(الجزء الخامس والأخير)
عندما يشيع الاستبدادُ فى مجتمعٍ ويخشى الكُتَّابُ على أنفسهم من عواقب مايكتبون من حقائق فى نقد السلطة ، يلجأُ الماهرون منهم إلى اللا مباشرة
فى الكتابة والتخفِّى خلفَ عوالمَ مُتخيّلة تتوازي فى حقيقة تأويلها مع الواقع ،بمعنى أن ما يريده ليس فى ظاهر القول ، بل فى باطنه ، أو يتوارى خلفه،
هو لايعدم الحيلةَ فى الوصول إلى القارئ بأى كيفية
شاء .
ومن هذه الحيَل ، اتخاذ حياة الحيوانات وسيلة للمرور ، وعلى غرار ماكتبه(بيدبا) الفيلسوف الهندى، الذى لجأ لذات الحيلة لمقاومةِ الطغيان والاستبداد،
استعار الكاتبُ حدوتة من حواديت الأديب ( كامل الكفراوى) التى كتبها للأطفال وكتبها عنه بتصرُّف.
وحتى نصل إلى حقيقة الغرض من التخفّى خلف هذه الحواديت على لسان الحيوانات والتى ابتكرها
كُتاب وفلاسفة ومتصوّفة الشرق ….
فقد ذكر (بهنود بن سحوان)المعروف ب ( على بن الشاه الفارسي) أن السبب الذى من أجله عمل(بيدبا) الفيلسوف الهندى ل(دبلشيم) ملك الهند كتابه"كليلة ودمنة " _نسبةً إلى ثعلبَين شقيقين يقومان بدور
كبير فى أحد أبوابه_ فجعله على ألسُن البهائم
والطيور،ولعلّ الحالة السياسية المضطربة،التى كانت تسود البلاد فى زمن( المنصور )الذي كان يشبه من حيث طغيانه (دبلشيم) ، كانت من الدوافع الكبرى
ل(ابن المقفّع) على ترجمة هذا الكتاب.
كان(بيدبا) رجل فيلسوف من البراهمة يُعرَف بفضلِه ويُرجَع لقوله فى الأمور ، فلما رأى الملك (دبلشيم) وماهو عليه من الظلم للرعية فكّر فى وجه "الحيلة" فى صرفِه عما هو عليه وردِّه إلى العدل والإنصاف. وقال لتلامذته:" ..ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزِمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا أن
كنا فى أنفس الجُهّال أجهلَ منهم…وليس الرأىُ عندى الجلاءَ عن الوطن ، ولايسعنا فى حكومتنا إبقاؤه على ماهو عليه من سوء السيرة وقبيح الطريقة،
ولايمكننا مجاهدته بغير ألسنتِنا ، ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته ، وإن أحسّ منا لمخالفته وإنكارنا سوءَ سيرته كان فى ذلك بوارُنا
(هلاكنا).
وان الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون َ همَّتُه مصروفة
إلى مايُحصِّن نفسَه من نوازل المكروه ، ولواحق
المحذور…على أنّ العاقل قد يبلغ بحيلتِه مالا يبلغ
بالخيل والجنود".
تلك المقدمة وثيقة الصلة بما أقدم عليه الكاتب من حيلة باستعانته بحدوتة من حواديت الاطفال على لسان الحيوانات، يتوارى من خلفها لنقد مايراه فى
واقعه وعصره "تقيّة" ماقد يلاحقه من مخاوف .
واذا استعرضنا مقتطفات من الحدوتة سنصل فى مُجملِها إلى معانٍ عميقة بلاشك فى الطغيان والاستبداد ، وجماعة المتسلقين إلى الحكم بالممر والحيلة والخديعة ، وغير ذلك…
"قال الأسد: الغابةُ يابُنىّ ليس فيها كلاب ، دا ديب
كاسر وبيعوَّر!...
قال الأسد : أيوا ديب،الكلاب ارتضت بالذُلّ، وعاشت مع الإنسان.
وفى حكاية الفار مع الأسد ، مايشير إلى المسكنة واهتبال الفُرص للوصول ..
"واهتبل الفار كرم الأسد، وقال له: أنا حبيبك ياسيّد الغابة،ياملك البَر والوادى ،أنا في عرضك….إن كنت تريد أن تحمينى،قل للغاية كلها إنى أنا تبعك،وكل من فى الغابة يرانى فى ركابك…
(وعلى لسان الأسد ):"هذا هو المعلم فار!هذا ضيفى،
ومن أحبّ الأسد أحبّ ضيفَه…"_(ص١١٨)
هنا انبرى الثعلب المكار….
الفار..المعلّم فار/صاحب الأسنان الحادة/والعيون الجادة/حبيب الأسد/وقارض المسد/المعلم فار..ورقّصنى ياجدع. ___(ص١٢١)
طبالين وزمارين السلطة…
(وعلى لسان الديب):
أنا الديب النيب …. خادم الأسد / وتراب الأسد /وأصحاب الأسد/المعلم فار/أجدع من أجدع نجار/يِحِشّ الخشب من غير منشار....ورقّصنى ياجدع"
___(ص١٢٢)
"ارتاح الفأرُ إلى كرسى الصدارة..
قام الفيل وسيّد قشطة ومَن فى عيارهما وأدًوا التحية، ورحّبوا بالفار.."
"وأراد الأسد أن يسمع الشكر والمديح_شأن الملوك_ من أحد رعاياه ….. فقال ملاطفاً : ياتُرى سُرِرتَ يافار ؟ وردّ الفأرُ المنتشي في عنجهية : معلّم فار ياكلب!
ودُهش الأسد..المُفاجأ بالإجابة،لكنه ضحك ضحكةً
لصقت الفار بطين الغابة….وانتهت أسطورة الفار المغرور،والذي ظنّ أنه امتلك الغابة عندما جاملته
الحيوانات بالتحية والسلام".___(ص١٢٤)
*قال القرد الذى درس على يد أبيه فنّ الدسّ والتدليس(للأسد):
_أنتَ أمّنتنى يامولاى.
_وكلمتى لاتُرَدّ ياابن ميمون.
قال القرد:_ تحملنى كما تحمل أحد أشبالك ، فإذا رأونى منك بمكان الإبن،عشتُ بينهم إبناً لك بالتبنى،
ولايجرؤ علىّ أحد…تتركنى لابصفتي ابن ميمون،بل بصفتى ابنك،أحكمهم ، وأسرد لك أخبارهم،وأجمع لك ضرائبهم…و…(ص١٣٠)
"كان ميمون مُهرّجاّ ملكاً، أما ابن ميمون،فقد نادت به القردة ملكاً مُدبّراً فيلسوفا"__(ص١٣٢)
"والبومة تركت مكمنها،لتلاحقه(أى الأسد)رغم الضوء الذى يغشى عينيها،تصرخ فى طيور السماء: _انظروا عرشاً يتزلزل ، انظروا كيف يحلّ البوار؟"
** إنّ عدم التيقظ واتخاذ الخبثاء والوصوليين والمخادعين أعواناً وبطانة وحاشية تحيط بالحاكم
إنما هو وهَنٌ يصيبه ويبعده مسافات شاسعة عن المحكومين ، ويزلزل عرشه مهما كان قوياً ولايجنى من ورائه سوى سوء العاقبة..إنه تحذير وتنبيه من الكاتب على عدم الانخداع بمثل هؤلاء والتقوِّى
بالمخلصين والعقلاء والمحبين الذين يقدّرون المسئولية وهمهم الاستقرار والازدهار.
فالاسدُ منذ البداية يقول: "القانون يحميهم ، وماأنا بالذى ينقض قانون الغاب"__(ص١٣٠)
بداية موفّقة لملك الغابة،للحاكم الذى يريد أن يحكم بالعدل ، فتحاول حاشيته أن تُحيلَها إلى منصات تجسّس ، وجباية وإرهاق للمواطنين ، فيخفّ وزن الحاكم لدى شعبه بسبب هؤلاء.
لأنَّ النهايةَ الحتمية هى:
قال القاضي: صدقتَ ياحمار..حمار اللى يصدّق إنّ غابة الأسد فيها حرية"___(ص١٥٤).
وذلك بسبب تنازلات الأسد واغتراره بمدّاحين سلطانه والمتمسكنين حتى يصلوا لأغراضهم ،وهو
ما تهوى به عروش الملوك ، وتشيع الفوضى بسببه
والسُّخط الشعبى.
وهكذا استطاع الكاتبُ أن يصل بنا إلى أغراضه من الرواية
عبر عدّة أُطُر ومسارات وحكايات ، وقد نجح فى
تبليغ رسالته فى أسلوب رائع وعبر ثقافته العريضة التى يجب أن يتزوّدَ بها الكتاب ، حيث أنّ سعةَ الثقافة والقدرة على تطويرها لصالح العمل الأدبى ضرورة لاغنى عنها في الكتابة.
كل التحية والتقدير للأديب والروائى/مجدى جعفر
على ما قدمه فى تلك الرواية"ليلة فى حياة كاتب"
مختزلاً فيها ذلك التاريخ الممتد وتلك الأحداث المتنوعة فى شكلٍ جديد تفرّد فيه بتميز واضح.
____________
عندما يشيع الاستبدادُ فى مجتمعٍ ويخشى الكُتَّابُ على أنفسهم من عواقب مايكتبون من حقائق فى نقد السلطة ، يلجأُ الماهرون منهم إلى اللا مباشرة
فى الكتابة والتخفِّى خلفَ عوالمَ مُتخيّلة تتوازي فى حقيقة تأويلها مع الواقع ،بمعنى أن ما يريده ليس فى ظاهر القول ، بل فى باطنه ، أو يتوارى خلفه،
هو لايعدم الحيلةَ فى الوصول إلى القارئ بأى كيفية
شاء .
ومن هذه الحيَل ، اتخاذ حياة الحيوانات وسيلة للمرور ، وعلى غرار ماكتبه(بيدبا) الفيلسوف الهندى، الذى لجأ لذات الحيلة لمقاومةِ الطغيان والاستبداد،
استعار الكاتبُ حدوتة من حواديت الأديب ( كامل الكفراوى) التى كتبها للأطفال وكتبها عنه بتصرُّف.
وحتى نصل إلى حقيقة الغرض من التخفّى خلف هذه الحواديت على لسان الحيوانات والتى ابتكرها
كُتاب وفلاسفة ومتصوّفة الشرق ….
فقد ذكر (بهنود بن سحوان)المعروف ب ( على بن الشاه الفارسي) أن السبب الذى من أجله عمل(بيدبا) الفيلسوف الهندى ل(دبلشيم) ملك الهند كتابه"كليلة ودمنة " _نسبةً إلى ثعلبَين شقيقين يقومان بدور
كبير فى أحد أبوابه_ فجعله على ألسُن البهائم
والطيور،ولعلّ الحالة السياسية المضطربة،التى كانت تسود البلاد فى زمن( المنصور )الذي كان يشبه من حيث طغيانه (دبلشيم) ، كانت من الدوافع الكبرى
ل(ابن المقفّع) على ترجمة هذا الكتاب.
كان(بيدبا) رجل فيلسوف من البراهمة يُعرَف بفضلِه ويُرجَع لقوله فى الأمور ، فلما رأى الملك (دبلشيم) وماهو عليه من الظلم للرعية فكّر فى وجه "الحيلة" فى صرفِه عما هو عليه وردِّه إلى العدل والإنصاف. وقال لتلامذته:" ..ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزِمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا أن
كنا فى أنفس الجُهّال أجهلَ منهم…وليس الرأىُ عندى الجلاءَ عن الوطن ، ولايسعنا فى حكومتنا إبقاؤه على ماهو عليه من سوء السيرة وقبيح الطريقة،
ولايمكننا مجاهدته بغير ألسنتِنا ، ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته ، وإن أحسّ منا لمخالفته وإنكارنا سوءَ سيرته كان فى ذلك بوارُنا
(هلاكنا).
وان الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون َ همَّتُه مصروفة
إلى مايُحصِّن نفسَه من نوازل المكروه ، ولواحق
المحذور…على أنّ العاقل قد يبلغ بحيلتِه مالا يبلغ
بالخيل والجنود".
تلك المقدمة وثيقة الصلة بما أقدم عليه الكاتب من حيلة باستعانته بحدوتة من حواديت الاطفال على لسان الحيوانات، يتوارى من خلفها لنقد مايراه فى
واقعه وعصره "تقيّة" ماقد يلاحقه من مخاوف .
واذا استعرضنا مقتطفات من الحدوتة سنصل فى مُجملِها إلى معانٍ عميقة بلاشك فى الطغيان والاستبداد ، وجماعة المتسلقين إلى الحكم بالممر والحيلة والخديعة ، وغير ذلك…
"قال الأسد: الغابةُ يابُنىّ ليس فيها كلاب ، دا ديب
كاسر وبيعوَّر!...
قال الأسد : أيوا ديب،الكلاب ارتضت بالذُلّ، وعاشت مع الإنسان.
وفى حكاية الفار مع الأسد ، مايشير إلى المسكنة واهتبال الفُرص للوصول ..
"واهتبل الفار كرم الأسد، وقال له: أنا حبيبك ياسيّد الغابة،ياملك البَر والوادى ،أنا في عرضك….إن كنت تريد أن تحمينى،قل للغاية كلها إنى أنا تبعك،وكل من فى الغابة يرانى فى ركابك…
(وعلى لسان الأسد ):"هذا هو المعلم فار!هذا ضيفى،
ومن أحبّ الأسد أحبّ ضيفَه…"_(ص١١٨)
هنا انبرى الثعلب المكار….
الفار..المعلّم فار/صاحب الأسنان الحادة/والعيون الجادة/حبيب الأسد/وقارض المسد/المعلم فار..ورقّصنى ياجدع. ___(ص١٢١)
طبالين وزمارين السلطة…
(وعلى لسان الديب):
أنا الديب النيب …. خادم الأسد / وتراب الأسد /وأصحاب الأسد/المعلم فار/أجدع من أجدع نجار/يِحِشّ الخشب من غير منشار....ورقّصنى ياجدع"
___(ص١٢٢)
"ارتاح الفأرُ إلى كرسى الصدارة..
قام الفيل وسيّد قشطة ومَن فى عيارهما وأدًوا التحية، ورحّبوا بالفار.."
"وأراد الأسد أن يسمع الشكر والمديح_شأن الملوك_ من أحد رعاياه ….. فقال ملاطفاً : ياتُرى سُرِرتَ يافار ؟ وردّ الفأرُ المنتشي في عنجهية : معلّم فار ياكلب!
ودُهش الأسد..المُفاجأ بالإجابة،لكنه ضحك ضحكةً
لصقت الفار بطين الغابة….وانتهت أسطورة الفار المغرور،والذي ظنّ أنه امتلك الغابة عندما جاملته
الحيوانات بالتحية والسلام".___(ص١٢٤)
*قال القرد الذى درس على يد أبيه فنّ الدسّ والتدليس(للأسد):
_أنتَ أمّنتنى يامولاى.
_وكلمتى لاتُرَدّ ياابن ميمون.
قال القرد:_ تحملنى كما تحمل أحد أشبالك ، فإذا رأونى منك بمكان الإبن،عشتُ بينهم إبناً لك بالتبنى،
ولايجرؤ علىّ أحد…تتركنى لابصفتي ابن ميمون،بل بصفتى ابنك،أحكمهم ، وأسرد لك أخبارهم،وأجمع لك ضرائبهم…و…(ص١٣٠)
"كان ميمون مُهرّجاّ ملكاً، أما ابن ميمون،فقد نادت به القردة ملكاً مُدبّراً فيلسوفا"__(ص١٣٢)
"والبومة تركت مكمنها،لتلاحقه(أى الأسد)رغم الضوء الذى يغشى عينيها،تصرخ فى طيور السماء: _انظروا عرشاً يتزلزل ، انظروا كيف يحلّ البوار؟"
** إنّ عدم التيقظ واتخاذ الخبثاء والوصوليين والمخادعين أعواناً وبطانة وحاشية تحيط بالحاكم
إنما هو وهَنٌ يصيبه ويبعده مسافات شاسعة عن المحكومين ، ويزلزل عرشه مهما كان قوياً ولايجنى من ورائه سوى سوء العاقبة..إنه تحذير وتنبيه من الكاتب على عدم الانخداع بمثل هؤلاء والتقوِّى
بالمخلصين والعقلاء والمحبين الذين يقدّرون المسئولية وهمهم الاستقرار والازدهار.
فالاسدُ منذ البداية يقول: "القانون يحميهم ، وماأنا بالذى ينقض قانون الغاب"__(ص١٣٠)
بداية موفّقة لملك الغابة،للحاكم الذى يريد أن يحكم بالعدل ، فتحاول حاشيته أن تُحيلَها إلى منصات تجسّس ، وجباية وإرهاق للمواطنين ، فيخفّ وزن الحاكم لدى شعبه بسبب هؤلاء.
لأنَّ النهايةَ الحتمية هى:
قال القاضي: صدقتَ ياحمار..حمار اللى يصدّق إنّ غابة الأسد فيها حرية"___(ص١٥٤).
وذلك بسبب تنازلات الأسد واغتراره بمدّاحين سلطانه والمتمسكنين حتى يصلوا لأغراضهم ،وهو
ما تهوى به عروش الملوك ، وتشيع الفوضى بسببه
والسُّخط الشعبى.
وهكذا استطاع الكاتبُ أن يصل بنا إلى أغراضه من الرواية
عبر عدّة أُطُر ومسارات وحكايات ، وقد نجح فى
تبليغ رسالته فى أسلوب رائع وعبر ثقافته العريضة التى يجب أن يتزوّدَ بها الكتاب ، حيث أنّ سعةَ الثقافة والقدرة على تطويرها لصالح العمل الأدبى ضرورة لاغنى عنها في الكتابة.
كل التحية والتقدير للأديب والروائى/مجدى جعفر
على ما قدمه فى تلك الرواية"ليلة فى حياة كاتب"
مختزلاً فيها ذلك التاريخ الممتد وتلك الأحداث المتنوعة فى شكلٍ جديد تفرّد فيه بتميز واضح.
____________