خالد جهاد - إذاعة منتصف الليل

منذ مدة كنت أشاهد مع أخي برنامجاً اجتماعياً من إحدى الدول العربية،اندمجت مع الحالة وكالعادة نتناقش في تفاصيل الحالات والأحداث أنا وأخي..وخلال حديثنا تناقشنا في آراء بعض المختصين الذين ناقشوا الحالة بما تمليه عليهم خبرتهم وتخصصاتهم لكنني شعرت ببعض البرود والتحامل منهم على الفئة التي كانوا يتحدثون عنها وحينها قال أخي لي..بكل حياد وبعيداً عن العواطف التي كثيراً ما تضر أكثر مما تنفع بأن آرائهم سديدة..فأنت ترى كل شيء بعينٍ سينمائية..والحياة ليست مجرد سينما..

انتبهت أنني فعلاً كنت أنظر إلى كل ما حولي وكل من حولي على أنه مشروعٌ روائي أو سينمائي، أعادتني هذه الكلمة سنواتٍ إلى الوراء، مع أنني كنت مثقلاً بكل الأخبار التي أراها في فلسطين والدول العربية وباقي العالم، لكنني تذكرت مشاعر كثيرة تداخلت معاً، فرضتها الظروف الحالية في الدول العربية التي تنكأ عدداً من الجروح القديمة التي تتسارع فجأة ً أمام العين كأنها خيولٌ جامحة تفر مسرعةً على غير هدىً بعد أن احتجزت لفترة طويلة، لتنطلق بعدها كما عنوان أحد كتب الأديبة السورية غادة السمان (صفارة إنذار داخل رأسي)، فتحاول إعادة التوازن إلى أفكاري التي تبعثرت مثل بطاقات الورق أو كما تسمى في بلاد الشام (الشدة) أو (الكوتشينة) كما تسمى في مصر، واكتشفت أنني لم أتحدث مع نفسي منذ فترةٍ طويلة لأخرج بعض المشاعر التي أبحث عنها في القبو القابع في داخلي بعدما فتشت داخل عليّتي أيضاً والتي كان يسميها أهلي (السدة) وتسمى في سوريا ب(السقيفة)، وتسمى في بعض الأوساط في مصر ب(السندرة)..

وجدته.. صندوق ٌ كبير به كلماتٌ كثيرة وأغاني وضحكات ودموع وشخير..صور للراحلين..خياناتٌ محبين..هجر..حنين..مكابرة..فرحةٌ مهلهلة مثل عملةٍ ورقية قديمة ومتهالكة..أحلام.. فلسطين..خيبة أمل..أحلام.. فلسطين..
كلها مكسوة بالغبار والأتربة، تتناثر منها العناكب عند فتحها، وقفز جرذٌ صغير بفزع كان يختبىء داخل ذاكرتي فكلت له كل الشتائم لأنه استوطن روحي التي لم أرتبها منذ زمن مع أنني أحب الترتيب وأكره الفوضى، لكن في لحظةٍ ما قلت لنفسي لا داعي للترتيب.. كن عادياً..

جربت احساس الإستماع إلى الراديو الذي أصبح من النادر أن يستمع إليه أحدٌ في منزله بعد منتصف الليل وأن أنتظر..فقط أنتظر..كما كنت أنتظر في الماضي..أن تمر أغنية ٌ أحبها بعفوية دون أن أبحث عنها في الإنترنت، وللصدفة انتهت أغنية كلاسيكية غربية وبدأت بعدها أغنية السيدة فيروز (أهواك بلا أمل)، وكم قفزت وجوهٌ أمام النغمات كالعربة أمام الحصان وتسارعت كخيوطٍ ترتبط ببعضها كالأحاجي..
فرأيت كثيراً من الذين أحببتهم وهجرتهم بإرادتي قبل أن يهجروني، بعدما فرقنا صمتٌ طويل حكى الكثير،وتذكرت اللحظات التي أدرت فيها ظهري ورحلت، وتذكرت صوت صرير الباب وإغلاقه، كما يغلق القبر على جثة حبيب وجسد حب.. فلقد اعتدت أن أدير ظهري لما يؤلمني ومن يؤلمني، انها ربما الجينات..تذكرني ب(حنظلة) أيقونة الطفولة الفلسطينية المعذبة التي تدير ظهرها للحياة، بعدما فعلته الحياة بها..
وتذكرت كل مرة رفضت أن أعيش فيها مغمض العينين والقلب، وكل مرةٍ فضلت فيها حريتي الحقيقية على سعادتي الإفتراضية، وكل مرةٍ سمعت فيها لصوتي الداخلي ورفضت كل الأكاذيب وتمردت عليها فلم أعد أسمح لأحدٍ أن يفكر بالنيابة عني أو أن يصادر عقلي، أو يقنعني بأن أنتمي إلى اليمين أو اليسار لأنني فعلاً لم يعد يقنعني كلاهما، وفضلت التحليق إلى الأعلى بدلاً من تجاذبات ٍ واتجاهاتٍ يقول فيها كل طرفٍ جزءاً من الحقيقة لجذبه اليك لكنه لن يقولها كاملة.. وسيكرهك ان حاولت إظهارها أو السؤال عنها ولن يحتمل حريتك الحقيقية في مقابل (منتجاته الحرة)، فقد بت أعتقد أن كل شيء مثل المتاجر الكبرى معروضٌ للبيع وقرار الشراء مرتبط بقدرتك على الشراء والتعامي والتناسي..

صوتي الذي اعتاد أن يغني بغض النظر عن كونه صالحاً للغناء، اعتاد أيضاً الصمت المدوي الذي يزعج البعض،وأحبوا مقايضته ب (المودة المشروطة) التي تبدو كمسدسٍ كاتمٍ للصوت فوهته موجهةٌ إلى وجداني لتؤجل النهاية لكنها لن تمنعها..
انتهت الأغنية وبدأت أغنية ٌ أخرى لكن أذني حينها لم تلتقط موجة الإذاعة بل التقطت موجتي الخاصة فبدأت أغنية السيدة فيروز (زعلي طول أنا واياك)، وعيني تحدق في الفراغ وتتمنى لو كانت تملك القدرة على التخفي وارتداء ما عرف ب(طاقية الإخفاء) لترى وجوهاً أحببتها وغادرتها دون أن تراني وتعرف أنني أفكر بها، مع أنني قد أسافر إلى الصين كي أتجنب رؤيتها وجهاً لوجه، لا لشيء إلا أن رؤيتها تنبض أمامي تخنق نبضي وأنفاسي بعدما كانت تتنفس بقربها وتنبت لها رئةٌ جديدة كلما رأتها..

ذكرت نفسي بعيوبي كي أتزن قليلاً،وتذكرت بعض الجمل التي قيلت لي منذ سنوات طويلة..
(كدت تقتلنا بفلسطين فماذا لو كنت مقيماً هناك؟..سيأتي ذلك اليوم الذي تتعثر فيه بسبب جبران ومحمود درويش وغادة السمان لأن العالم اللذي تعيش معهم فيه عالم خيالي وليس حقيقياً)..
لم يكونوا على دراية بأنني عندما كنت أشاركهم بحبي لفلسطين كنت أقربهم وأصطفيهم وأختارهم من دون الناس لأنهم الأحب إلى قلبي،وأنني عندما قاسمتهم ذكرياتي قبل رغيفي كنت أعطيهم مفاتيح روحي..فلا أحد يأخذك إلى ذاكرته وذكرياته ووطنه في المخيلة إلا إن كنت عزيزاً يرى في روحك وطناً آخر له وجواز سفر لكلماته وبيتاً لصوته وفراشاً لدموعه،ورحماً قادراً على حمل برائته ونظراته وضحكاته..

أيها البعيدون اعتقدتم أن ما فرقنا هو هفوات الحياة بينما السبب هو فلسطين..فأشجار الليمون في حيفا لن تنبت على شرفة غيابكم، ولم أسمع صوت بحر يافا في حديثكم، رأيتكم وطناً فخنتموه لأنكم خنتم الحب والإيمان والفن والطفولة والأحلام والأزهار والطيور والفجر والدفىء والليل..
ومن يخون كل هذا لن يستطيع أن يحب..ولن يعرف ما معنى فلسطين أو الوطن أو أي وطن..أكتب فعلاً من خلف شاشة هاتفي لكن يدي تشعر بأنها تكتب على الآلة الكاتبة بجوارها هاتفها الأرضي ذو القرص الدائري والذيل الطويل المربوط إلى اللامنتهى..يسمع ضحكتكم رغم الصمت ورغم البعد في كل صباح ٍ ومساء غير عابىءٍ بالوقت ولا بقيود الناس الوهمية..أعيش ذكرياتي وقناعاتي وأرقص مع نفسي..ولا أنسى..

أوشكت الأغنية على الإنتهاء..

صباح ومسا..شي ما بينتسى..
تركت الحب وأخدت الأسى..
لعل وعسى..اترك هالقسى..
ويرجعلي حبي صباح ومسا..
وبس انت..انت وبس..بس انت..انت وبس..بس انت..انت وبس......بس انت وبس..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى