عنوان هذه المقالة هو الآية رقم 85 من سورة الإسراء. ماذا يمكن أن نستنتِجه من هذه الآية الكريمة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك توضيحات أعتبرها، أنا شخصيا، من الأهمية بمكان.
التَّوضوح الأول ينصبُّ على كلمة "عِلم". هذه الكلمة واردة في القرآن الكريم على صيغة المفرد، أي أن جمعَها "علوم" غير واردٍ فيه. وهذا يعني أن المقصودَ ب"عِلم" في القرآن هو العِلم الشامل، أي كل ما يعلمه اللهُ بما في ذلك عِلم الغيب. وعِلم الله هو الذي أُوتِيَ البشرُ منه قليلا. ومَن يدَّعي أن كلمةَ "عِلم" تشمل فقط ما هو ديني، فهو خاطئ. لماذا؟ لأن اللهَ سبحانه وتعالى أمر البشرَ بإعمار الأرض. وكيف سيُعمِّرونها إن لم يكن بعقولِهم. والعقول هي التي تنتِج المعرفة التي، بواسطتها، يتم إعمارَ الأرض. والمعرفة، عندما تتراكم، هي التي تتشكَّل منها العلوم الدنيوية.
التَّوضيح الثاني يتعلَّق بطبيعة القرآن الكريم. وهنا، أقول وأكرِّر، القرآن الكريمَ ليس كتاب علوم بالمفهوم الدنيوي. القرآن الكريم كتاب هداية وإيمان وهدي وموعظة وإرشاد وتقوى… ومَن يدَّعي أن القرآن الكريم يتحدث عن العلوم الدنيوية، فهو خاطئ ويجرُّ معه الناسَ إلى فهمٍ خاطئٍ لهذا القرآن. القرآن الكريم فيه، فقط ولا أقل ولا أكثر، إشارات لبعض الظواهر phénomènes الطبيعية التي توصَّلت العلوم الدنيوية إلى تفسيرها.
التَّوضيح الثالث : ما دام القرآن الكريم كتاب هداية وإيمان وهدي وموعظة وإرشاد وتقوى…، فإنه صالحٌ لكل زمان ومكان. لماذا؟ لأن البشرَ في حاجة مستمرة إلى مَن يهديهم وينصحهم ويعيدَهم إلى الصواب. ولستُ في حاجة إلى الإشارة إلى ما تحتاجُه البشريةُ، في يومنا هذا، من نُصحٍ وإرشادٍ وموعظة… ولستُ أنا الوحيد الذي يقول هذا الكلام. بل قاله قبلي ويقوله الكثيرون من مفكرين وفلاسفة وعلماء الاجتماع ومؤرِّخون وعلماء الدين… وسيقوله الكثيرون فيما يأتي من الزمان.
بعد هذه التوضيحات، أنتقلُ إلى ما أدركتُه، أنا شخصيا، من هذه الآية. بعد توضيح المقصود بكلمة "عِلم" في القرآن الكريم، ما يشدُّ الانتباهَ، في نفس الآية، هي كلمة "قليلا".
إذا اعتبرنا القرآنَ الكريمَ غير صالح لكل زمان ومكان (وهذا غير صحيح) وإذا فسَّرنا هذه الآيةَ تفسيرا حرفيا، فمن المنطق أن "قليلا" توقَّفت كِمِّيتُه quantité مباشرةً بعد نزول هذه الآية.
أما إذا اعتبرنا القرآن الكريمَ صالحا لكل زمان ومكان وتمعَّننا في هذه الآية، فأول شيء يُثيرً الانتباهَ هو أن الله سبحانه وتعالى خاطب، في نفس الآية، البشرَ قائلا لهم : إني سخَّرت لكم (أُوتِيتُم) البعض من علمي. والتَّسخير يستوجب إِعمالَ العقل من أجل إنتاج المعرفة التي هي أساس إعمار الأرض. وتراكُمُ المعرفة، كما سبق الذِّكرُ، هو الذي قاد إلى بروز العلوم الدنيوية. لكن المُلاحظَ هو أن العِلمَ الذي سخَّره اللهُ للبشر، منذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا، في تزايدٍ مستمر، أي لا تمرُّ لحظةٌ إلا ويزداد كمّاً ونوعيةً. إذن، فما المقصود من "قليلا"؟
المقصود هو : مهما كثُرت العلوم البشرية الدنيوية ومهما زاد حجمُها ومهما تنوَّعت، فإنها تبقى قليلةً، حجماً وتوسُّعاً، بالمقارنة مع عِلم الله سبحانه وتعالى. إذن، القليل يبقى قليلا، مهما تكاثر لأنه لن يُضاهيَ عِلمَ الله. وخصوصا أن علمَ اللهِ فيه كثير من الغيب مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (الحجرات، 18).
وما يؤكِّد نسبيةَ "قليلا" هو قوله سبحانه وتعالى : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255). بمعنى أن اللهَ، جل عُلاه، لا يُسخِّر للبشر من عِلمه إلا ما أراد ويريده، أي ما هم في حاجةٍ إليه لإعمار الأرض. وإرادة الله، بالمطلق، لا بداية لها ولا نهاية. فكلما سخَّر اللهُ شيئا من علمِه للبشر، كلما ازداد حجمُ "قليلا". لكن هذا الحجمَ يبقى ضئيلا بالمقارنة مع عِلم الله. وهو ما تؤكِّده، في الآية السابقة الذكر، عبارةُ "إلا بما شاء".
وما يمكن كذلك استنتاجُه من هذه الآية الكريمة، هو أن عِلمَ الله لا حصرَ له. لماذا؟ لأن اللهَ، جلَّ جلالُه، "... لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ…" (الإخلاص، 3). بمعنى أن علمَ اللهِ مقترن بوجوده، وما دام وجود اللهِ لا بدايةَ ولا نهاية له، فعِلمُه لا حصر له.
ومن جهة أخرى، فإن ما أراد ويريد اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُسخِّرَه من عِلمِه للبشر هو، في الحقيقة، نِعمةٌ من نِعَمه التي، هي الأخرى، لا تُحصى مصداقا لقولِه عزَّ وجلَّ : "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (النحل، 18). وهذا هو ما حصل ويحصل بالنسبة للعلوم الدنيوية التي توسَّعت وتنوَّعت وازدهرت وتنامت… لكنها تبقى، رغم توسُّعها وتنوُّعها وازدهارها وتناميها، محدودةً بالمقارنة مع عِلم الله.
قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك توضيحات أعتبرها، أنا شخصيا، من الأهمية بمكان.
التَّوضوح الأول ينصبُّ على كلمة "عِلم". هذه الكلمة واردة في القرآن الكريم على صيغة المفرد، أي أن جمعَها "علوم" غير واردٍ فيه. وهذا يعني أن المقصودَ ب"عِلم" في القرآن هو العِلم الشامل، أي كل ما يعلمه اللهُ بما في ذلك عِلم الغيب. وعِلم الله هو الذي أُوتِيَ البشرُ منه قليلا. ومَن يدَّعي أن كلمةَ "عِلم" تشمل فقط ما هو ديني، فهو خاطئ. لماذا؟ لأن اللهَ سبحانه وتعالى أمر البشرَ بإعمار الأرض. وكيف سيُعمِّرونها إن لم يكن بعقولِهم. والعقول هي التي تنتِج المعرفة التي، بواسطتها، يتم إعمارَ الأرض. والمعرفة، عندما تتراكم، هي التي تتشكَّل منها العلوم الدنيوية.
التَّوضيح الثاني يتعلَّق بطبيعة القرآن الكريم. وهنا، أقول وأكرِّر، القرآن الكريمَ ليس كتاب علوم بالمفهوم الدنيوي. القرآن الكريم كتاب هداية وإيمان وهدي وموعظة وإرشاد وتقوى… ومَن يدَّعي أن القرآن الكريم يتحدث عن العلوم الدنيوية، فهو خاطئ ويجرُّ معه الناسَ إلى فهمٍ خاطئٍ لهذا القرآن. القرآن الكريم فيه، فقط ولا أقل ولا أكثر، إشارات لبعض الظواهر phénomènes الطبيعية التي توصَّلت العلوم الدنيوية إلى تفسيرها.
التَّوضيح الثالث : ما دام القرآن الكريم كتاب هداية وإيمان وهدي وموعظة وإرشاد وتقوى…، فإنه صالحٌ لكل زمان ومكان. لماذا؟ لأن البشرَ في حاجة مستمرة إلى مَن يهديهم وينصحهم ويعيدَهم إلى الصواب. ولستُ في حاجة إلى الإشارة إلى ما تحتاجُه البشريةُ، في يومنا هذا، من نُصحٍ وإرشادٍ وموعظة… ولستُ أنا الوحيد الذي يقول هذا الكلام. بل قاله قبلي ويقوله الكثيرون من مفكرين وفلاسفة وعلماء الاجتماع ومؤرِّخون وعلماء الدين… وسيقوله الكثيرون فيما يأتي من الزمان.
بعد هذه التوضيحات، أنتقلُ إلى ما أدركتُه، أنا شخصيا، من هذه الآية. بعد توضيح المقصود بكلمة "عِلم" في القرآن الكريم، ما يشدُّ الانتباهَ، في نفس الآية، هي كلمة "قليلا".
إذا اعتبرنا القرآنَ الكريمَ غير صالح لكل زمان ومكان (وهذا غير صحيح) وإذا فسَّرنا هذه الآيةَ تفسيرا حرفيا، فمن المنطق أن "قليلا" توقَّفت كِمِّيتُه quantité مباشرةً بعد نزول هذه الآية.
أما إذا اعتبرنا القرآن الكريمَ صالحا لكل زمان ومكان وتمعَّننا في هذه الآية، فأول شيء يُثيرً الانتباهَ هو أن الله سبحانه وتعالى خاطب، في نفس الآية، البشرَ قائلا لهم : إني سخَّرت لكم (أُوتِيتُم) البعض من علمي. والتَّسخير يستوجب إِعمالَ العقل من أجل إنتاج المعرفة التي هي أساس إعمار الأرض. وتراكُمُ المعرفة، كما سبق الذِّكرُ، هو الذي قاد إلى بروز العلوم الدنيوية. لكن المُلاحظَ هو أن العِلمَ الذي سخَّره اللهُ للبشر، منذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا، في تزايدٍ مستمر، أي لا تمرُّ لحظةٌ إلا ويزداد كمّاً ونوعيةً. إذن، فما المقصود من "قليلا"؟
المقصود هو : مهما كثُرت العلوم البشرية الدنيوية ومهما زاد حجمُها ومهما تنوَّعت، فإنها تبقى قليلةً، حجماً وتوسُّعاً، بالمقارنة مع عِلم الله سبحانه وتعالى. إذن، القليل يبقى قليلا، مهما تكاثر لأنه لن يُضاهيَ عِلمَ الله. وخصوصا أن علمَ اللهِ فيه كثير من الغيب مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (الحجرات، 18).
وما يؤكِّد نسبيةَ "قليلا" هو قوله سبحانه وتعالى : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255). بمعنى أن اللهَ، جل عُلاه، لا يُسخِّر للبشر من عِلمه إلا ما أراد ويريده، أي ما هم في حاجةٍ إليه لإعمار الأرض. وإرادة الله، بالمطلق، لا بداية لها ولا نهاية. فكلما سخَّر اللهُ شيئا من علمِه للبشر، كلما ازداد حجمُ "قليلا". لكن هذا الحجمَ يبقى ضئيلا بالمقارنة مع عِلم الله. وهو ما تؤكِّده، في الآية السابقة الذكر، عبارةُ "إلا بما شاء".
وما يمكن كذلك استنتاجُه من هذه الآية الكريمة، هو أن عِلمَ الله لا حصرَ له. لماذا؟ لأن اللهَ، جلَّ جلالُه، "... لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ…" (الإخلاص، 3). بمعنى أن علمَ اللهِ مقترن بوجوده، وما دام وجود اللهِ لا بدايةَ ولا نهاية له، فعِلمُه لا حصر له.
ومن جهة أخرى، فإن ما أراد ويريد اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُسخِّرَه من عِلمِه للبشر هو، في الحقيقة، نِعمةٌ من نِعَمه التي، هي الأخرى، لا تُحصى مصداقا لقولِه عزَّ وجلَّ : "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (النحل، 18). وهذا هو ما حصل ويحصل بالنسبة للعلوم الدنيوية التي توسَّعت وتنوَّعت وازدهرت وتنامت… لكنها تبقى، رغم توسُّعها وتنوُّعها وازدهارها وتناميها، محدودةً بالمقارنة مع عِلم الله.