هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
كان الأجدر بـ»كيم جونغ أون»، « ترامب»و»بوتين» الاتفاق منذ زمن بعيد حول ساعة صفرٍ واحدة يضغطون فيها ثلاثتهم على ما تيسر مِن أزرارِ قنابلَ نووية، لو كنت مكانهم لفعلتُ دونما تردد ولا تهديد ولا لغط ليس يفضي سوى إلى الاستسخاف والتندر على أصحابه. لكنني مجرد كاتبة عاطفية بلهاء من دول العالم «النامي»، تؤمن بخلودها وتحققها في النزوات العابرة، وطبعا أقصى ما يمكن أن يُسمح لها به هو الضغط على زر إنذار الطوارئ في أحد المصاعد أو في أحسن الأحوال الضغط على أزرار قنابل زمنية في فيلم مليء بالخدع السينمائية.
العالم في حاجة إلى الخلاص، إلى مُخلِّصٍ حقيقي، وليس إلى مجموعةِ حمقى يُهيأُ إليهم أن خلاصهم الجزئي أو الكلي يكون في التخلص من غيرهم عبر حروب طاحنة متتالية للدفاع عن فكرة أو موقف أو حقيقةٍ تُقنعهم أنها ميالة إليهم أكثر من غيرهم. كم أَودُّ أن يفهم هؤلاء الأغبياء أن الخلاص يكون في موتٍ واحد في آن واحد، لأننا جميعا في النهاية إنسان واحد أو لأَقُلْ دمية واحدة وليس دمى متعددة، جميعنا مربوطون بخيوط، كل واحد فينا يمسك مقصه ويحاول أن يقطع خيط غيرِه عوض أن نتفق على قَطع خيوطنا دفعة واحدة بأيادينا.
لم أعش للأسف أي معركة عسكرية أو حرب، نعم أقول للأسف، لأن من يعيشون الحروب الدموية كالمحكوم عليهم بالإعدام يتخلصون من جذام الأمل ومن طاعون الأحلام وعندئذ فقط يصيرون أحرارا بحق.
ربما لم أكن محظوظة بمعاصرة أي حرب، غير إنني كنت أقل حظا، ومثلي كثر، بالتقاتل مع حروب صغيرة منهكة ومتواصلة، هي الأكثر حقارة وبشاعة بالنسبة إلي، الفسحة أو الهدنة بين حروبنا الشخصية تجعلنا نتمسك بالأمل ولا نطيق التفاوض مع الألم. ونعم، كنتُ أقل حظاً أيضا بالتعرف على بعض الناجين من حروب مخيفة في بلدانهم،شَوهت الحرب أرواحهم وحكمت عليهم بتعاسة أبدية، حولتهم إلى كائنات تخترع قشوراً جديدة لجروحها القديمة العميقة، وتنتزعها عند كل محاولةٍ من الحياة اختراقها.. كائنات تتوجس من السعادة، ولا يناسبها أكثرَ من أن تَمر السعادة بمحاذاتها لكن دون أن تراها أو تقترب منها.. كائنات غير آمنة تَعتبر كل من تصادفه مكاناَ غير آمن كذلك. مجرد تخيل كون هؤلاء الأشخاص الحاملين لِنُدبٍ غائرة من حروب عاشوها إضافة إلى نُدبِ معاركهم وأحزانهم الخاصة مرعب. هم ألغام وقنابل عنقودية تتفجر فيك دون كثير مقاومة ولا تفكير. فتجد نفسك تعيش حروبهم المزدوجة وحروبك الشخصية، ببساطة، ضحايا يصنعون ضحايا. وبالتالي لا أحد ينجو من الحرب حتى وإن لم يكن طرفاً منها في السابق فيحدث ذلك لاحقاً. لا أحد نجا، ولا أحد سينجو من الحرب مهما كان بعيداً عنها.
منذ كنت طالبة في الجامعة إبان حرب أمريكا على العراق وأنا لا أتابع الحرب ولا مستجداتها، أهرب من الأخبار ومن فيديوهات أكوام الرؤوس المجزوزة، والحياة مُدبِّرٌ جيد ولئيم قادر على أن يلهيك ويشغلك عن سواك.
قد يبدو الأمر غريباً ومجنوناً، لكنني مع بداية واستعار حرب روسيا على أوكرانيا، شعرت باستعداد وقابلية تَامَّيْن للذهاب هناك لو توفرت أي فرصة.. هنالك أبرياء يدفعون الثمن ونعرف أن الأبرياء وجدوا ليدفعوا الثمن دائما. وهاهو واضح كيف تُحفّزك حروبك الشخصية مع نفسك و مع الآخرين ومع الحياة نفسها، حروب قد تبدو للغير بسيطة وسطحية وعابرة.. كيف تدفعك لتشارك في حرب لست معنيا بها، لا لشيء إلا لتتحرر من كل شيء، لتحظى بفرصة للخلاص من يأس كثير ومن أمل كثير.
من يتفرج على أحداث أي حرب، من يسمع أخبار أي حرب، من يشمت في ألم غيره، من يتعاطف مع معاناة غيره ..كل هؤلاء يشاركون في الحرب سواء كفاعلين مُحتمَلين أو كضحايا.. لقد كانت الحرب دائما وستبقى تفاعلية، كَمِثلٍ رواية تفاعلية نكتبها جميعنا أونلاين. أما أنا فقررت من وقت طويل أن أفرض على نفسي إقامة جبرية في عالمي الخاص وهمومي «التافهة»، في اللغة والبحر والكتابة وحراسة الأبواب المغلقة والنوافذ المُشمَّعة. لكن هذا لا يعني البتة، أن عاطفية خرقاء مثلي ليست مستعدة لتلقّي رصاصة وحتى قنبلة عن أي شخص في هذا العالم مهما كان كريهاً لأنني خوافة كبيرة وحساسيتي للألم عظيمة للغاية، لستُ قادرة على تحمّل آلام الآخرين لأنها ستُشعل آلامي أضعافاً وهو ما لا أستطيعه.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 25/04/2022
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
كان الأجدر بـ»كيم جونغ أون»، « ترامب»و»بوتين» الاتفاق منذ زمن بعيد حول ساعة صفرٍ واحدة يضغطون فيها ثلاثتهم على ما تيسر مِن أزرارِ قنابلَ نووية، لو كنت مكانهم لفعلتُ دونما تردد ولا تهديد ولا لغط ليس يفضي سوى إلى الاستسخاف والتندر على أصحابه. لكنني مجرد كاتبة عاطفية بلهاء من دول العالم «النامي»، تؤمن بخلودها وتحققها في النزوات العابرة، وطبعا أقصى ما يمكن أن يُسمح لها به هو الضغط على زر إنذار الطوارئ في أحد المصاعد أو في أحسن الأحوال الضغط على أزرار قنابل زمنية في فيلم مليء بالخدع السينمائية.
العالم في حاجة إلى الخلاص، إلى مُخلِّصٍ حقيقي، وليس إلى مجموعةِ حمقى يُهيأُ إليهم أن خلاصهم الجزئي أو الكلي يكون في التخلص من غيرهم عبر حروب طاحنة متتالية للدفاع عن فكرة أو موقف أو حقيقةٍ تُقنعهم أنها ميالة إليهم أكثر من غيرهم. كم أَودُّ أن يفهم هؤلاء الأغبياء أن الخلاص يكون في موتٍ واحد في آن واحد، لأننا جميعا في النهاية إنسان واحد أو لأَقُلْ دمية واحدة وليس دمى متعددة، جميعنا مربوطون بخيوط، كل واحد فينا يمسك مقصه ويحاول أن يقطع خيط غيرِه عوض أن نتفق على قَطع خيوطنا دفعة واحدة بأيادينا.
لم أعش للأسف أي معركة عسكرية أو حرب، نعم أقول للأسف، لأن من يعيشون الحروب الدموية كالمحكوم عليهم بالإعدام يتخلصون من جذام الأمل ومن طاعون الأحلام وعندئذ فقط يصيرون أحرارا بحق.
ربما لم أكن محظوظة بمعاصرة أي حرب، غير إنني كنت أقل حظا، ومثلي كثر، بالتقاتل مع حروب صغيرة منهكة ومتواصلة، هي الأكثر حقارة وبشاعة بالنسبة إلي، الفسحة أو الهدنة بين حروبنا الشخصية تجعلنا نتمسك بالأمل ولا نطيق التفاوض مع الألم. ونعم، كنتُ أقل حظاً أيضا بالتعرف على بعض الناجين من حروب مخيفة في بلدانهم،شَوهت الحرب أرواحهم وحكمت عليهم بتعاسة أبدية، حولتهم إلى كائنات تخترع قشوراً جديدة لجروحها القديمة العميقة، وتنتزعها عند كل محاولةٍ من الحياة اختراقها.. كائنات تتوجس من السعادة، ولا يناسبها أكثرَ من أن تَمر السعادة بمحاذاتها لكن دون أن تراها أو تقترب منها.. كائنات غير آمنة تَعتبر كل من تصادفه مكاناَ غير آمن كذلك. مجرد تخيل كون هؤلاء الأشخاص الحاملين لِنُدبٍ غائرة من حروب عاشوها إضافة إلى نُدبِ معاركهم وأحزانهم الخاصة مرعب. هم ألغام وقنابل عنقودية تتفجر فيك دون كثير مقاومة ولا تفكير. فتجد نفسك تعيش حروبهم المزدوجة وحروبك الشخصية، ببساطة، ضحايا يصنعون ضحايا. وبالتالي لا أحد ينجو من الحرب حتى وإن لم يكن طرفاً منها في السابق فيحدث ذلك لاحقاً. لا أحد نجا، ولا أحد سينجو من الحرب مهما كان بعيداً عنها.
منذ كنت طالبة في الجامعة إبان حرب أمريكا على العراق وأنا لا أتابع الحرب ولا مستجداتها، أهرب من الأخبار ومن فيديوهات أكوام الرؤوس المجزوزة، والحياة مُدبِّرٌ جيد ولئيم قادر على أن يلهيك ويشغلك عن سواك.
قد يبدو الأمر غريباً ومجنوناً، لكنني مع بداية واستعار حرب روسيا على أوكرانيا، شعرت باستعداد وقابلية تَامَّيْن للذهاب هناك لو توفرت أي فرصة.. هنالك أبرياء يدفعون الثمن ونعرف أن الأبرياء وجدوا ليدفعوا الثمن دائما. وهاهو واضح كيف تُحفّزك حروبك الشخصية مع نفسك و مع الآخرين ومع الحياة نفسها، حروب قد تبدو للغير بسيطة وسطحية وعابرة.. كيف تدفعك لتشارك في حرب لست معنيا بها، لا لشيء إلا لتتحرر من كل شيء، لتحظى بفرصة للخلاص من يأس كثير ومن أمل كثير.
من يتفرج على أحداث أي حرب، من يسمع أخبار أي حرب، من يشمت في ألم غيره، من يتعاطف مع معاناة غيره ..كل هؤلاء يشاركون في الحرب سواء كفاعلين مُحتمَلين أو كضحايا.. لقد كانت الحرب دائما وستبقى تفاعلية، كَمِثلٍ رواية تفاعلية نكتبها جميعنا أونلاين. أما أنا فقررت من وقت طويل أن أفرض على نفسي إقامة جبرية في عالمي الخاص وهمومي «التافهة»، في اللغة والبحر والكتابة وحراسة الأبواب المغلقة والنوافذ المُشمَّعة. لكن هذا لا يعني البتة، أن عاطفية خرقاء مثلي ليست مستعدة لتلقّي رصاصة وحتى قنبلة عن أي شخص في هذا العالم مهما كان كريهاً لأنني خوافة كبيرة وحساسيتي للألم عظيمة للغاية، لستُ قادرة على تحمّل آلام الآخرين لأنها ستُشعل آلامي أضعافاً وهو ما لا أستطيعه.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 25/04/2022
وقت مستقطع من الحرب (20) : منى وفيق: لا أحد نجا، ولا أحد سينجو - AL ITIHAD
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف
alittihad.info