١٥ أيار/مايو/ ماي ١٩٤٨- ١٥ أيار/ مايو/ ماي ٢٠٢٣..
لم تخلق كل الأصوات لتسمع.. فبعضها يختنق في حناجر أصحابها رغم ارتفاعه وحدة نبرته، والبعض الآخر يصل إلى القلوب قبل أن تنطلق صرخته، أما صوتي فكان أشبه بصدى سقوط إبرةٍ في فراغٍ مظلم.. ما من دليلٍ يؤكد وجودها أو ينفيه، صوتٌ مغلف بالكثير من الأوراق.. أوراق الشجر وأوراق الجدران وأوراق الدفاتر والأوراق الثبوتية التي تخلو من أية معلومة لكن صورتي تتوسطها بوضوح، مختبأةً بين السطور وبصمات الأصابع ورائحة الأيام التي علقت بها، كان الإختباء لعبتي المفضلة التي لا زلت أتقنها، لكن الزمن غير من طريقتها، لاعبيها، مكانها وهدفها وحتى نهايتها، وبات لها في القلب معنىً لا يشبه ذاك الذي ألفه الناس، فمن الصعب على البشر أن يفهموا ما لا تبوح به الأنفس ولا تراه الأعين و(يختبأ) خلف قناعٍ يليه آخر إلى ما لا نهاية.. خوفاً من الوصول إلى النهاية فتنتهي (اللعبة) وربما الحياة مغلفةً بشريطٍ حريري..كهديةٍ لا مرئية وأسطوانةٍ موسيقية فارغة مصحوبةً بإهداءٍ مؤثر إلى جلالة الصمت..
الصمت عن الكثير من المشاعر التي مضى العمر دون أن نملك القدرة على البوح بها أو التعبير عنها من جيلٍ إلى جيل، في رحاب غربةٍ باتت وحدها ما نألفه في هذا الكون، على ضفاف دمعةٍ اتسعت لتحمل مراكبنا التي تاهت كقلبٍ غادره الأمان منذ زمن وعجزت كل لغات العالم عن ترجمة إحساسه، ذلك المزيج من الخوف والرجاء والترقب والإنطفاء والبحث العبثي عن خيطٍ يصله بالماضي، بجذوره، بوجوده، بكيانه كإنسان لا يملك تفسيراً لرحلته وأسفاره من روحٍ إلى أخرى يلتقي فيها الميلاد بالنكبة والغياب، وترتسم على ملامحها فصول حكايةٍ لا ترضي (مزاج) المتفرجين ولا تقدم لهم سوى بعضاً من الحقيقة التي يكرهونها أو ينكرونها متصلةً بنهايةٍ واقعية بعيداً عن السعادة أو الحزن كغناء النوارس عند الغروب وسرد الأجداد لذكرياتهم عن وطنٍ سمعنا عنه ولم نره إلاّ من وراء ستار، وكان حبنا له كفيلاً بإبتعاد الكثيرين عنا كمن يبتعد عن مشبوهٍ أو مريض.. يصطنع الإبتسامة في وجهه كما الكلمات..
فالحياة مع الناس لا تختلف كثيراً عن الحياة على قاربٍ في عرض البحر.. يتقلب بركابه بين الأمواج والأهواء، ولا نميز بين قبحه وجماله إلا بعد الغوص في أعماقه بكل ما يحمله هذا الغوص من مخاطر لا تشبه رقة الأصداف على الشاطئ، فنعيش معهم وبهم من لجوءٍ إلى لجوء قد لا تداوي جراحه سوى العزلة والبحث في ثنايا الروح والتنقل بين منازلها.. خلف زجاجها الشفاف والقابل للكسر على أنغام مقطوعة العتمة والصمت، في حالةٍ من الهمس إلى الذات كلما جن الليل، فأتلمس جدراني، أعد نوافذي، أطالع سقفي، أوصد بابي أكثر من مرة، وأحادث أصدقائي من الطيور في سهراتي السرية التي لا يعلم البشر عنها شيئاً، أحدثهم عن فلسطين فيصغون بإهتمامٍ بالغ ويسألونني هل من مكانٍ للطيور فيها بعد كل ما حدث.. فأبتسم وأعدهم بالكثير من الهدايا، وأخبرهم بأننا سنعود قريباً حيث ينتظرهم الكثير من الأطفال..
أولئك الذين لم يلعبوا هناك، لم يركضوا، لم يفرحوا، لم يعرفوا مكانهم، أولئك الذين طاردوا فقاعات الصابون وأزهار السوسن حتى لامسوا الغيوم وعانقوا أرواح آبائهم وأجدادهم وضحكوا في أحضانهم حتى ناموا، واستفاقوا على غدٍ مشرق وكأن حزناً لم يكن، وكأن البحر ابتلع الوحوش ولم يعد لهم من أثر، وكأن الغرباء لم يطؤوا هذه الأرض ولم يأخذوا معهم الحلم والفجر، وكأن النكبة سراب والحرب وهم.. نامي أيتها الطيور لنصحوا كأطفالٍ لا تخاف من الشمس في صباح العيد..
خالد جهاد..
لم تخلق كل الأصوات لتسمع.. فبعضها يختنق في حناجر أصحابها رغم ارتفاعه وحدة نبرته، والبعض الآخر يصل إلى القلوب قبل أن تنطلق صرخته، أما صوتي فكان أشبه بصدى سقوط إبرةٍ في فراغٍ مظلم.. ما من دليلٍ يؤكد وجودها أو ينفيه، صوتٌ مغلف بالكثير من الأوراق.. أوراق الشجر وأوراق الجدران وأوراق الدفاتر والأوراق الثبوتية التي تخلو من أية معلومة لكن صورتي تتوسطها بوضوح، مختبأةً بين السطور وبصمات الأصابع ورائحة الأيام التي علقت بها، كان الإختباء لعبتي المفضلة التي لا زلت أتقنها، لكن الزمن غير من طريقتها، لاعبيها، مكانها وهدفها وحتى نهايتها، وبات لها في القلب معنىً لا يشبه ذاك الذي ألفه الناس، فمن الصعب على البشر أن يفهموا ما لا تبوح به الأنفس ولا تراه الأعين و(يختبأ) خلف قناعٍ يليه آخر إلى ما لا نهاية.. خوفاً من الوصول إلى النهاية فتنتهي (اللعبة) وربما الحياة مغلفةً بشريطٍ حريري..كهديةٍ لا مرئية وأسطوانةٍ موسيقية فارغة مصحوبةً بإهداءٍ مؤثر إلى جلالة الصمت..
الصمت عن الكثير من المشاعر التي مضى العمر دون أن نملك القدرة على البوح بها أو التعبير عنها من جيلٍ إلى جيل، في رحاب غربةٍ باتت وحدها ما نألفه في هذا الكون، على ضفاف دمعةٍ اتسعت لتحمل مراكبنا التي تاهت كقلبٍ غادره الأمان منذ زمن وعجزت كل لغات العالم عن ترجمة إحساسه، ذلك المزيج من الخوف والرجاء والترقب والإنطفاء والبحث العبثي عن خيطٍ يصله بالماضي، بجذوره، بوجوده، بكيانه كإنسان لا يملك تفسيراً لرحلته وأسفاره من روحٍ إلى أخرى يلتقي فيها الميلاد بالنكبة والغياب، وترتسم على ملامحها فصول حكايةٍ لا ترضي (مزاج) المتفرجين ولا تقدم لهم سوى بعضاً من الحقيقة التي يكرهونها أو ينكرونها متصلةً بنهايةٍ واقعية بعيداً عن السعادة أو الحزن كغناء النوارس عند الغروب وسرد الأجداد لذكرياتهم عن وطنٍ سمعنا عنه ولم نره إلاّ من وراء ستار، وكان حبنا له كفيلاً بإبتعاد الكثيرين عنا كمن يبتعد عن مشبوهٍ أو مريض.. يصطنع الإبتسامة في وجهه كما الكلمات..
فالحياة مع الناس لا تختلف كثيراً عن الحياة على قاربٍ في عرض البحر.. يتقلب بركابه بين الأمواج والأهواء، ولا نميز بين قبحه وجماله إلا بعد الغوص في أعماقه بكل ما يحمله هذا الغوص من مخاطر لا تشبه رقة الأصداف على الشاطئ، فنعيش معهم وبهم من لجوءٍ إلى لجوء قد لا تداوي جراحه سوى العزلة والبحث في ثنايا الروح والتنقل بين منازلها.. خلف زجاجها الشفاف والقابل للكسر على أنغام مقطوعة العتمة والصمت، في حالةٍ من الهمس إلى الذات كلما جن الليل، فأتلمس جدراني، أعد نوافذي، أطالع سقفي، أوصد بابي أكثر من مرة، وأحادث أصدقائي من الطيور في سهراتي السرية التي لا يعلم البشر عنها شيئاً، أحدثهم عن فلسطين فيصغون بإهتمامٍ بالغ ويسألونني هل من مكانٍ للطيور فيها بعد كل ما حدث.. فأبتسم وأعدهم بالكثير من الهدايا، وأخبرهم بأننا سنعود قريباً حيث ينتظرهم الكثير من الأطفال..
أولئك الذين لم يلعبوا هناك، لم يركضوا، لم يفرحوا، لم يعرفوا مكانهم، أولئك الذين طاردوا فقاعات الصابون وأزهار السوسن حتى لامسوا الغيوم وعانقوا أرواح آبائهم وأجدادهم وضحكوا في أحضانهم حتى ناموا، واستفاقوا على غدٍ مشرق وكأن حزناً لم يكن، وكأن البحر ابتلع الوحوش ولم يعد لهم من أثر، وكأن الغرباء لم يطؤوا هذه الأرض ولم يأخذوا معهم الحلم والفجر، وكأن النكبة سراب والحرب وهم.. نامي أيتها الطيور لنصحوا كأطفالٍ لا تخاف من الشمس في صباح العيد..
خالد جهاد..