ما نعنيه بتبلوّر الخطاب الموصل إلى النص؛ هو توّحده مع ذاته. أكان هذا الخطاب ذكورياً أم أنثوياً، على الرغم من أننا لا نميل إلى هذا التصنيف، إلا بقدر ما تُتيح لنا رؤانا لطبيعة الخطاب وخصائصه، من خلال علاقته بالواقع المعيش من جهة، والواقع المعرفي من جهة أخرى. ولأننا إزاء تقديم قراءة لرواية كتبتها أنثى، يتوجب علينا أن نوّضح القصد عبر رؤيتنا لهذا النص. فهي قراءة تستنبط القيّم المعرفية العامّة التي يُرشحها النص، كذلك القيّم الفردية التي تتمسك بها رؤى الساردة.
إن الخطاب الأنثوي عبر التاريخ على قِدَمه يُشير إلى طبيعة موَّجِه هذا الخطاب، وهذا تطلب أن يكون متمسكاً بنوّع من التفرد والخاصية الذاتية. فأول الخطابات التي نجد فيها نوعاً من الارتكاز المعرفي، هو خطاب (حواء) إزاء (آدم) وهو خطاب تميّز بقدرة الذات ليس على التخاطب، وإنما على التغيير الذاتي والموّضوعي. مستندين إلى تخريج؛ كون الإغواء كان بقبول التفاحة وقضمها، أي أن ما رمت إليه (حواء) هو الاستعانة بالمعرفي، ثم تلا ذلك صراع قابيل وهابيل ووسطهما الأنثى، كمبرر لسلطة أكثر مرونة وليونة من سلطة البطريارك، التي يمثلها (آدم) فأول من تأثر بهذا المغيّر الأُنثوي هو (آدم) وليس (جلجامش) ضمن السياقات التاريخية لوجود النص، ثم امتدت بعد ذلك الخطابات على اختلاف مناهجها وسياقاتها المعرفية من جهة، وطبيعة السيادة الطبقية والفئوية من جهة أخرى. وتوالى الصراع، سواء كان على حدّة أو ليونة ؛ فنجد أن (عشتار) حاولت أن تخترق التابو البطرياكي، من خلال فرض خطابها الزراعي على الرعوي، بما يؤسس استقراراً مادياً في المكان، على أساس وجود الأنثى دالة على توفير أسس الحضارة، فانتصر الزراعي، ابتداء من الزواج من الراعي (دموزي) وصولاً إلى نفيه إلى العالم الأسفل. كذلك تمثلها لصورة الأفعى لسرقة (عشبة الخلود) من (جلجامش) على حافة البئر، محاولة لإعادة الاعتبار للسلطة الأنثوية، ثم استعارة الثور السماوي للفتك بالطرف الأساس، ليس بالملك بقدر ما التخلص من الوافد المعرفي (أنكيدو) فهي تعرف جسداً الكيفية التي ظهر عليها الوافد لتغيير بنية نظام (أوروك)، باتخاذه خطابا معرفيا خالصا، بديلاً ومناقضاً لما فرضته سلطة المعبد، سواء على رعايا (أوروك) أو على (أنكيدو)، وهو الحكم بالموّت والنفي إلى العالم الأسفل. مقابل ذلك نجد أن (ننسون) أم (جلجامش) قد وقفت موّقفاً متوازناً اتجاه الظواهر التي أجراها خطاب (أنكيدو) على بنية ولدها الملك، النفسية والسلوكية السياسية والاجتماعية. فهي تخاطبه بولدي أثناء تهيئتها لمستلزمات توديعه لرفقة ولدها إلى غابة الأرز. وقد خاطبته بلغة موازية لخطاباته العملية، بأن قالت له: «أنت العارف بكل شيء/ الخابر للطرق/ سر أمام ولدي وأنتما تخترقا الغابة المليئة بالوحوش..»، فهي العارفة بما يعنيه (خمبابا) بالنسبة لـ (عشتار) لأنها أساساً أنثى بلغت درجة من الحِكمة في النظر إلى الأشياء. ويوازي (ننسون) خطاب (سيدوري) صاحبة الحِكمة والوجود في مفترق تلتقي عنده الطُرق. فيما نرى أن خطاب (لابان) الذكوري خال يعقوب، أكثر تسلطاً ومراوغة، بحيث زوّج ابنتيه لابن أخته (ليئة وراحيل) أي واءم بين نقيضين، لم يفلح خطابه أن يفرض موّازنة بينهما، حتى تم نفيَّ (يوسف) داخل البئر لإسكات صوت الأُسطوري، وما تلا ذلك من تطورات في أرض مصر.
والذي يهمنا هنا هو حكاية (زليخا) وعلاقتها بيوسف، التي أعدّت لأبناء جنسها مِتكئا ووضعت السكاكين جنب بعض. علماً أن شخصية يوسف التكوينية، تشكيلة (أنثرورجولية) أي شخصية مزدوجة التركيب، لأنه نتاج الأُسطورة متمثلة في نبات (اللّفاح ). كانت مراوغة زليخا في إظهار الشكل أو الهيئة التي عليها صورة يوسف أمام قريناتها،»ذ أعدت لهنَّ مِتكئاً، وهو الإناء الذي توضع فيه الفاكهة المقدمة للضيوف.. الغرض من هذا إثبات جمال (يوسف) كحجة دامغة للوّم الذي حصدته من لدنهن، إزاء تعلقها العشقي بيوسف. فكانت أصابع الإناث قد استجابت لشفرات السكاكين بدلاً من بضع الفاكهة، من أجل إثبات سلطة (يوسف) الجنسية عليهنَّ، وهي سلطة الجمال الذكوري الممزوج بجمال وفتنة الأنثى. أي أن الأنثى هنا قد تعلقت بالذكورة وخصائصها الظاهرة (الجمال) وسحره. وهذا ممكن، لأن (يوسف) نتاج أسطوري كما ذكرنا،؛ كما ذكر التوراة في سِفر التكوين. التركيب من الناحية الجنسانية يتعلق بـ(زليخا ) إذ لم يكن لها خطاب، سوى الجسد الذكوري المرفَق بسحر الجمال الأُنثوي، وهذا ينمّ عن تعلقها بسلطة الذكورة، وتابعة له بانقياد وانجراف.
هذه السياحة تقودنا إلى فتح الرؤى إلى خطاب الأنثى لمحاورته. وحصراً الخطاب الأنثوي، الذي غلب عليه خطاب صوت الرجل المتداخل. ذلك لأن الأنثى منذ نشأتها الأولى، تعيش تحت ضغط سلطات متعددة. الأولى سلطة الأب السائدة في المجتمع. وهي في معظمها سلطة جائرة وحازمة وغير متوازنة، إزاء وجود الأنثى شريكاً معبّراً عن وجوده، بما لديه من استعدادات قادرة على صناعة المواقف. ثم سلطة المجتمع والمؤسسة التربوية في كل مراحلها. والأهم هو سلطة الأم التي هي خليط من عناصر الضعف إزاء الزوج، ومكمن الانقياد إلى تابو الدين والمحرمي والخرافي بكل وسائله. الأنثى الساردة تنشأ وسط هذا الخليط غير المتجانس، حتى بلوغ سلطة الزوّج الذي يحاول صياغة شخصيتها وفق رؤيته كما ذكرت فاطمة المرنيسي في «بنيان الفحولة» ما ولّد صورة لتكرار خطاب الرجل بعنوان الأنثى. فالساردة تنظر بعين الرجل لما حوّلها. وما حوّلها إلى مسلك معقد كبير وشائك. إن خطاب الأُنثى قد تبلور واستقل متخلصاً من هيمنة الذكورة لاحقاً، لأسباب سوف نعود لبحثها في مداخلة أُخرى.
٭ كاتب عراقي
20 - مايو - 2020
جاسم عاصي
إن الخطاب الأنثوي عبر التاريخ على قِدَمه يُشير إلى طبيعة موَّجِه هذا الخطاب، وهذا تطلب أن يكون متمسكاً بنوّع من التفرد والخاصية الذاتية. فأول الخطابات التي نجد فيها نوعاً من الارتكاز المعرفي، هو خطاب (حواء) إزاء (آدم) وهو خطاب تميّز بقدرة الذات ليس على التخاطب، وإنما على التغيير الذاتي والموّضوعي. مستندين إلى تخريج؛ كون الإغواء كان بقبول التفاحة وقضمها، أي أن ما رمت إليه (حواء) هو الاستعانة بالمعرفي، ثم تلا ذلك صراع قابيل وهابيل ووسطهما الأنثى، كمبرر لسلطة أكثر مرونة وليونة من سلطة البطريارك، التي يمثلها (آدم) فأول من تأثر بهذا المغيّر الأُنثوي هو (آدم) وليس (جلجامش) ضمن السياقات التاريخية لوجود النص، ثم امتدت بعد ذلك الخطابات على اختلاف مناهجها وسياقاتها المعرفية من جهة، وطبيعة السيادة الطبقية والفئوية من جهة أخرى. وتوالى الصراع، سواء كان على حدّة أو ليونة ؛ فنجد أن (عشتار) حاولت أن تخترق التابو البطرياكي، من خلال فرض خطابها الزراعي على الرعوي، بما يؤسس استقراراً مادياً في المكان، على أساس وجود الأنثى دالة على توفير أسس الحضارة، فانتصر الزراعي، ابتداء من الزواج من الراعي (دموزي) وصولاً إلى نفيه إلى العالم الأسفل. كذلك تمثلها لصورة الأفعى لسرقة (عشبة الخلود) من (جلجامش) على حافة البئر، محاولة لإعادة الاعتبار للسلطة الأنثوية، ثم استعارة الثور السماوي للفتك بالطرف الأساس، ليس بالملك بقدر ما التخلص من الوافد المعرفي (أنكيدو) فهي تعرف جسداً الكيفية التي ظهر عليها الوافد لتغيير بنية نظام (أوروك)، باتخاذه خطابا معرفيا خالصا، بديلاً ومناقضاً لما فرضته سلطة المعبد، سواء على رعايا (أوروك) أو على (أنكيدو)، وهو الحكم بالموّت والنفي إلى العالم الأسفل. مقابل ذلك نجد أن (ننسون) أم (جلجامش) قد وقفت موّقفاً متوازناً اتجاه الظواهر التي أجراها خطاب (أنكيدو) على بنية ولدها الملك، النفسية والسلوكية السياسية والاجتماعية. فهي تخاطبه بولدي أثناء تهيئتها لمستلزمات توديعه لرفقة ولدها إلى غابة الأرز. وقد خاطبته بلغة موازية لخطاباته العملية، بأن قالت له: «أنت العارف بكل شيء/ الخابر للطرق/ سر أمام ولدي وأنتما تخترقا الغابة المليئة بالوحوش..»، فهي العارفة بما يعنيه (خمبابا) بالنسبة لـ (عشتار) لأنها أساساً أنثى بلغت درجة من الحِكمة في النظر إلى الأشياء. ويوازي (ننسون) خطاب (سيدوري) صاحبة الحِكمة والوجود في مفترق تلتقي عنده الطُرق. فيما نرى أن خطاب (لابان) الذكوري خال يعقوب، أكثر تسلطاً ومراوغة، بحيث زوّج ابنتيه لابن أخته (ليئة وراحيل) أي واءم بين نقيضين، لم يفلح خطابه أن يفرض موّازنة بينهما، حتى تم نفيَّ (يوسف) داخل البئر لإسكات صوت الأُسطوري، وما تلا ذلك من تطورات في أرض مصر.
والذي يهمنا هنا هو حكاية (زليخا) وعلاقتها بيوسف، التي أعدّت لأبناء جنسها مِتكئا ووضعت السكاكين جنب بعض. علماً أن شخصية يوسف التكوينية، تشكيلة (أنثرورجولية) أي شخصية مزدوجة التركيب، لأنه نتاج الأُسطورة متمثلة في نبات (اللّفاح ). كانت مراوغة زليخا في إظهار الشكل أو الهيئة التي عليها صورة يوسف أمام قريناتها،»ذ أعدت لهنَّ مِتكئاً، وهو الإناء الذي توضع فيه الفاكهة المقدمة للضيوف.. الغرض من هذا إثبات جمال (يوسف) كحجة دامغة للوّم الذي حصدته من لدنهن، إزاء تعلقها العشقي بيوسف. فكانت أصابع الإناث قد استجابت لشفرات السكاكين بدلاً من بضع الفاكهة، من أجل إثبات سلطة (يوسف) الجنسية عليهنَّ، وهي سلطة الجمال الذكوري الممزوج بجمال وفتنة الأنثى. أي أن الأنثى هنا قد تعلقت بالذكورة وخصائصها الظاهرة (الجمال) وسحره. وهذا ممكن، لأن (يوسف) نتاج أسطوري كما ذكرنا،؛ كما ذكر التوراة في سِفر التكوين. التركيب من الناحية الجنسانية يتعلق بـ(زليخا ) إذ لم يكن لها خطاب، سوى الجسد الذكوري المرفَق بسحر الجمال الأُنثوي، وهذا ينمّ عن تعلقها بسلطة الذكورة، وتابعة له بانقياد وانجراف.
هذه السياحة تقودنا إلى فتح الرؤى إلى خطاب الأنثى لمحاورته. وحصراً الخطاب الأنثوي، الذي غلب عليه خطاب صوت الرجل المتداخل. ذلك لأن الأنثى منذ نشأتها الأولى، تعيش تحت ضغط سلطات متعددة. الأولى سلطة الأب السائدة في المجتمع. وهي في معظمها سلطة جائرة وحازمة وغير متوازنة، إزاء وجود الأنثى شريكاً معبّراً عن وجوده، بما لديه من استعدادات قادرة على صناعة المواقف. ثم سلطة المجتمع والمؤسسة التربوية في كل مراحلها. والأهم هو سلطة الأم التي هي خليط من عناصر الضعف إزاء الزوج، ومكمن الانقياد إلى تابو الدين والمحرمي والخرافي بكل وسائله. الأنثى الساردة تنشأ وسط هذا الخليط غير المتجانس، حتى بلوغ سلطة الزوّج الذي يحاول صياغة شخصيتها وفق رؤيته كما ذكرت فاطمة المرنيسي في «بنيان الفحولة» ما ولّد صورة لتكرار خطاب الرجل بعنوان الأنثى. فالساردة تنظر بعين الرجل لما حوّلها. وما حوّلها إلى مسلك معقد كبير وشائك. إن خطاب الأُنثى قد تبلور واستقل متخلصاً من هيمنة الذكورة لاحقاً، لأسباب سوف نعود لبحثها في مداخلة أُخرى.
٭ كاتب عراقي
20 - مايو - 2020
جاسم عاصي