عبدالله البقالي - الماركسية والشيخات

كان يبدو غريبا واستثنائيا. معظم الماركسيين كانوا من الشباب للحد الذي اعتقِدت معه أن الماركسية مرادفة لانفعالات الشباب واندفاعهم. ولم يكن ممكنا تخيل ماركسي بشعر أبيض ويتقدم بخطى حثيثة نحو الشيخوخة على الاقل في الوسط المحلي.
عرفته كأستاذ. لكن بدا لي أنه وُجد في تلك المهنة نتيجة خطإ ما، فهو لم يكن يغوص في نقاشات وأفكار مجردة، بل يبحث دائما عن تجلياتها وأشكالها الخارجية، ثم يشرع في هدمها دون أن يترك لقناعات المتعلمين أن تنجز ذلك. وتبين لاحقا أنه من المناضلين القدامى. وأنه هرب من البلاد لتجنب دفع فاتورة مهولة كان يمكن أن تكلفه حياته. وهو لذلك طاف كل العالم تقريبا. في مجالسه الخاصة كان يحكي عن عالم متقلب منفلت لا يعرف الثبات. يحكي عن الاخوان في حلب. والشيوعيين في الأهوار بالعراق. وعن الجنرالات المنخرطين في لعبة العزل والتثبيت هنا وهناك. يحكي عن يوغسلافيا وبولونيا وروسيا. ويبدو أن رحلته الطويلة قد تركت في نفسه آثارا لن يمسحها الزمن، وأن ما ترسب داخله، كان أكبر من أن تسعه لغة أو أن تنضبط له منهجية. وكان مصرا على أن يشعل الأذهان بقبس من توقده الذي لا يهدأ.
كانت له أسرة. ولا أعرف كيف استطاع أن يتحدى ضغط الأعراف ويُبقي حياتها وفق تصوره وفي منأى من الالتزام بالتقاليد، خصوصا حين تحل أحداث تمارس في طقوس جماعية كرمضان وعيد الأضحى حيث كان يسافر رفقة أسرته ولا يعود إلا بعد أن تنقضي تلك المراسيم.
ما أذكره عن دروسه أنه كان يستهلها دائما بسؤال: إذا سألت خرا.؟ وقلت له.....؟
لم يكن يتحفظ على شيء. وكان يعلن آراءه بكل جرأة وحدة إلى حد كان يقول للتلاميذ: إن رغبتم في كيس من الدقيق، فاذهبوا لمركز الشرطة وقدموا لهم دفتر ملخصاتي.
مضت السنين. تغيرت الظروف. كنت صدفة في إحدى المدن. شاهدت رجلا اعتقدت أنه أستاذي القديم. واستبعدت الأمر كليا خصوصا وأنه كان يرتدي جلبابا أبيض، ويستعد لدخول مسجد. لكن الشك عاودني وتأكد لي أنه هو. ركضت بكل قوتي خلفه لألحق به قبل دخول المسجد. أمسكته من جلبابه من الخلف وقلت: ألست الأستاذ كذا...؟
دار نحوي وقال: بلى.
قلت في ذهول: ماذا حدث؟ أين ذلك الإصرار؟ كيف أخمدت الشعلة داخلك؟
بدا محرجا وكأنه لا يرغب في إثارة الموضوع. وقال سالكا مسارا مختصرا: هل تذهب للأعراس؟
قلت: نعم.
قال: "منين كتكون الشيخة كتشطح. وكتعيا متلوز. ومنين كتقلب على الصدى والتأثير كتلقى شي واحد كيتفوه وشي ناعس كيشخر، ماذا تفعل في هذه الحالة" ؟
قلت: كتمشي تجلس.
قال: هذا ما حدث لي أيضا. عيينا منلوزو وما بقى يديها فينا حتى واحد.

تعليقات

تحيات طيبات أخي السي عبدالله..
قرأت بمزيد من الأسى والتنهد هذا موضوع الماركسية والشيخات.. الذي يراوح بين سيرة الماركسي والشيخة .. والتحول المريع الحاصل في العقلية العربية اليسارية.. حينما كان الانسان المغربي متنورا منفتحا ومشاركا في الثورة العالمية وفاعلا في الثورة العالمية والفلسطينية التي كانت تجمع كل العرب على صوت وهدف واحد، حينما كانت المقاومة الفلسطينة ترعب العدو وتهز كيانه.. قبل ان تدك حصونها حركة حماس وتنهيها وتزرع اسفينا في الجسد الفلسطيني بمباركة النظام القطري العميل.. وتصبح العمليات مجرد كرنفال دعائي.. وحينما كان المغرب قلعة للفكر اليساري الرافض للطغيان المخزني وجبروته.. في الفترة ما قبل عقد السبعينات.. ذلك الجيل الذهبي الذي عرف ثورة عارمة على مستوى الفكر والهندام والاخلاق والتكوين والسلوك.. وعرف المثقف العضوي الصادق الحقيقي الفاعل في المجتمع .. بالزمن الذي كانت تعرض فيه على قارعة الرصيف كتب "رأس المال" و"البيان الشيوعي" وكتابات لينين وتروتسكي وروزا ليكسومبورغ وروايات مكسيم غوركي وليرماتوف، وكل أدبيات اليسار الماركسي والفكر الاشتراكي، الى جانب الروض العاطر ورجوع الشيخ الى صباه الى جانب قرعة الانبياء ومتن ابن عاشر والمصحف وتسجيلات الشيخ كشك والشيخ إمام.. وكانت الفتيات نصف كاسيات عاريات، وامهاتنا بالنقاب والجلباب النقليدي أوو الإزارالأبيض.. والصبايا تسبحن على الشاطئ بالمايوه وحمالة الدلع.. وكان المغرب في ابهى حالاته.. والفكر في ابهى تجلياتها، قبل زحف المد الاسلاموي الوهابي المشؤوم.. وسطوة الملتحين والمناضلين الوصوليين المنافقين الذين يميلون مع الريح حيث تميل..
سقيا لتلك الايام الزاهية
محبات صديقي
 
أعلى