عانت القصة القصيرة جدا في تأصيلها من المواقف التي تجاذبتها في هذا الاتجاه أو ذاك, فموقف نسبها إلى الأصل الغربي وأنكر عليها الجذور العربية, وموقف آخر أسس وجودها من الجذور العربية وأنكر عليها أي صلة بالقص الغربي, وموقف ثالث أقرّ لها التأثر بالموقفين السابقين، وهذا الموقف له حضور واسع؛ لما له من موضوعية وجدية، إذ يراها قد نهلت من منبعين رئيسين:
الأول: المنبع الغربي بكل روافده الفنية والأدبية، إذ تتفق اغلب الدراسات النقدية على أن التجديد الذي حققه القصاصون في تجاوز المفاهيم التقليدية , قد انبثق من مهارة التجريب الروائي ولا سيما والفرنسي، (آلان روب غرييه، ناتالي ساروت، ميشيل بوتور .. وغيرهم) . إذ امتازت لغتهم بالتكثيف، وتحصنت من الاستطراد الذي ظنوه خير ناقل للمعنى وفقا للطريقة الإلماعية، وانعكست تقنياتهم التجريبية على التدوين السردي العربي منذ العقد الستيني، وتطورت استخداماتها في تجاوز المألوف والانفتاح على الشعر, والرسم , والموسيقى , والسينما , والمسرح , لتدمير القداسة الاجناسية للرواية التقليدية، وعدّه بعضهم ضرورة تتمسك باشتراطاتها الواعية في التجديد والتحديث؛ لأن تقويض أسس القول القصصي التقليدي ربما يتعارض مع المتلقي العادي, ومن ثم لن تخاطب الرواية أو القصة إلا نخبة من متابعي هذا النوع الكتابي لأنها تقرأ بصعوبة, فضلا عن اشتراطها لمتلقي يتجاوز التقليدي الاستهلاكي الذي يمنحها السكونية والارتضاء بالاجترار. ومن أمهر الكتب التي أثّرت في هذا الاتجاه كتاب (انفعالات) لناتلي ساروت، إذ شكّل بداية التمرد على سكونية النص التقليدي. والكتاب في جوهره صور وليدة اللحظة، ترجمتها الكاتبة إلى كلمات، هذه الكلمات مكثفة ومحددة، تعبر عن أحاسيس عفوية، وصادقة، ولصيقة بالأشياء، هذه الأشياء منظورة ومسموعة ووليدة ملاحظة ثاقبة ومراقبة شديدة؛ وهذا ما دعا المترجم (فتحي العشري) لأن يضع موجها قرائيا للكتاب وهو (قصص قصيرة جدا) وهذا النوع القصصي الجديد, يعتمد على التعالق الكثيف في التحولات السردية والشعرية والفنية، ويكتب بمهارة عالية، ويثير الدهشة، ويختزل الدلالة؛ لهذه ظل بعض النقاد يعدون القصة القصيرة جدا تقليدا غربيا، إلى أن جاء اهتمام كثير من القصاصين بالموروث السردي بشكل فعال في ساحة الاشتغال القصصي فانحازوا بذلك مع نقاد كثر إلى تأصيل الفن القصصي العربي.
الثاني: الموروث السردي العربي الذي عرف أنواعا قصصية مختلفة مثل (القصة/ الخبر) و (القصه/ النادرة ) و(قصة المثل ) وأنواعا أخرى لها مساس مباشر بالقصة القصيرة جدا، عبر التحولات الجمالية التي استفاد منه هذا النوع وليس التوافق أو الالتقاء بينهما فحسب. ومن أهم هذه الأنواع السردية التي لها مساس مباشر بالقصة القصيرة جدا ما يأتي:
1. الخبر: (القصة/ الخبر) :
وتجمع قصة الخبر بين التاريخ والفن مع حرص قائلها على تتبع مصادرها وكأنها وقعت فعلا. وتعد من أهم الأنواع السردية التي عرفها الأدب العربي القديم وتكمن خاصيتها الفنية في كونها ممتعة، وشيّقه ومؤثرة بلغتها وأسلوبها, والقارئ الجاد للقصة القصيرة جدا يكتشف كيف تضيق المسافة بينها وبين القصة/ الخبر وتقترب إحداهما من الأخرى في العناصر والتقنيات التي تمنحها بعدا قصصيا إلى حد التماهي, مما دعا بعض النقاد، ومنهم لأن يعد (الخبر) بشيء من التسامح قصة قصيرة. ونتساءل ما الذي يجعل قولا كالخبر ينزاح تعبيريا ليتحول من فعل إخباري مهمته الإقناع إلى فعل جمالي مهمته الإمتاع؟ والجواب هو أن الخبر يقوم في السرد التاريخي على الإسناد طلبا للحقيقة أو الصدق التاريخي, أما القصة القصيرة جدا فتقوم في السرد الأدبي على خلق فضاء متخيل. وما يشغلنا هو كيف تطور الخبر من نوع إعلامي إلى نوع أدبي؟ يقينا أن الأخبار (المكتوبة/ المرئية/ المسموعة) تنبني على مفارقات, وأن هذه المفارقات تؤثث وجودها في كل تفاصيل الواقع اليومي الذي يعيشه الإنسان, ولكي يغادر الخبر هذه التوصيفات عليه أن يعيد إنتاج الخبر لا من خلال ارتباطه بالواقع مرة أخرى ولكن بربط الواقع بالخيال.
2. النوادر (الفكاهات والنكت) :
والنادرة تلي (الخبر) من حيث اقترابها من القصة القصيرة جدا لا بل تتحول إلى قصة قصيرة جدا، وهي قصيرة نسبيا وذات محتوى يتمثل في مغزى تدور حوله النادرة، وتشكل المفارقة القاسم المشترك بينهما. وأبطال النادرة عادة ما يكونون من الظرفاء والسكارى أو البخلاء أو المغفلين أو الحمقى.... وغيرهم. وتشاطر القصة القصيرة جدا النادرة غالبا في واقعيتها، وتستمد منها إضافة ملمح للشخصية لا شخصية بذاتها في معظم الأحيان، ولها وحدة متكاملة (بداية ووسط ونهاية) إذ تدخل الشخصية في أزمة مع شخصية أخرى ثم يتم حل هذه الإشكالية بشكل معين ويمكننا قراءة هذا النوع السردي وكأنه قصة قصيرة جدا.
3. الأسطورة والخرافة:
وكلاهما تعامل مع الوعي بغائية معينة، تركّزت في تفسير طبيعة الكون ومصير الإنسان. ولم يكن العرب بمعزل عن بقية الشعوب فقد عرفوا هذا النوع من القص بوصفه إرثا إنسانيا وأدبيا، فطبيعة الحياة التي عاشها العرب وقسوة الصحراء ونظرتهم إلى ما يحيطهم جعلهم يعبرون بأشكال شتى من التعابير التي ارتبطت بحالات محددة تلبي حاجات الإنسان الأساسية في الفكر العربي القديم. وتلتقي الأسطورة بالقصة القصيرة جدا من ناحية كونها تقف بين التاريخ والخيال، فهي خلق وإبداع أدبي, إنساني تلتقي بالقصة القصيرة جدا لأنها لا تستطيع صياغة خطابها بعيدا عن الرموز والمجازات التي تصوغ وفاءها الفعال لإنسانيتها عبر التعبير عن المشاكل الشمولية التي تحيط بالإنسان بدءا من خلقه وحتى بعثه من جديد.
أما الخرافة فتمثل موروثا شفويا اشتعل عليه القصاصون العرب والنقاد كثيرا مستفيدين كغيرهم من التقاليد الأوربية العالمية في هذا المجال. وهنالك من أضفى عليها صفة القصصية أكثر بعد أن عدّها( مجموعة الأفعال المرتبة التي تدور حول موضوع معين وهي ذات مغزى أخلاقي). وتعالق القصة القصيرة جدا بالخرافة ينبني على ثنائية التقليد/ التحديث التي تتمظهر في قدرة هذا الموروث السردي على التحول واستيعاب روح العصر أولا وعلى أسس جوهرية متماثلة في العينات الجمالية لكل منها ولا سيما الأركان القصصية (الشخصية/ الحدث/ الزمن/ المكان) وهنا تحديدا يهيمن النزوع الدرامي على النزوع الغنائي.
5. قصص الحيوان
وتلتقي بالقصة القصيرة جدا في استخداماتها الرمزية واتخاذها الحيوانات معادلا موازيا لرؤية القاص وإعطاء صورة مكشوفة في الظاهر ودلالة مخفية في الباطن. وتبلغ نسبة التحول من قصص الحيوان إلى القصص القصيرة جدا نسبتها المطلقة عند بعض القصاصين ومنهم القاص السوري زكريا تامر والقاص العراقي طلال حسن في كتاباته القصصية القصيرة جدا للأطفال، ليس غرضها تسلية الطفل وإنما رفع كفاءة الانفتاح الذهني على مسارب تلك الرموز ومساراتها بصورة تتجاوز مرحلة الطفولة إلى مناطق فكرية عالية يتم عبرها الالتفات إلى المنظومات القمعية المؤدلجة اجتماعيا وسياسيا.
الأول: المنبع الغربي بكل روافده الفنية والأدبية، إذ تتفق اغلب الدراسات النقدية على أن التجديد الذي حققه القصاصون في تجاوز المفاهيم التقليدية , قد انبثق من مهارة التجريب الروائي ولا سيما والفرنسي، (آلان روب غرييه، ناتالي ساروت، ميشيل بوتور .. وغيرهم) . إذ امتازت لغتهم بالتكثيف، وتحصنت من الاستطراد الذي ظنوه خير ناقل للمعنى وفقا للطريقة الإلماعية، وانعكست تقنياتهم التجريبية على التدوين السردي العربي منذ العقد الستيني، وتطورت استخداماتها في تجاوز المألوف والانفتاح على الشعر, والرسم , والموسيقى , والسينما , والمسرح , لتدمير القداسة الاجناسية للرواية التقليدية، وعدّه بعضهم ضرورة تتمسك باشتراطاتها الواعية في التجديد والتحديث؛ لأن تقويض أسس القول القصصي التقليدي ربما يتعارض مع المتلقي العادي, ومن ثم لن تخاطب الرواية أو القصة إلا نخبة من متابعي هذا النوع الكتابي لأنها تقرأ بصعوبة, فضلا عن اشتراطها لمتلقي يتجاوز التقليدي الاستهلاكي الذي يمنحها السكونية والارتضاء بالاجترار. ومن أمهر الكتب التي أثّرت في هذا الاتجاه كتاب (انفعالات) لناتلي ساروت، إذ شكّل بداية التمرد على سكونية النص التقليدي. والكتاب في جوهره صور وليدة اللحظة، ترجمتها الكاتبة إلى كلمات، هذه الكلمات مكثفة ومحددة، تعبر عن أحاسيس عفوية، وصادقة، ولصيقة بالأشياء، هذه الأشياء منظورة ومسموعة ووليدة ملاحظة ثاقبة ومراقبة شديدة؛ وهذا ما دعا المترجم (فتحي العشري) لأن يضع موجها قرائيا للكتاب وهو (قصص قصيرة جدا) وهذا النوع القصصي الجديد, يعتمد على التعالق الكثيف في التحولات السردية والشعرية والفنية، ويكتب بمهارة عالية، ويثير الدهشة، ويختزل الدلالة؛ لهذه ظل بعض النقاد يعدون القصة القصيرة جدا تقليدا غربيا، إلى أن جاء اهتمام كثير من القصاصين بالموروث السردي بشكل فعال في ساحة الاشتغال القصصي فانحازوا بذلك مع نقاد كثر إلى تأصيل الفن القصصي العربي.
الثاني: الموروث السردي العربي الذي عرف أنواعا قصصية مختلفة مثل (القصة/ الخبر) و (القصه/ النادرة ) و(قصة المثل ) وأنواعا أخرى لها مساس مباشر بالقصة القصيرة جدا، عبر التحولات الجمالية التي استفاد منه هذا النوع وليس التوافق أو الالتقاء بينهما فحسب. ومن أهم هذه الأنواع السردية التي لها مساس مباشر بالقصة القصيرة جدا ما يأتي:
1. الخبر: (القصة/ الخبر) :
وتجمع قصة الخبر بين التاريخ والفن مع حرص قائلها على تتبع مصادرها وكأنها وقعت فعلا. وتعد من أهم الأنواع السردية التي عرفها الأدب العربي القديم وتكمن خاصيتها الفنية في كونها ممتعة، وشيّقه ومؤثرة بلغتها وأسلوبها, والقارئ الجاد للقصة القصيرة جدا يكتشف كيف تضيق المسافة بينها وبين القصة/ الخبر وتقترب إحداهما من الأخرى في العناصر والتقنيات التي تمنحها بعدا قصصيا إلى حد التماهي, مما دعا بعض النقاد، ومنهم لأن يعد (الخبر) بشيء من التسامح قصة قصيرة. ونتساءل ما الذي يجعل قولا كالخبر ينزاح تعبيريا ليتحول من فعل إخباري مهمته الإقناع إلى فعل جمالي مهمته الإمتاع؟ والجواب هو أن الخبر يقوم في السرد التاريخي على الإسناد طلبا للحقيقة أو الصدق التاريخي, أما القصة القصيرة جدا فتقوم في السرد الأدبي على خلق فضاء متخيل. وما يشغلنا هو كيف تطور الخبر من نوع إعلامي إلى نوع أدبي؟ يقينا أن الأخبار (المكتوبة/ المرئية/ المسموعة) تنبني على مفارقات, وأن هذه المفارقات تؤثث وجودها في كل تفاصيل الواقع اليومي الذي يعيشه الإنسان, ولكي يغادر الخبر هذه التوصيفات عليه أن يعيد إنتاج الخبر لا من خلال ارتباطه بالواقع مرة أخرى ولكن بربط الواقع بالخيال.
2. النوادر (الفكاهات والنكت) :
والنادرة تلي (الخبر) من حيث اقترابها من القصة القصيرة جدا لا بل تتحول إلى قصة قصيرة جدا، وهي قصيرة نسبيا وذات محتوى يتمثل في مغزى تدور حوله النادرة، وتشكل المفارقة القاسم المشترك بينهما. وأبطال النادرة عادة ما يكونون من الظرفاء والسكارى أو البخلاء أو المغفلين أو الحمقى.... وغيرهم. وتشاطر القصة القصيرة جدا النادرة غالبا في واقعيتها، وتستمد منها إضافة ملمح للشخصية لا شخصية بذاتها في معظم الأحيان، ولها وحدة متكاملة (بداية ووسط ونهاية) إذ تدخل الشخصية في أزمة مع شخصية أخرى ثم يتم حل هذه الإشكالية بشكل معين ويمكننا قراءة هذا النوع السردي وكأنه قصة قصيرة جدا.
3. الأسطورة والخرافة:
وكلاهما تعامل مع الوعي بغائية معينة، تركّزت في تفسير طبيعة الكون ومصير الإنسان. ولم يكن العرب بمعزل عن بقية الشعوب فقد عرفوا هذا النوع من القص بوصفه إرثا إنسانيا وأدبيا، فطبيعة الحياة التي عاشها العرب وقسوة الصحراء ونظرتهم إلى ما يحيطهم جعلهم يعبرون بأشكال شتى من التعابير التي ارتبطت بحالات محددة تلبي حاجات الإنسان الأساسية في الفكر العربي القديم. وتلتقي الأسطورة بالقصة القصيرة جدا من ناحية كونها تقف بين التاريخ والخيال، فهي خلق وإبداع أدبي, إنساني تلتقي بالقصة القصيرة جدا لأنها لا تستطيع صياغة خطابها بعيدا عن الرموز والمجازات التي تصوغ وفاءها الفعال لإنسانيتها عبر التعبير عن المشاكل الشمولية التي تحيط بالإنسان بدءا من خلقه وحتى بعثه من جديد.
أما الخرافة فتمثل موروثا شفويا اشتعل عليه القصاصون العرب والنقاد كثيرا مستفيدين كغيرهم من التقاليد الأوربية العالمية في هذا المجال. وهنالك من أضفى عليها صفة القصصية أكثر بعد أن عدّها( مجموعة الأفعال المرتبة التي تدور حول موضوع معين وهي ذات مغزى أخلاقي). وتعالق القصة القصيرة جدا بالخرافة ينبني على ثنائية التقليد/ التحديث التي تتمظهر في قدرة هذا الموروث السردي على التحول واستيعاب روح العصر أولا وعلى أسس جوهرية متماثلة في العينات الجمالية لكل منها ولا سيما الأركان القصصية (الشخصية/ الحدث/ الزمن/ المكان) وهنا تحديدا يهيمن النزوع الدرامي على النزوع الغنائي.
5. قصص الحيوان
وتلتقي بالقصة القصيرة جدا في استخداماتها الرمزية واتخاذها الحيوانات معادلا موازيا لرؤية القاص وإعطاء صورة مكشوفة في الظاهر ودلالة مخفية في الباطن. وتبلغ نسبة التحول من قصص الحيوان إلى القصص القصيرة جدا نسبتها المطلقة عند بعض القصاصين ومنهم القاص السوري زكريا تامر والقاص العراقي طلال حسن في كتاباته القصصية القصيرة جدا للأطفال، ليس غرضها تسلية الطفل وإنما رفع كفاءة الانفتاح الذهني على مسارب تلك الرموز ومساراتها بصورة تتجاوز مرحلة الطفولة إلى مناطق فكرية عالية يتم عبرها الالتفات إلى المنظومات القمعية المؤدلجة اجتماعيا وسياسيا.