غائب طعمة فرمان - الشعر الذي أريده..

للكاتب الفرنسي (أندريه موروا) أقصوصة ممتعة، وجد طريفة. . فحواها أن رساماً أصاب رسومه الكساد، وأعرض الجمهور عن شرائها والإقبال عليها، فغرض من هذا الحال، وغمه الأمر، وتعاقبت على صدره الهموم. . فذهب إلى صديق أديب يستشيره في الأمر، ويطلب حكمته في ساعة الحرج واختلاف المصائب عليه!، فأوعز إليه الأديب الأريب أن يغير أسلوبه في الرسم، ويعقد ما وسعه التعقيد، ويغمض مسرفاً في الغموض، فبدلاً من أن يرسم وجهاً فيه لآلاء الجمال، وفتنة التناسق، وإغراء الواقع، يشذ فيرسم وجهاً ذا أربع أعين وأنفاً تحت فم كبير، وإذناً ملتصقة في الجبين!!. . وهكذا يطلق لمخيلته العنان، ويصفع وجه الواقع، ويلعن أبا الحقيقة!. . وعجب الرسام المسكين من هذا الاقتراح، وعده مزاحاً ودعابة لولا لهجة الأديب الصادقة، وحماسه الملتهب!

وقفل الرسام إلى مرسمه عاملا بنصيحة الأديب، مبدياً كل شذوذ واغراب، حتى إذا تم له الأمر، وهيأ صوراً غامضة مغرقة في الغموض أعلن بمساعدة الأديب في الصحف عن ميلاد رسام عبقري من طراز غريب، سيبدل مجرى الفن، وتقف الإنسانية مذهولة مما أنتجه. . كما أعلن أن هذا الرسام العبقري الفذ سيفتح معرضه في اليوم الفلاني!

وأثار الإعلان فضول الناس، وحبهم لكل عجيب وغريب، وتهافتهم على مواطن الشذوذ والغرابة، فإذا بالمعرض يزدحم بآلاف من الناس، كلهم دهش من هذه الصور العجيبة، قادح زناد ذهنه ليظفر بالغابة منها!. . والظاهر أن الأديب كان من طراز عجيب أيضاً في الحيلة وسعة الدهاء، فقد عرف أن الجمهور لا بد من أنه سيسأل الرسام عن حقيقة هذه الرسوم ومغزاها البعيد المدى، فلا بد من جواب مدهش، فأتفق الاثنان على أن يكون الجواب: (هل رأيت في حياتك نهراً؟!). وقد وقع ما كانا ينتظرانه، فقد سأل الرسام عن هذه الرسوم فوقف وقفة صارمة، وقال بلهجة غامضة (هل رأيتم في حياتكم نهراً؟!) وانصرف، تاركا الجمهور المسكين في غيبوبة عن الوعي، مذهولا مما يرى. . . سبحان الله! إن هذا الرسام لمن طراز أعجب من العجب. فما أشد غرايته، وما أشد سلوكه، وما أعجب تفكيره. . لا. . لا. . لابد أن يكون من وراء جوابه الغامض سر محير تكمن ف العبقرية والموهبة الفلسفية، ولابد من أن يكون لهذه الرسوم معان غامضة لا يستطيع العقل المتوسط أن يدركها، ويبلغ شاطئيها الساحرين. وفي اليوم التالي كانت الصحف تتحدث عن مولد هذا الرسام العبقري العظيم!!

وأغلب الظن أن بعض إخواننا الشعراء يؤمنون بهذا المبدأ إيماناً مفرطاً تتداعى أمامه كل حقيقة من حقائق الدنيا. . ومع أن الزمن يتقدم، والحياة تعرض علينا في كل يوم شيئاً جديداً، فإن الأخوان - حفظهم الله - يدخلون في هياكل غزتهم، ويطلقون في جنباتها بخور الأحلام العاجزة، والأوهام الواهية، ويعيدون على مسامعهم قصة الرسام وطريقة ظفره بالشهوة وذيوع الصيت يحاولون تقليدها بتكلف الغرابة وافتعال الغموض. .

هؤلاء الناس يجب أن يسقطوا من حساب الشعراء، فهم كالنباتات الطفيلية تعيش في رياض الأدب الفيحاء. . . والحياة ذاتها لا تقبل هذا الغموض فهي دائماً سهلة المآخذ، طيعة الفكر. وكل شذوذ عن الحياة ومخالفة لمنطقها يخفى نقصاً في الإدراك ومرضاً في القلب. . وخير العواطف الإنسانية وأعمقها وأكثرها صدقاً، وأرحبها آفاقاً تلك التي تصدر عن قلب سليم حساس.

إذن فنحن مطالبون بإهمال هذا الغموض، وإسقاط كل تعقيد من الشعر، لأننا بذلك نسقط كل تكليف وكذب ومراوغة وشذوذ. . والبساطة تحيط بنا أينما سرنا، فآفاق الشاعرية في الكون الجميل المتناسق العذب النغمات، وفي أعوار النفس البشرية التي لا نجد فيها إلا كل سهولة ويسر لا في تلك النوبات الهستيرية عند بعض خلق الله! ولا وراء اللعب بالألفاظ، والتقعر في المعاني، وخوض اليم لاستخراج الصور الغريبة. . وأعذب النغمات تلك التي تنساب في اتساق ونعومة؛ تلك التي تغمر القلب الإنساني بفيض من العذوبة والحنان؛ تلك التي تعمر الجانب المهدم من الإنسانية بمعاول البغضاء والشنآن!

ودعاة الغموض في الشعر مشغوفون لحد الجنون بالصور الشعرية يخلقونها من أية مادة كانت، ويمتاحونها من أي نوع من المياه حتى ولو كانت مستنقعاً، ويسلكون إليها سبلا مليئة بالأشواك! هم يحاولون أن يخلقوا عوالم جديدة من الصور ولو كان أساسها من رمال، وجدرانها من قش!! هؤلاء ليسوا بعيدي النظر، ولا دقيق التفكير؛ لأنهم يبدءون عملهم الأدبي من حيث يجب أن ينتهوا إليه؛ فلا يدركون قيمة الألفاظ ولا قدسيتها، فقد أقعدهم العجز وفساد الطبع عن أسكناه العوالم التي تخلقها الألفاظ. فاللفظ الشعري إذا وضع في موضعه واتسق مع موسيقاه ومعناه الوضعي خلق وحده صورة شعرية جميلة تنطلق في الأجواء الوجدانية بشائر لأحاسيس جديدة. والشاعر الحق كما يقول شارلتن (من تميز عن سائر خلق الله بإدراكه لقيمة الألفاظ، ولما فيها من قوة وإبداع) فهم - إذن - في نظر شارلتن ليسوا شعراء!

وما دامت آفاق الشاعر في الحياة والكون وليست في الألفاظ التائهة والتعابير العمياء فهو مكلف بخلق أشياء جديدة أو قل نغمات جديدة. . فلقد آن لنا أن ننادي بإخراج الشعر العربي من القوالب القديمة التي تصب معاني متبلورة لا طعم هلا ولا لون! لقد آن لنا أن نهم أن القصيدة الشعرية صورة لتجربة وجدانية لا خلاصة من خلاصات التجربة، صورة يجب أن تبرز في جميع معالمها، وتتألف جميع ملامحها وألوانها في التعبير عن التجربة الشعورية. . فالتجربة الشعورية ليس القصد منها استخراج قانون، أو الاستفادة من موعظة! فتلك وجهة نظر الأخلاقيين لا الشعراء.

والشعر العربي فقير إلى الإخراج. ومن هنا أنفتح باب كبير شغل النقاد العرب زمناً طويلاً وهو (باب السرقات). . ذلك لأن تلك المعاني المودعة في ألفاظ قليلة كمعاني حكية، أو كنتائج لتجارب وجدانية مجهولة، سهلة السرق يتصرف بها أي شاعر وينقلها في ثوب جديد!

أنا مؤمن بأن النفوس الإنسانية تتغاير سمات وملامح، وتختلف أمزجة وطبائع. . فمن الحماقة تطبيق علم النفس على التجارب الوجدانية. وإذا كان لابد من استعماله بعض الشيء فيكون بعد انتهاء التجربة على النصوص الأدبية لا قبلها لإدراك بعض الخصائص العامة فحسب. . ونحن سنجد أن احتفال الشاعر بطريقة من طرائق التعبير أو بلفظ من الألفاظ الشعرية راجع إلى دخيلة نفسه وطوايا ضميره وقد لاحظ النقاد أن (بودلير) كان يستعمل كلمة (أسود) وما يؤدي معناها كثيراً في شعره. ولا شك في أن هناك صلة وثقى بين حياة بودلير البوهيمية الصاخبة وخروجه من معترك الحياة محطم النفس، خائر القوى تتناهبه عوامل السأم والضجر والخيبة المريرة، وبين تلك الألفاظ التي تعبر عن واقع حاله وآلام نفسه. . وكذلك كان اوسكار وايلد الذي لقي من المجتمع اضطهاداً منكراً، وجبروتاً مؤلماً، ونفوراً مقيتاً، نراه يستعمل لفظ (المجتمع الحاضر) أو العصر الحاضر كثيراً في مسرحياته وأقاصيصه، ويستعمله بسخط وازدراء، وفي موضع تشف وانتقام وكراهية!

وما دام الأمر كذلك فإننا سنجد عند الشعراء العظماء شخصية فنية متمايزة بخصائصها لها لونها الخاص، وكيانها المحدد وأدع القارئ يفتش عن الشخصية الفنية بين هذا الجمع الزاخر من المتشاعرين لعله يظفر بما لم أظفر!!

الحق أن الشخصية الفنية في خطر. وإذا قلنا هذا فقد قلنا إن الشعر العربي يمثل الآن مجاعة في الوجدان. . إن الشعر العربي يقاسى أقسى أزمة؛ ذلك لأن الذين يعالجون قرض الشعر لم يفهموا حتى الآن ما يسمى بالصدق الوجداني. . فهم لا ينفذون إلى أعماق نفوسهم ليكتبوا عن انعكاسات العالم فيها، واستجابتها لما يحيطها من الأشياء. . بل علموا كالأوراق اليابسة فوق السطح ليجتروا عواطف غيرهم، ويعيدوا على مسامعنا تجارب الآخرين بصورة مشوهة، ونغم بال. . واختفت في عالم الشعر الشخصية الفنية ولاح شاعروا واحد فجع بشيء لا اعرفه فظل يبكي بدموع غزار!

وأصبح نقادنا حفظهم الله - يطلقون الألقاب جزافاً، ويصفون الشعراء صفات مبهمة. وأصبحت كلمات الإبداع والعبقرية والصدق والرفعة في الأسلوب، والسمو في العاطفة حقيرة رخيصة تباع بالجملة في أسواق الوساطة والشفاعات

يخيل إلي أننا لم نظلم كلمة مثل ظلمنا لكلمة (العاطفة) فقد شاء ربك أن تصبح هذه الكلمة القدسية مبتذلة تلوكها الألسن، ولا تفهم حقيقتها العقول!. نحن نصف العاطفة بالصدق تارة، وبالضيق أخرى، وبالإبهام تارة أخرى. . فما هي تلك العاطفة؟!

العاطفة عندي هي الإدراك الوجداني تقابل الفكر وهو الإدراك العقلي. . فالعاطفة هي العين التي تهدينا قلبياً إلى ينبوع من الحقيقة والجمال. . ونحن في حياتنا الوجدانية نستشير قلوبنا أكثر مما نستشير عقولنا!! وما دامت العاطفة إدراكاً وجدانياً فهي تختلف آماداً، وتتباين في عمقها واتساعها. . فهناك إدراك ضيق مريض يدور حول نفسه ولا يخرج إلى رحاب الإنسانية الطليقة؛ كذلك الإدراك الوجداني القائم على اللذة وحب الذات حين ينشأ الحب بين فتى وفتاة ينحصر في حدود ذاتهما، ويتلون بلون مزاجهما، فذلك اللون من الإدراك أناني مفرط في الأنانية. ونحن نعلم حين يصاب شاعر من شعرائنا بهذا المرض الوبيل يبيع العالم بثمن بخس، ويخيل إليه الوهم والإدراك الضيق أن العالم كله في كفة، وهو وحبيبته في الكفة الأخرى!. وكم من شاعر قدم العالم المسكين قرباناً لقدمي محبوبته بوقاحة وعدم مبالاة كان لديه مصائر البشرية. . . لهذا فإنا أحقد على هذا الحب؛ أولاً، لأنه إدراك فاسد وأنانية محضة، وثانياً: لأنه قصير الأجل يترك وراءه حقداً على العالم وكراهية للبشر، وثالثاً: لأنه يصرف الشاعر عن الإدراك الكلي للوجود، وبسجنه في دائرة لا تتعدى محبوبته فيظل يسبح بحمدها، ويقدمها إلى حد العبادة. . وهو بعد ذلك لا يخلو من كذب ورياء ومبالغة وخداع!

فأنا أكره هذا الحب الضيق كما أكره التعقيد. . بل أريده حباً أوسع أفقاً، وأبعد غوراً، وأرفع إدراكاً.

أنا لا أنكر على الشاعر أن يجب، وان يفرط في الحب، وأن يضطرم بين جوانحه عواطف وأحاسيس، وأن تنبت في روض مخيلته أمال وأحلام. . ولكن الجميل في الشاعر أن يجعل من حبه المحدود الضيق وثبته إلى عوالم جديدة من التعاطف الوجداني. . أن ينبثق في أعماقه ذلك الهيام الصوفي في حب أعم وأكثر شمولاً، وأوسع عاطفة فيتحول غزله إلى معنى رمزي جميل هو حب الإنسانية كلها والوجود جميعه. . هنالك تشرق في دنياه شموس من الأمل والرجاء. . هنالك يحلق في سماوات من الرفعة والسمو، وتصبح كل قصيدة من قصائد شعره كما قال شارلتن (كشفاً جديداً وتنبؤاً لحوادث المستقبل).

لا بأس بأن يتغزل، وأن يرسل من أعماق قلبه نغمات وألحاناً عذاباً، ويقدم من عصارة روحه رحيقاً لأرواحنا الظامئة - دائماً - إلى الخمرة الخالدة. خمرة الحق والجمال! وعند ذلك يولد الشعر الذي يستحق أن ينشد في موكب الإنسانية وهي سائرة قدماً إلى الشاطئ الجميل. . والإنسانية دائماً مشتاقة تواقة إلى مثل هذا الشعر كما تحتاج الجموع المجهدة إلى الراحة والظل الظليل، وكما تتوق النوق الظامئة إلى النمير العذب. .

هناك تتحطم الحدود أمام الشاعر، وتزال العقبات، وتصبح روحه ملكاً للبشر جميعه لا لوطن بعينه ولا لأمة واحدة. . وحينئذ تختفي أمامه الحزن والقنوط، وتلوح لناظريه بشائر الأمل والرجاء الجميل، ويأنف من البكاء - كالأنثى!! - على أطلال آمال ضيقة، وأحلام حمقاء! وهذا ما نراه عند الكثرة المطلقة من شعرائنا الأكرمين: عويل وبكاء كأنهم في مأتم يندبون الدنيا التي أوشكت أن تزول. . . ولكنهم كالنائحات المستأجرات ينوحون في كل مأتم، ويبكون إثر كل ميت، ويذرفون الدمع كأرخص ما يكون الدمع، وأسخف ما يكون البكاء!!

هؤلاء يظنون البكاء نغماً جميلاً يأخذ سحره بالألباب!، وأن البكاء عبقرية وفهم بينما يقترن دائماً بمعنى الجهل وقصر النظر، وضعف النفس، وأنوثة الخلق وما إلى ذلك. . والبكاء - كما قيل - أسهل بكثير من الغبطة والانشراح. . ذلك لأن النفس مكلفة بالإدراك الكامل، واستعمال العقل والدارية حين تضحك ويصيبها الانشراح، بينما البكاء لا يكلفها إلا دعك العينين لاستخراج الدموع!

البكاء بعد ذلك معنى ضيق يتصل بمطالب الذات، ومسراتها الغانية في حين أن الإنسانية دائماً تسير نحو النور.

ليت شعري ألا يوجد في العالم العربي شاعر واحد يحس بالانطلاق، ويتحرر من رقبة الأوهام، ويحطم تلك الأبواق التي أزعجتنا وناحت على مأتم لا وجد له، ليملأ بالأمل، وينشد لنا أناشيد الفرح والسرور.

إن الشعر كما أريده إدراك واسع للكون والنفس الإنسانية، وألوان مختلفة من الشعور، وعمق في الإحساس لا تحدده غاية قصيرة، ولا تستبد به أوهام عاجز مقبول، وتعبير رفيع من غرابة ولا تعقيد، ونغمات تفصح عن طوايا النفس تشعر بالأمل، وتسري في أرواحنا عذوبة غامرة، وفيضاً من الاطمئنان العميق.

سيقول بعض الناس: إنك تقيد الشاعر، وتسلبه حريته في التعبير. وجوابي على هؤلاء أنه لو كانت الحرية غلواً في التعقيد، وشذوذاً في التعبير، وتكلفاً مقيتاً، ولهواً بالقشور، والوقوف على أي طلل للبكاء والنحيب، والاندفاع وراء كل رغبة مجنونة، فلتذهب الحرية إلى الشيطان

غائب طعمة فرمان

مجلة الرسالة - العدد 876
بتاريخ: 17 - 04 - 1950







أعلى