د. زياد العوف - ومضاتٌ نقديّة مضيئة

في ثنايا سِفْرهِ النقديّ المنهجيّ القيِّم الذي يحمل عنوان
( تطوّر الغزل بين الجاهلية والإسلام) *
يعرِض أستاذنا الراحل الدكتور شكري فيصل(١٩١٨-١٩٨٥م) طيّبَ الله ثراه، لداليّة الشاعر الأمويّ (عمر بن أبي ربيعة) في الغزل بالتوصيف والدراسة والتحليل ليقف على أهم الخصائص الموضوعية والفنية لها، ومدى وطبيعة صِلتها بالشاعر وعصره، وذلك في سياق استخلاص وبيان المرحلة الذي بلغها شعر الغزل بنوعيه: العذريّ والحسّيّ عند شعراء هذا العصر بالمقارنة مع الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام ، ابتغاء الوصول إلى إشادة صَرح نقديّ نظريّ منهجيّ لخصائص وتطور هذا الفن الشعري الأصيل عبر الزمن .
سأجتزأ هنا بذكر مطلع دالية عمر بن أبي ربيعة، ثمّ أورد لُمَعاً من الومضات النقدية المضيئة التي أوردها الدكتور شكري فيصل في هذا الشأن..جاء في مطلع القصيدة:
-ليتَ هِنداً أنجزتْنا ما تَعِدْ
وشفتْ أنفسنا ممّا تجِد
-واستبدّتْ مرّةً واحدةً
إنّما العاجزُ مَنْ لا يستبِد
-ولقد قالتْ لجاراتٍ لها
وتعرّتْ ذات يومٍ تبترِد
-أكما ينعتُني تبصرْنني
عمركُنَّ اللهَ أمْ لا يقتصِدْ
-فتضاحكْنَ وقدْ قُلْنَ لها
حسَنٌ في كلّ عينٍ مَنْ تَوَد
-حسَدٌ حُمِّلْنَهُ مِن أجلها
وقديماً كان في الناس الحَسَدْ
يقول الدكتور شكري فيصل في عرض معاني هذه الأبيات:
"....وفي هذه الحكاية يكشف عمرُ عن طبيعة الأنثى حين يملأ سمعها الإغراء، ويسّاقط حديث الناس عن جمالها في أذنها كما تتساقط قطَرات الماء العذبة على الأرض الخصبة فترتوي منها وتنتشي بها..ولكنّها في حاجة إلى أن تستزيد من هذا الإغراء أو أنْ تتمكّنَ منه، ولذلك يكون منها حين تخلو إلى جاراتها أنْ تسألهُن: أهي من الجمال بحيث يرى أم أنّ حبَّهُ هو الذي يخلق فيها جمالها ثمّ يدفعهُ إلى أنْ يسرفَ في وصف هذا الجمال، فلا يقتصِد؟
ويكون جواب جاراتها كشفاً آخر عن جوانب من نفس الأنثى وأيُّهنَّ التي ترتضي أنْ تقرّ لصاحبتها بالتفرّد والكمال؟..ولذلك يكون منهنّ هذا التهاتفُ والتّضاحُك، وهذا الجواب الماكرُ الخبيث: حَسَنٌ في كلّ عين مَنْ توَدّ . "
ودراسة القصيدة الدالية دراسة غنيّة ومفصّلة تستغرق عشراتِ الصّفحات من كتاب المؤلِّف، غير أنّ أكتفي بالإشارة في عجالة إلى ما دعاه أستاذنا الراحل بطبيعة الغزل في هذه القصيدة؛ حيث لاحظ أن ذلك يتجلّى في الخصائص التالية:
١- الطابع الحضري
أ- حيث يغيب ذكر الأطلال والحديث عنها في مطلع القصيدة، وذلك خلافاً للتقليد المتّبَع عند شعراء الجاهلية.
ب- يظهر ذلك أيضاً في رقّة اللغة وصقلها وخفّتها وبعدها عن العسر والخشونة والصعوبة والغرابة.
ج- كما يتجلّى طابع الدالية الحضريّ في معانيها ومشاهدها الحضرية المستمدّة من بيئة الشاعر المكانية والزمانية.
د- " كما يتمثّل الطابع الحضريّ للدالية في موسقاها العذبة الرقيقة، وهو ما جعل أرباب فن الغناء والموسيقا يتعاقبون عل تلحينها وغنائها.
٢- تعدّدُ النساء
حيث يرى المؤلّف أنّ من سمات الغزل في هذه القصيدة تعدّد النساء؛ " فلا تبدو المرأة التي يعنيها الشاعر وحدها...لا تملأ ساحة القصيدة ولا تغفو على كلّ حرف منها، وإنّما تبدو هذه الامرأة المقصودة المرموقة في موكب من النساء هي فيه أشدّهنَّ ألقاً وأسطعهنّ لوناً، وهي منه مركز الدائرة وواسطة العقد." *
ومضات ٌ نقديّة قيّمةٌ ومضيئةٌ، دون شك، تلك التي ينطوي عليها كتاب أستاذ كرسيّ الأدب العربيّ في جامعة دمشق، وأمين مجمع اللغة العربية فيها، في القرن المنصرِم.
وهو ما يستوجب العودة المستمرة إليها في هذا الكتاب وفي غيره من كتب هذا الأديب والباحث المدقّق رحمه الله.

*-د.شكري فيصل، تطوّر الغزل بين الجاهلية والإسلام، من امرئ القيس إلى ابن أبي ربيعة،
دار العلم للملايين، بيروت، ط٤، د.ت، الطبعة الأولى، جامعة دمشق، ١٩٥٩م.ص ص ٤٢٣-٤٣٣.

دكتور زياد العوف



د. زياد العوف.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى