د. كاميليا عبدالفتاح - الحداثة الغربية: قراءةٌ في الحراك التاريخي وعوامل الظهور

•*** لم تكن الحداثة حركة فردية أو مذهبية ضيقة النطاق ، بل كانت حركة تاريخية تراكمية أدت إليها تحولات جذرية شاملة على مختلف الأصعدة في المجتمع الغربي.
بدأت هذه التراكمات حراكها منذ العصور الوسطى ، أمّا عصرُ النهضة فقد حمل تغييراتٍ جذرية بانتقال المجتمع الغربي من المرحلة الزراعية إلى المرحلة المدنية ، متحولا من كتلة الإقطاعيين والنبلاء إلى الكتلة البرجوازية بمثقفيها البارزين، وبدأت الكشوف العلمية والفلسفية تتوالى مؤثرة في العقل الغربي لتحول مفهومه ونظرته تحوّلا جذريا كُليًّا إلى مطلق الوجود.
على رأس هذه الكشوف المنهجُ التجريبي الحديثُ الذي طرحه فرانسيس بيكون - و زعزع به المذهب الأرسطي بمنهجه الصوري - بما نقل العقلَ الغربيَّ من التجريد إلى العقلانية ، و المنهجُ العقلاني الذي أسّسه ديكارت الذي كان أولَ من طرح إشكالية العقل وقدرته على التحصيل المعرفي .
و يتبعُ هذه الكشوف معارضةُ " هيوم " مبدأ العلِّية أو السببية الذي قام عليه فكرُ نيوتن في كتابه المهم "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" - الذي فسّر من خلاله الظواهر الطبيعية للكون تفسيراً سببياً - فعارضه هيوم بفلسفته التشكيكية محجِّمًا دور العقل في تحصيل المعرفة وإدراك محيط الكون، واصفاً علّيّة " نيوتن " بأنها مجرد عادة تعبرُ عن حاجة الروح إلى ربط الصور والأحداث والمظاهر، وبذلك أخرج الفلسفة السببيّة من دائرة النظرية العلمية إلى دائرة الألفة والعاطفة.
وقد تأثر بعض الفلاسفة بفكر هيوم الجديد، فأعلن "كانط" أن المعرفة البشرية محدودة لا تتجاوز ما تقدمه إليها التجربةُ العلمية الملموسة ولا تستطيع أن تتخطاها، وأنّ كل ما عدا هذه المعرفة وهم كبير، و تأثرّ العقلُ الغربي – آنئذٍ - بفلسفة " ديكارت " ، التي أفاضَ في شرحها في مؤلفاته : "نقد العقل الخالص" "نقد العقل العلمي" "نقد ملكة التمييز" ، واعتبر كانط بهذه الفلسفة إمام الحداثة الفلسفية في القرن الثامن عشر الميلادي، ومن أهمّ المساهمين في بناء المناخ العقلاني الذي ميّز العقل الغربي .
كما أسهم هيجل في تأسيس العقلانية الغربية ، من خلال ما قدمه في فلسفة التاريخ ، فقد "طبع الفكرَ الغربي بطابعه إلى حد كبير ، فسادتْ نظريتُه في انبثاق الفكر – كبناء فوقي- من الواقع- كبناء تحتي... ، فالصور والأخيلة إنما هي بنتُ عصرها ، فإذا دعا التطورُ هذا العصرَ إلى أن يُخلي مكانه لعصر جديد، فلابد وأن تُخْلي هذه الصورُ والأخيلةُ والأفكارُ مكانها لأخرى منبثقة من العصر الجديد"( ) . و أثّر هذا المبدأُ إلى حدِ أنْ صارَ ، فيما بعد ، جوهرَ الحركة الحداثية.
فتحتْ هذه الأفكارُ العقلانية البابَ أمام إمكانيّة التغيير من خلال تحطيم الماضي أو إلغائه ، وصولًا إلى هدم الأسقف الماورائية ، فالزمن في منظور هذا المنهج الفكري ليس زمناً تراتبياً بل انبثاقياً، ومن ثم اعتبرت نظرية هيجل أنّ التغيير "بمثابة المطلق، ولم تعطِ الانتباه الكافي لعناصر الثبات التي تظل قائمة فاعلة رغم تغيير الواقع المادي ، والتي تحفظ على المسيرة الحضارية رغم التطور – وحدتها وخصوصيتها كما تحفظ البصمةُ على الإنسان تفردَه وتميزَه رغم ما يتغير فيه عبر مسيرته من الولادة إلى الممات"( ) واعتبرت هذه المغالاة في الفكر الهيجلي والفلسفات العقلانية عامة- رد فعل طبيعي على مغالاة الكنيسة في الجمود والتحجر الفكريين والإصرار على الهيمنة على شئون الحياة والممات إلى حد اعتُبِرتْ معه المسئول الأول عن تخلف الغرب الأوروبي في العصور الوسطى بعد أن مارست الحكم الإلهي – كما ذكر ديورانت- بالماء أو القتال أو النار، و من هنا كان هجومُ أصحاب الكشوف العلمية والمباحث الفلسفية مُغاليا في في المطالبة بالانعتاق من هذه السُّلطةِ شرطًا أساسًا لحرية الفرد وتطور المجتمع . من خلال هذا انتقلَ المجتمع الغربي من الفكر التحرري إلى العقلانية ، ومن العقلية الميتافيزيقية إلى الظاهرية العملية - التي ترتكزُ على تبني الملاحظة واكتشاف العلاقة بين الظواهر - ومن عقلية الإصلاح الكاثوليكي المحافظ و روح الإحياء الإنساني إلى العقلية التنويرية الثائرة .
ومثلما صارت العقلانية نواة كثير من الفلسفات والأيديولوجيات، كالفكر المادي، والشك الديكارتي والفكر العلماني والشيوعية ، صارت النزعةُ الإنسانيةُ نواة كثير من المذاهب والفلسفات ، كالرومانسية والوجودية و الحداثة ، ممّا برز بوضوحٍ -في هذه الفترة – في بعض الكتابات الأدبية التي اتّسمت بوضوح النزعة الفردية والرغبة في التخلص من سلطة المجتمع ووصايته .
وقد اعْتُبر كتابُ " "الأدب وعلاقته بالمؤسسات الاجتماعية" لمدام دي ستايل في هذا السياق – عام 1800م - من بين مكونات القيم الحداثة لاحتفائه بالخصوصية الثقافية ، والهوية القومية ، كما كان للقصة الفلسفية - التي ازدهت على يد مونتسكيو وديدرو وفولتير - دورها المهم في بث قيم التنوير و التسامح الديني وازدراء التعصب .
رأي مُغاير يطرحُه فريقٌ آخر ، هو تأريخ الزمن الفعلي للحداثة الغربية بأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، أمّا الشاعرُ الأمريكي ألن تيت " فيؤرخ لها بعام 1956م متفقاً في ذلك مع مزاعم شعراء الجيل الثائر في أمريكا والمعروف بـ البيتس"( ) وهم رواد الهيبز أيضاً ، فمما يدخل في نطاق ثورتهم اعتبار ما قبل 1956م عصراً قديماً تقليدياً لا يستثنون من ذلك إلا بعض الشعراء المُبشِّرين بالحداثة في أواخر العشرينيات مثل هارت كرين.
وقد حملت الفترة الزمنية ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كثيراً من التحولات في مجال العلوم والفلسفات والنظريات العلمية التي أدت إلى زعزعة إيمان العقل الغربي بالقيم المطلقة ، فقد كان "لظاهرة حلول العلوم الإنسانية الحديثة محل الفلسفات التقليدية القديمة تأثيرها المدمر بفقدان الإحساس بأي ثبات في الكون، "( ) ، وقد تراكم هذا الإحساس بالضياع بتوالي الكشوف الفلسفية والفكرية الجديدة التي قدّمها بعضُ العلماء والمفكرين للمجتمع الإنساني ، وعلى رأسهم آينشتين (الذي هدم إحساس البشر بنظام الكون ومحدوديته، وأنهى إدراك الإنسان بأهمية كوكب الأرض)( ) وكارل ماركس الذي أسهم بنظريته الاشتراكية في هدم الإحساس بثبات مؤسسات المجتمع الدينية والخلقية"( ) ، كما شارك فرويد في هدم الثوابت الثقافية والمعرفية بكتاباته عن النفس الإنسانية التي منحت المعرفة الصادمة الكاشفة عن النفس الإنسانية وصراعاتها التي جسدت الفوضى داخل الإنسان( ).
وقد أفضت جهود " السير جيمس فريزر" في عالم الميثولوجيا إلى كشف النقاب عن المرحلة البدائية من تاريخ الإنسان ، فكان كتابُه "الغصن الذهبي" حدثاً هاماً في الوسط الثقافي ، وجّهَ كثيرًا من الأدباء والشعراء والفنانين إلى استلهام المناخ الأسطوري والرمزي في التعبير عن الحنين إلى تلك المنطقة النائية من التاريخ – والتكوين - الإنساني التي أدهشتْ ببكارتها وتميزها .
واكبَ هذا المناخ الشكّي - والكشفي غير المسبوق - توجُّهُ كثير من المذاهب والحركات الأدبية والفنية إلى رفض السلطة الماضوية والحقائق المطلقة ، على رأس هذه المذاهب: المستقبلية والتصويرية والانطباعية والسوريالية، والطليعية التي أكّدَ روادها " ضرورة مواجهة قوى الركود وطغيان الماضي، وطرق التفكير التي تجعل التقاليد قيوداً( ). وسط هذه المناخات القلِقة الشكّية ظهرت مجموعة رائدة من الأعمال الأدبية الفارقة ، مثل "رواية لورنس: نساء عاشقات 1920م وقصيدة الأرض الخراب لإليوت 1922م، ورواية فور ستر: الطريق إلى الهند 1924م"( ).
واجه العقلُ الغربي مأزقًا حقيقيا عند اندلاع الحرب العالمية التي كشفت له قبح المجتمع الذي ينتمي إليه ، وكشفت زيف مبادئه ، والهوة بين ممارساته الوحشية النابعة من الهوس بالذات والعنصرية والنرجسية والبدائية ، وبين مثاليات أفكاره النظرية ، وقد أثرت هذه المفارقات المفجعة في توجهات الأدب وموضوعاته ، فقد "تجمعت أعداد كبيرة من الأدباء في باريس في هذا العقد (بداية الثلاثينيات) ممن أعلنوا رفضهم لقيم الحضارة الغربية التي كشفت عن وجهها القبيح في الحرب وفي القسوة على العمال في المجتمعات الصناعية الناشئة، وفي التنكيل بالشعوب المستعمرة بالعالم الثالث... فنادوا برفض القيم الإنسانية لهذا المجتمع وهذه الحضارة، ثم حاولوا البحث عن قيم جديدة تناسب حضارة إنسانية حقيقية وسليمة"( )
وسط هذه الأجواء من الضياع والاضطراب قدّمت الوجودية نفسها مُخلّصًا ، من خلال شعارها الأساس الذي يؤكدُ قدرة الإنسان على الظفر بولادة جديدة ، ومواجهة أقداره ، فكان قولُها " الوجود يسبقُ الماهية " أملا وسط هذا الصخب ، وكانت بشقيها الإيماني –الذي ترأسه كيركجارد- والإلحادي الذي علا فيه صوت مارتن هيدجر بنزعته القلقة ، وكامي بإحساسه العبثي ، تفرض جاذبيتها على هذا المناخ الجديد، وتستقطب الكثيرين ممن فقدوا الشعور بالأمان والإيمان بالثوابت، و رأوا في الخلاص الفردي الطريق الوحيد للنجاة، متوهمين إمكانية خلق الماهية من العدم وإنقاذها من الخراب المحيط .
وقد انسجم حرص الوجودية على الماهيّة مع حرص الحداثة على الذات الفردية ، كما التقتْ كل منهما بالأخرى عند غاية الفنّ ،كما نبّهتنا " سوزان برنار " من خلال إشارتها إلى غاية الفن عند أندريه مالرو التي تبرزُ في قيم التمرد والثورة ذاتها التي تتبنّاها وتدعو إليها الحداثة " يحاول التاريخُ أن يحول المصيرَ إلى وعي، ويحاول الفن أن يحول الوعي إلى حرية – يقول مالرو- ويخلده ببقائه بعد موته، لكن يبدو أن هذه الرغبة أصبحت أكثر عمقاً ولهفة في عالمنا الحديث المكرس للامعقول حيث تتحول الفتوحات التقنية عوامل بربرية ويكف الإيمان عن المجيء، كما في الزمان الغابر، حاملاً للبشر الوعد بحياة خالدة، وأكثر من أي وقت مضى، يشعر الفنان بأنه على خلاف مع العالم الذي ألْقِي فيه أكثر من أي وقت مضى إلى أن يصنع من الشعر وسيلة تمرد وتحرر"( ).
لقد شكّلَ الانسجامُ بين المبادئ الفلسفية والاجتماعية والسياسية والكشوف العلمية منظومة دفعت إلى ظهور الحداثة وتسيّدها فكريا وإبداعيا في المجتمع الغربي ، حيث "إن الثقافة لا تُفهم إلا باعتبارها مظهراً للوعي الذي يستوعب الإنسان من خلاله "فردًا وجماعة" العالمَ ويفهمه ويجعله شفافاً ، أي قابلاً للتمثيل في الذهن ، ولا تفهم أيضًا إلا باعتبارها استجابة لواقع موضوعي.. بيد أن هذا الوعي وذك الواقع لا يخلقان ثقافة إلا عبر المجتمع و الجماعة.. باعتبارهما صيرورة تاريخية"( ) ، بما يؤكدُ أنّ التحول المجتمعي لا يحدثُ إلّا بدفع عوامل كبرى ، وتحريض منظومة كاملة من المتغيرات ، وهذا الدفع هو قصة الحداثة .

بقلم د. كاميليا عبد الفتاح
أستاذ الأدب والنقد المساعد ، جامعة الباحة ، سابقا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى