من الألعاب الشعبية القديمة في تراثنا العربي المشترك لعبة (عظم وضّاح)، أو (عظيم وضّاح). وقد جاء في (لسان العرب): "هي لعبة لصبيان الأعراب، يعمدون إلى عظم أبيض فيرمونه في ظلمة الليل، ثم يتفرّقون في طلبه؛ فمن وجده منهم، فله القمر". وبعض المصادر تحكي أن النبي الكريم لعبها في طفولته؛ ففي بعض الروايات: "بينما هو يلعب مع الصبيان وهو صغير بعظم وضّاح، مرّ عليه يهودي؛ فقال له: لتقتلنّ صناديد هذه القرية".
وبعد، فإنه لمن البَدَهي أن تتصل ممارسة الرياضة البدنية والذهنية بعناصر البيئة المادية اتصالا وثيقا، بحيث لا يغيب عن بال المجتمع أن يستثمر مكوّنات بيئته المحلية استثمارا رياضيا بدنيا. وإذا كان هذا الأمر بدهيا؛ فليس غريبا أن يهتدي إليه الأطفال أنفسهم، هؤلاء الأطفال الذين يمارسون ألعابهم بفطرة وعفوية وتلقائية استطاعوا أن يجدوا في محيطهم البيئي أدوات تعينهم على التسلية واللعب. وسأضرب على ذلك مثالا واحد بلعبة واحدة منشرة في بوادي سينا، هي لعبة (عُظيم راح) الموروثة من أعماق التاريخ الشعبي العربي.
وكلمة (عُظيم) تصغير لكلمة (عظم)، وهم ينطقونها هكذا: (اعظيم). وكلمة (راح) في اللهجة المحلية تعني (ضاع).
وقوام هذه اللعبة – كما عايشتها أنا ومارستها في طفولتي – أن يبحث الأطفال في محيطهم البيئي عن عظم، وهذا العظم يُشترط فيه أن يكون عظما جافا هو في الأصل فكّ الشاه، وهو بطبيعته أبيض يكاد يكون ناصع البياض. ثم يجتمع الصبية في براح وسيع، ويكون ذلك ليلا، وأفضل ما يكون أثناء الليالي القمرية، ولا تكاد اللعبة تتم إلا صيفا. إذن، يجتمع الصبية في هذا الجو الرائق، ويخطّ أحدهم بقدمه دائرة أميل إلى الاتساع، ثم يجتمعون فيها، وأحدهم يمسك العظم، ثم يحذفه بكل عزمه إلى أبعد مسافة ممكنه، وهو يغنّي غناء موقّعا، بألفاظ مسجوعة قائلا:
(اعظيمٍ راح. راح راح. وين راح؟ راح في المسراح).
و(المسراح) في لهجتهم المحلية هو مرعى الأغنام الوسيع المنبسط. هنالك يهب الصبيان يبحثون عن هذا العظم الذي (راح)، يستعينون في ذلك بحدة أبصارهم التي وهبتها إياهم البيئة الطبيعة البكر، ويستثمرون أيضا ضوء القمر، وبياض العظم. فإذا وجده أحدهم أخفاه وعاد جريا إلى مكان الدائرة؛ فدخل فيها، وأشهر العظم؛ ليكون هو الفائز الجائز (كما يقولون). ثم يكررون اللعبة مرات ومرات حتى يستكفوا.
فإذا حللنا عناصر هذه اللعبة التي ربما تبدو ساذجة، وإذا تأملنا إجراءاتها التي قد تبدو طفولية – إذا حللنا هذين العنصرين؛ فإننا نصل إلى استثمار رياضي ممتاز لعناصر البيئة، كما أننا سنكتشف إلى أي مدى كانت هذه اللعبة (خضراء) – إن جاز التعبير – بحيث لا تضر البيئة شيئا، ولا تخل بميزان الطبيعة التي خلقها الله نقية، وحافظ عليها الأطفال نقية لا شية فيها ولا لوث!
تتمثل عناصر اللعبة في عدة مكوّنات جادت بها الطبيعة، ولم تجد بها بوصفها عناصر رياضة بدنية خصيصا، وإنما هي فطرة الأطفال وثقافة المجتمع التي خلقت اللعبة مما يشبه العدم. فكيف تم ذلك؟ نبدأ بتحليل عناصر اللعبة.
العنصر الأول: عظم جاف ملقى هنا أو هناك كيفما اتفق، بحيث يبدو أن لا قيمة له، لكنه ذو قيمة كبيرة في هذه اللعبة؛ إذ أنه المكوّن الرئيس فيها، ومنه استمدت اسمها (اعظيم راح).
العنصر الثاني: هو ليل الصحراء الذي يخلو من إنارة الكهرباء، فلو كانت الصحراء مضاءة؛ لفسدت اللعبة وفقدت قيمتها.
العنصر الثالث: هو هذه الليالي القمرية التي تبعث في نفوس الصبيان النشاط، وتبثّ في أجسادهم الحيوية والطاقة، وتكون عاملا مساعدا في البحث عن العظم الضائع.
العنصر الرابع: وهو الأهم، وهو الإنسان نفسه، فإن هذه اللعبة جماعية لا تتم إلا بمشاركة عدد من الأطفال بحيث تزداد الإثارة بازدياد اللاعبين. وهذا العنصر يكشف أهمية أن تكون البيئة الاجتماعية مترابطة متلاحمة يشيع فيها اللعب النظيف، والألفة والحميمية.
أما العناصر الإجرائية في اللعبة؛ فهي – بدورها – بيئية بامتياز، ويمكن تحليل أربعة عناصر منها:
العنصر الأول: هو هذا الغناء الموقّع ذي الألفاظ المسجوعة، هكذا:
(اعظيمٍ راح. راح راح. وين راح؟ راح في المسراح).
والمتأمل في هذا الأمر يجد أنه أمام حالة مثالية للمزج التلقائي العميق بين الرياضة البدنية، والأدب الشفوي الموروث الذي يتّسم بالإيجاز البليغ، وبالسجع والتكرار اللفظي وتجانس الكلمات، وكل ذلك مؤاده أن يجد السامع في العبارة لذة ومتاعا وإثارة معنوية نحثه على بذل الجهد البدني، فضلا عن أن هذه الصياغة مدعاة قوية لسهولة حفظ العبارة، وسلاسة إلقائها.
العنصر الثاني: وأعني به البحث عن العظم نفسه. وهذا الإجراء يعتمد اعتمادا تاما على قوة الملاحظة، وعلى حدّة البصر، وفي ذلك ضرب من ضروب التعليم الضرورية لمن يعيش في بيئة الصحراء التي لا تخلو من عقارب سامة أو ثعابين زاحفة؛ فكأن الأطفال يتعلمون الاحتياط والحذر، وهم يلعبون!
ومن جانب آخر، يًعدّ هذا الإجراء القائم على الملاحظة الدقيقة والنظر الحديد – يُعد استثمارا لما وهبته الطبيعة هؤلاء الأطفال، إذ لا كهرباء ولا إضاءة قوية تفسد البصر، ولا حوائط مُحاصرِة تقيّد انطلاق النظر.
العنصر الثالث: ويقوم به من وجد العظم، وهو الجري بأقصى سرعة نحو الدائرة التي ذُكرت آنفا. فإذا رأى باقي الصبيان صبيا بعدو نحو الدائرة؛ أيقنوا أنه عثر على الهدف المنشود، فيطاردونه جريا؛ بهدف انتزاعه منه، وفق طبيعة اللعبة، وهنا يتحوّل البراح الوسيع إلى ساحة لممارسة الجري إن شئت، أو المطاردة إذا شئت. وهذا الجري وهذه المطاردة هما لونان من ألوان الرياضة البدنية، وهما تدريبان جسديان ضروريان لهؤلاء الأطفال، يضمنان لهم اللياقة البدنية والمرونة الحركية والطاقة التي سوف يستغلونها غدا صباحا في مطاردة أرنب أو طائر بري يظلون يطاردونه حتى يكلّ هو من الطيران، وهم لا يكلّون!
العنصر الرابع: عنصر الإشباع البدني والنفسي، ويتمثّل في التكرار؛ حيث لا يكتفي اللاعبون بشوط واحد، وإنما يعيدون اللعب مرات ومرات كثيرة، ثم لا يفرغون من ذلك قبل أن يحققوا لأجسادهم إشباعا، ولأرواحهم إمتاعا، ثم ينامون نوما هادئا عميقا بعد أن أرضوا حاجة أبدانهم وأذهانهم، وبعد أن أرضوا حاجة البيئة بالحفاظ عليها؛ لم يلوثوها، ولم يعتدوا على ثرواتها، ولم يخلّوا بميزانها المستقيم.
وبعد، فإنه لمن البَدَهي أن تتصل ممارسة الرياضة البدنية والذهنية بعناصر البيئة المادية اتصالا وثيقا، بحيث لا يغيب عن بال المجتمع أن يستثمر مكوّنات بيئته المحلية استثمارا رياضيا بدنيا. وإذا كان هذا الأمر بدهيا؛ فليس غريبا أن يهتدي إليه الأطفال أنفسهم، هؤلاء الأطفال الذين يمارسون ألعابهم بفطرة وعفوية وتلقائية استطاعوا أن يجدوا في محيطهم البيئي أدوات تعينهم على التسلية واللعب. وسأضرب على ذلك مثالا واحد بلعبة واحدة منشرة في بوادي سينا، هي لعبة (عُظيم راح) الموروثة من أعماق التاريخ الشعبي العربي.
وكلمة (عُظيم) تصغير لكلمة (عظم)، وهم ينطقونها هكذا: (اعظيم). وكلمة (راح) في اللهجة المحلية تعني (ضاع).
وقوام هذه اللعبة – كما عايشتها أنا ومارستها في طفولتي – أن يبحث الأطفال في محيطهم البيئي عن عظم، وهذا العظم يُشترط فيه أن يكون عظما جافا هو في الأصل فكّ الشاه، وهو بطبيعته أبيض يكاد يكون ناصع البياض. ثم يجتمع الصبية في براح وسيع، ويكون ذلك ليلا، وأفضل ما يكون أثناء الليالي القمرية، ولا تكاد اللعبة تتم إلا صيفا. إذن، يجتمع الصبية في هذا الجو الرائق، ويخطّ أحدهم بقدمه دائرة أميل إلى الاتساع، ثم يجتمعون فيها، وأحدهم يمسك العظم، ثم يحذفه بكل عزمه إلى أبعد مسافة ممكنه، وهو يغنّي غناء موقّعا، بألفاظ مسجوعة قائلا:
(اعظيمٍ راح. راح راح. وين راح؟ راح في المسراح).
و(المسراح) في لهجتهم المحلية هو مرعى الأغنام الوسيع المنبسط. هنالك يهب الصبيان يبحثون عن هذا العظم الذي (راح)، يستعينون في ذلك بحدة أبصارهم التي وهبتها إياهم البيئة الطبيعة البكر، ويستثمرون أيضا ضوء القمر، وبياض العظم. فإذا وجده أحدهم أخفاه وعاد جريا إلى مكان الدائرة؛ فدخل فيها، وأشهر العظم؛ ليكون هو الفائز الجائز (كما يقولون). ثم يكررون اللعبة مرات ومرات حتى يستكفوا.
فإذا حللنا عناصر هذه اللعبة التي ربما تبدو ساذجة، وإذا تأملنا إجراءاتها التي قد تبدو طفولية – إذا حللنا هذين العنصرين؛ فإننا نصل إلى استثمار رياضي ممتاز لعناصر البيئة، كما أننا سنكتشف إلى أي مدى كانت هذه اللعبة (خضراء) – إن جاز التعبير – بحيث لا تضر البيئة شيئا، ولا تخل بميزان الطبيعة التي خلقها الله نقية، وحافظ عليها الأطفال نقية لا شية فيها ولا لوث!
تتمثل عناصر اللعبة في عدة مكوّنات جادت بها الطبيعة، ولم تجد بها بوصفها عناصر رياضة بدنية خصيصا، وإنما هي فطرة الأطفال وثقافة المجتمع التي خلقت اللعبة مما يشبه العدم. فكيف تم ذلك؟ نبدأ بتحليل عناصر اللعبة.
العنصر الأول: عظم جاف ملقى هنا أو هناك كيفما اتفق، بحيث يبدو أن لا قيمة له، لكنه ذو قيمة كبيرة في هذه اللعبة؛ إذ أنه المكوّن الرئيس فيها، ومنه استمدت اسمها (اعظيم راح).
العنصر الثاني: هو ليل الصحراء الذي يخلو من إنارة الكهرباء، فلو كانت الصحراء مضاءة؛ لفسدت اللعبة وفقدت قيمتها.
العنصر الثالث: هو هذه الليالي القمرية التي تبعث في نفوس الصبيان النشاط، وتبثّ في أجسادهم الحيوية والطاقة، وتكون عاملا مساعدا في البحث عن العظم الضائع.
العنصر الرابع: وهو الأهم، وهو الإنسان نفسه، فإن هذه اللعبة جماعية لا تتم إلا بمشاركة عدد من الأطفال بحيث تزداد الإثارة بازدياد اللاعبين. وهذا العنصر يكشف أهمية أن تكون البيئة الاجتماعية مترابطة متلاحمة يشيع فيها اللعب النظيف، والألفة والحميمية.
أما العناصر الإجرائية في اللعبة؛ فهي – بدورها – بيئية بامتياز، ويمكن تحليل أربعة عناصر منها:
العنصر الأول: هو هذا الغناء الموقّع ذي الألفاظ المسجوعة، هكذا:
(اعظيمٍ راح. راح راح. وين راح؟ راح في المسراح).
والمتأمل في هذا الأمر يجد أنه أمام حالة مثالية للمزج التلقائي العميق بين الرياضة البدنية، والأدب الشفوي الموروث الذي يتّسم بالإيجاز البليغ، وبالسجع والتكرار اللفظي وتجانس الكلمات، وكل ذلك مؤاده أن يجد السامع في العبارة لذة ومتاعا وإثارة معنوية نحثه على بذل الجهد البدني، فضلا عن أن هذه الصياغة مدعاة قوية لسهولة حفظ العبارة، وسلاسة إلقائها.
العنصر الثاني: وأعني به البحث عن العظم نفسه. وهذا الإجراء يعتمد اعتمادا تاما على قوة الملاحظة، وعلى حدّة البصر، وفي ذلك ضرب من ضروب التعليم الضرورية لمن يعيش في بيئة الصحراء التي لا تخلو من عقارب سامة أو ثعابين زاحفة؛ فكأن الأطفال يتعلمون الاحتياط والحذر، وهم يلعبون!
ومن جانب آخر، يًعدّ هذا الإجراء القائم على الملاحظة الدقيقة والنظر الحديد – يُعد استثمارا لما وهبته الطبيعة هؤلاء الأطفال، إذ لا كهرباء ولا إضاءة قوية تفسد البصر، ولا حوائط مُحاصرِة تقيّد انطلاق النظر.
العنصر الثالث: ويقوم به من وجد العظم، وهو الجري بأقصى سرعة نحو الدائرة التي ذُكرت آنفا. فإذا رأى باقي الصبيان صبيا بعدو نحو الدائرة؛ أيقنوا أنه عثر على الهدف المنشود، فيطاردونه جريا؛ بهدف انتزاعه منه، وفق طبيعة اللعبة، وهنا يتحوّل البراح الوسيع إلى ساحة لممارسة الجري إن شئت، أو المطاردة إذا شئت. وهذا الجري وهذه المطاردة هما لونان من ألوان الرياضة البدنية، وهما تدريبان جسديان ضروريان لهؤلاء الأطفال، يضمنان لهم اللياقة البدنية والمرونة الحركية والطاقة التي سوف يستغلونها غدا صباحا في مطاردة أرنب أو طائر بري يظلون يطاردونه حتى يكلّ هو من الطيران، وهم لا يكلّون!
العنصر الرابع: عنصر الإشباع البدني والنفسي، ويتمثّل في التكرار؛ حيث لا يكتفي اللاعبون بشوط واحد، وإنما يعيدون اللعب مرات ومرات كثيرة، ثم لا يفرغون من ذلك قبل أن يحققوا لأجسادهم إشباعا، ولأرواحهم إمتاعا، ثم ينامون نوما هادئا عميقا بعد أن أرضوا حاجة أبدانهم وأذهانهم، وبعد أن أرضوا حاجة البيئة بالحفاظ عليها؛ لم يلوثوها، ولم يعتدوا على ثرواتها، ولم يخلّوا بميزانها المستقيم.