المدارس الأدبيّة الهامة في الأدب العربي الحديث وهي تضمّ شعراء الوجدان المتأثرين بالثقافات الأجنبية وتنتهي أعمالهم الشعرية بفراق أو موت ليأسهم في الحياة وعجزهم عن التصدّي للواقع ورغبتهم الواعية في الهروب من الواقع)
4 تقريبا، ص38
5 المصدر نفسه، ص38
6 م. ن، ص44
7م. ن، ص26
8 تقريبا، ص19
9 نفسه، ص20
10 م. ن، ص35


بقلم الكاتبة إلهام بوصفارة مسيوغة،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى