د. أحمد الحطاب - عالمٌ مستقبلُه مُخِيف

كثيرا ما نسمع ونقرأ : "لا يوجد في هذا العالم ما يُفرِحُ" أو بالدارجة : "ما بْقا فهَدْ الدنيا ما يعْجبْ". قد يخطُر ببالنا أن هاتين العبارتين ليستا إلا صورتين نمطيتين stéréotypes تعوَّدَ الناسُ على النُّطق بهما كلما وجدوا أنفسَهم في مشكلةٍ من مشاكل الحياة اليومية. هذا صحيح! لكن، إذا تأمَّلنا، بصفة عامة، في ظروف وحيثيات وجود الصور النمطية، سنجد فعلا أن هذه الصور لم تأتِ من فراغ. كل صورة نمطية هي، في الحقيقة، موقف من مواقف الحياة إزاء مشكلةٍ أو وضعٍ أو حدثٍ أو فكرة… تجد تفسيرَها في ماضٍ قريبٍ أو بعيد. وتحويلها من مشكلة أو وضع أو حدث أو فكرة… إلى صورة نمطية ناتجٌ عن تناقلها من جيل لآخر واستعمالِها بكيفية تلقائية أو بدون تفكير في مواقف تبدو صعبة أو مُعقدة.

وإذا رجعنا إلى عبارة : "لا يوجد في هذا العالم ما يُفرِحُ"، فهي فعلا صورة نمطية تُقال، بدون أدنى تفكير وبدون أدنى تأمُّلٍ، حينما يدور الحديثُ عن ما يشوب العالمَ من مشاكل. لكن، إذا فكَّرنا بعمقٍ فيما تختبئُ وراء هذه العبارة من مشاكل، فإنها تدفعنا إلى مقاربة العالم بمنظور تحليلي ونقدي.

بالفعل، لو مرَّرنا العالمَ من مصفاة العقل والتفكير المستنير، أو بعبارة أخرى، لو أخضعنا العالمَ لمِجهر القيم الإنسانية، فسيتبيَّن لنا أن هذا العالمَ ليس على ما يُرام اجتماعيا، أخلاقيا، اقتصاديا، بيئيا، سياسيا، جيواسياسيا… أو أن هذا العالمَ يمرُّ من فترة تستوجب إعادة النظر فكريا، ثقافيا ونظريا في العديد من مقوِّماتِه.

ولعل أخطر ما سيوضِّحه لنا هذا المِجهر، هو التَّطاحن والتَّنافس الشرسين القائمين بين إيديولوجيتين متناقضتين تسعى كل واحدة منهما إلى السيطرة على العالم. الإيديولوجيا الأولى تبنَّت الليبرالية فكريا واقتصاديا وتتزعَّهما الولايات المتَّحدة. الإيديولوجيا الثانية تبنَّت الشيوعية/الاشتراكية وبًنت عليها تفكيرَها واقتصادها وتتزعَّمها الصين. وهذان التَّطاحن والتَّنافس، إن كانا، في الواجهة اقتصاديين، فهما في العمق، سياسيان. ولهذا، فكلما اتَّخذت جهةٌ من الجهتين إجراءاتٍ لحماية اقتصادها، كلما اتَّخذت الجهة الثانية إجراءاتٍ مضادة وهكذا. فالصِّراع بين الجهتين قائمٌ على التَّهديدات والتَّهديدات المضادة إلى درجة أن كل جهة تتَّخذ احتياطاتٍ على المستوى العسكري تحسُّبا واستعدادا لأي طارئٍ ميداني قد يحدث بين الطَّرفين. أليس هذا التَّطاحن عنصرا يجعلنا لا نثق في مستقبل العالم ونخاف من ما قد يجرُّه لنا من ويلات!

أما التَّطاحن الثاني الذي سيُوضِّحه لنا مجهر القيم الإنسانية، فهو التَّطاحُن القائم بين عالمين متناقضين فكريا وعقائديا. العالم الأول تبنَّى العِلمانية فكريا وسياسيا ويتزعَّمه الغربُ. العالم الثاني متديِّن بإحدى الأديان السماوية ويتزعَّمه العالم الإسلامي. العالم الأول فصلَ بين الدين والسياسة وتبنى الحداثة كتيار فكري تُعطَى فيه الأولوية للفردُ ولحقوقُه ولقِيَمه. وهذا يعني أن الفردَ هو أساس المجتمع. بل إن هذا العالمَ تخلى عن الخرافات والخُزعبلات التي تُعيق التفكيرَ المسنير والمنطقي. العالم الثاني متشبِّثٌ بالدين (وهذا شيءٌ جميل ومحمود)، لكن الدين الذي أراده علماءُ الدين وفقهاءُه. دين يعتمد على ما قاله السلفُ، أي يعتمد على الماضي وفي تناقضٍ صارخ مع ما يجري في المجتمعات الإسلامية نفسها. العالم الأول يتَّهم العالمَ الثاني بالتَّخلُّف وبالتَّطرُّف وبالعدوانية… بينما العالم الثاني يُكفِّر العالمَ الأول ويتّهمه بالانحلال الأخلاقي والاجتماعي وبالزندقة والفساد… إنه صراع فكري وحضاري وعقائدي. لكنه، من حين لآخر، يؤدي إلى العنف بل إلى القتل والاعتداءات المتبادلة… إنه ضراع عقائدي لكن لا أحد يعرف كيف سينتهي وما هي الأبعاد التي سيتَّخذها مستقبلا علما أن التاريخَ يبيِّن لنا أن الحروبَ قد تندلع لأسباب تافهة. وكيفما كان الحالُ، فإن هذا الصراعَ يُشكِّل تهديدا للمستقبل وخصوصا أن ميزان القوة غير متكافئ ويميل لصالح العالم الأول.

وعلى ذكر التهديد، فإن عالمَنا اليوم يواجه العديدَ من التَّهديدات التي قد تُدخِله في أوضاع لا تُحمد عقباها. تهديدات يمكن أن تكون تكنولوجية، جيوسياسبة أومرتبطة بالأسلحة النووية الفتاكة.

فيما يخصُّ التَّهديد التكنولوجي، لا يخفى على أحد أن الاقتصادَ العالمي، بحكم اعتماده على الطاقات الأحفورية، تسبَّب في تغيُّر المناخ الذي يهدِّد استمرار الحياة على وجه الأرض بما فيها حياة البشر. وكل المحاولات التي يفرضها التَّصدِّي لهذه الكارثة الكونية تكاد تبوء بالفشل نظرا لتشبُّث البلدان المصنَّعة، وعلى رأسها الولايات المتَّحدة والصين، بازدهار ونمو اقتصادها ولو يؤدي هذا النمو، مستقبلا، إلى اختفاء الحياة بجميع أنواعها. وخصوصا أن عواقبَ تغيُّر المناخ باتت واضحة للعيان من جفاف وتصحُّر وفيضانات وحرائق الغابات واختلال دورة الماء واختلال الفصول وتنامي الفقر والتَّهميش والهجرة والأمراض…

على المستوى الجيوسياسي، كل قوة سياسية واقتصادية تريد فرض سيطرتها على العالم، أو على الأقل، على جزء من هذا العالم. المعسكر الغربي،بزعامة الولايات المتحدة، يريد أن يصلَ تفوذُه إلى جوار المعسكر الشرقي. والمعسكر الشرقي، بزعامة روسيا والصين، يرفض، جملةً وتفصيلا، هذا النفوذ ويسعى إلى التَّصدِّي له بكل الوسائل بما فيها الحرب. وخير مثال أسوقه، في هذا الصدد، هو الحرب الروسية الأوكرانية. في الحقيقة، إنها حرب بالوكالة، أي أرادها المعسكر الغربي دون أن يشارك َ فيها مباشرة. أوكرانيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فضَّلت الميول نحو المعسكر الغربي. لكن روسيا ترفض رفضا قاطعا هذا الميول، وخصوصا أن لها حدودا مشتركة مع أوكرانيا. هذا الميول ترى فيه روسيا تهديدا لأمنها واستقرارها. بل إن هذا التَّطاحن الجيوسياسي بين معسكرين قويين يشكل تهديدا للسلم العالمي. بمعنى أنه قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة وخصوصا أنه لا أحد يعرف إلى أين يسير هذا الصراع وكيف سينتهي.

أما فيما يخص الأسلحة النووية، فعدم استعمالها غير مضمون وتبقى دائما خطرا يحلِّق فوق رؤوس البشر. إضافةً إلى القوى العظمى، إسرائيل تملك ترسانة ذرية هائلة ونفس الشيء ينطبق على كوريا الشمالية وربما، بعد فترة وجيزة، إيران. السلاح النووي هو، عادةً، سلاح ردعٍ arme de dissuasion، أي أن امتلاكَه يُقنع الطرفَ الآخرَ للتَّخلِّي عن نواياه العدوانية أو عن مشاريعه الهادفة للهيمنة على الآخر… لكن كون السلاح النووي سلاحَ ردعٍ لا يضمن عدمَ استعماله، وخصوصا، عندما يسقط هذا السلاح بين أيادي متهوِّرة.

من التَّهديدات التي قد تحدث مستقبلا هي حرب الموارد الطبيعية وغلى رأسها الماء. الماء الذي بدونه، لا ذِكرَ للحياة بيولوجيا، اجتماعيا والقتصاديا. وهذا يعني أن البلدان القوية، إن تعرَّضت لأزمة الموارد الطبيعية، لن تتردَّدَ في احتلال بلدان أخرى للحصول على هذه الموارد الطبيعية هي في حاجة لها. وقد حصل، فعلا، هذا الاحتلالً لما كانت أوروبا الغربية في حاجة للمواد الأولية matières premières لدعم ثورتها الصناعية révolution industrielle.

كل ما سبق ذكرُه يجعلنا نقول بأن مستقبلَ العالم غير آمنٍ وغير مُطَمئِن. بل إن هذا المستقبل مخيف، وخصوصا إذا اعتبرنا أن البشريةَ تعرف، في أيامنا هذه، تدهورا مقلِقا للأخلاق morale والأخلاقيات éthique وللقِيم الإنسانية valeurs humaines.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى