د. زياد العوف - ثلاثيّة نجيب محفوظ: مقاربة نقديّة

نجيب محفوظ (١٩١١-٢٠٠٦م) الروائي العربي الأشهر غنيّ عن التعريف .تفاعل كاتبنا الراحل الكبير مع أحداث قرن كامل، وقد تجلّى ذلك التفاعل في جهد أدبيّ وفكريّ سخيّ امتدّ على مدى سبعة عقود، كانت حصيلته عشرات الأعمال الأدبية القيّمة، ما بين رواية وقصة ومسرحية ومقالة وسيناريوهات سينمائية.
وقد تمّ تكريس نجيب محفوظ عميداً للرواية العربية مع صدور الثلاثية الشهيرة بين عامي( ١٩٥٦-١٩٥٧م) .ولا ريب أنّ تتويجه بجائزة( نوبل) للآداب عام(١٩٨٨م) كان بمثابة مكافأة مستحقَّة وعادلة، وإنْ جاءت متأخرة.
ترسم" الثلاثية" صورة شاملة للمجتمع المصري ما بين الحربين العالميتين؛ إذ تقوم برصد الظواهر الاجتماعية-السياسية وتطوراتها في مصر بين عامي(١٩١٧-١٩٤٤م) وذلك من خلال إحدى الأسر القاهرية المتوسطة.
في الجزء الأول المسمّى( بين القصرين) تطغى شخصية أحمد عبد الجوّاد على جلّ المشهد الروائي، نحن هنا إزاء أبٍ طاغٍ يحيا حياة مزدوجة؛ وجهها العابس مخصّص لأهل بيته، حيث يأخذ الرجل سمْتَ الرجل الوقور المتزمّت والمتحكّم إلى درجة الاستبداد ، بينما يخصص وجهها الضاحك لحياته ومباذله خارج البيت؛ حيث يقبل على مباهج الحياة ومسرّاتها إقبالاً لا هوادة فيه.
ويخيّل إلينا أنّ الرواية تتّخذ من أحمد عبد الجوّاد أنموذجاً تمثيليّاً تسعى من خلاله إلى فضح وتعرية النفاق الذي يسِم السلوك العام لطبقة اجتماعية بعينها، ولجيل بذاته.
أمّا في( قصر الشوق) وهو الجزء الثاني، فإنّ الابن كمال هو الذي يستأثر بمعظم أحداث الرواية. إنّه مثال المثقّف المثالي الذي يمثّل في بحثه الدائب عن التوفيق بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد، بين الوطنية والإنسانية، جيلاً كاملاً آخذاً في البحث عن هُويّته.
هذا..في حين يقوم أحفاد أحمد عبد الجوّاد بصناعة معظم أحداث الجزء الثالث( السكّريّة). ويتعلّق الأمر بجيل جديد أخذ يواجه الحياة بمنظور جديد، معتمداً في ذلك على ثقته بنفسه، وتفاؤله بغده.
إنّه جيل بريء من نفاق الأجداد( أحمد عبد الجوّاد) وبعيد عن تردّد الآباء( كمال). إنّه جيل مصر الجديدة.
تمتاز الثلاثية بالطابع البوليفوني الحواري؛ ويتمثّل ذلك في كثافة الأساليب البوليفونية، من أَسْلبة وحوار مسرحي وداخلي ، وخطاب غير مباشر بأنواعه، وكذلك الأجناس الدخيلة بأنواعها. أمّا الطابع الحواري فيتجلّى في التفاعل النشِط مع خطاب الآخر.
أشرتُ في مقالي السابق" في النقد الروائي" إلى التيار النقدي الذي ينظر إلى المضمون الروائي من خلال الصياغة الفنية لفكر الكاتب.
إنّ أيديولوجيا النص الروائي( المضمون الفكري) يتمّ تلمّسها وفق هذا المنهج النقدي بوصفها أثراً نصّياً فنّياً أنتجه النص واحتواه، وليس بوصفها موضوعاً خارجيّاً. إنّنا هنا نحاول استكشاف وإضاءة الخصائص النصية للأيديولوجيا،لا الطابع الأيديولوجي للنص الروائي.
فيما يلي هذا المثال عن" الأَسْلَبَة" مأخوذ من ( قصر الشوق):
" فوقفوا أمام هذه الحقيقة يتساءلون، وحقَّ للناس أن يعجبوا، فالعروس أرملة رجل عُرِف في حياته بينهم ( بالطيبة والتقوى، وهي معدودة من "سيّدات" الحيّ المحترمات، رغم ولعها بالتّبرّج) فضلاً عن بلوغها الخمسين من عمرها، بينما كان الزوج من العامة( ذوي الجلابيب) يبيع الخرّوب والتمر هندي في( دكان صغير، لم يجاوز الأربعين من عمره إلى كونه زوجاً رسختْ قدمه في الحياة الزوجية عشرين عاماً، أنجب خلالها تسعاً من الإناث والذكور) "
(قصر الشوق)، ص.١٦٦
لدينا هنا خطاب غُفل يعكس الموقف اللغوي لوسط معيّن، هو الوسط الشعبي، حيال الزواج بوصفه عقداً اجتماعيّاً. إنّ الراوي- المؤسلِب يتعامل مع المادة اللغوية للآخر- وهو -هناالرأي العام- من أجل خلق صورة حرّة وأدبية للخطاب- وكذا للتعبير عن فكره هو بالذات ، من خلال هذا الخطاب . تتجلّى" الأسلبة" باعتبارها توجّهاً قيميّاً نحو الآخر، عبر الاختيار الدقيق لعدد من العناصر اللسانية ذات الصلة بلغة الآخر، فضلاً عن الإنارة الخاصة التي تحظى بها هذه العناصر. تتفاوت هذه العناصر المختارة من قبل الراوي تفاوتاً واضحاً ؛ فقد تكون مجرّد كلمات مفردة:" الطيبة"، " التقوى"...،أو عبارات معيّنة:"سيدات الحي المحترمات" ،" ولعها بالتبرّج" ،
" ذوي الجلابيب"... ، أو طرق خاصة في التعبير: " إلى كونه زوجاً رسخت قدمه في الحياة الزوجية"...، أو بإدخال عناصر لغوية منقولة حرفياً من خطاب الآخَر: " سيّدات" في سياق هذا الخطاب المؤسلَب .
وهذا كلّه يسهم بشكل واضح في تأكيد الطابع" الثنائي الصوت" لهذا الخطاب .
المثال التالي مأخوذ من( السكّريّة)
وهو نموذج عميق الدلالة عن " الخطاب الداخلي" للشخصية الروائية:
" وسأل ابراهيم شوكت كمال:
- أتدري لماذا آسف على عزوبتك؟
- نعم ؟
- إني أعتقد أنّك زوج مثالي إذا تزوجتَ، فأنتَ رجل بيت بطبعك، منظّم، مستقيم، موظّف محترَم، ولا شكّ أنّه توجد فتاة في مكان ما من الأرض تستحقّك ، وأنت مضيّع عليها حظّها!
( حتى البغال أحياناً تنطق بالحكم، فتاة في مكان ما من الأرض، ولكنْ أين؟ أمّا عن اتّهامه بالاستقامة، فما هو إلّا كافر فاسق سكّير منافق! فتاة في مكان ما من الأرض، فلعلّه غير بيت جليلة بعطفة الجوهري، وهذه الآلام التي تتطاحن في قلبه ما علّتها؟ والحيرة التي لا مهرب منها إلّا بالخمر والشهوات! ويقولون تزوّجْ حتى تنجبَ فتخلد، وشدَّ ما طمحَ إلى الخلود في شتّى أشكاله وألوانه، فهل يركن يائساً في النهاية إلى هذه الوسيلة الفطريّة المبتذلة)
..........
وردّد بصره بين أحمد وعبد المنعم، في إعجاب مقرون بالغبطة( إنّ الجيل الجديد يشقّ سبيله العسير إلى هدف بيّن دون شكّ أو حيرة،)
تُرى ما سرّ دائي الوبيل؟! "
( السكّريّة) ص ص .١٢٩- ١٣٠
إنّ المقطعين الموضوعين بين قوسين( ) في المثال السابق ينتميان إلى الخطاب غير الملفوظ للشخصية؛ أي الخطاب الداخلي، وبدقة أكبر" الخطاب غير المباشر الحر للأفكار".
هل يتعلق الأمر بخطاب صاغه( كمال) أم أنّه يندرج في إطار "القصة النفسية" التي يقوم الراوي من خلالها بإجراء نوع من التحليل النفسي يتناول الحياة الداخلية للشخصيّة؟ أجل إنّ الخطاب المذكور يعكس أزمة عميقة، أزمة هُويّة لدى كمال، إلا أنّ الانطباع الذي يراودنا هنا هو أنّ الراوي ليس بغريب عن مضمون هذا الخطاب. ومع ذلك، فلدينا مؤشّران نصيّان يرجّحان نسبته إلى الشخصية؛ الأول هو تدخّل الراوي المباشر في سياق الخطاب: " وردّد بصره.......بالغبطة"
ممّا يدلّ على أنّ الخطاب الذي سبق هذا التدخل إنّما هو خطاب الشخصية. أمّا المؤشر الثاني فيتّضح من خلال الانتقال من" الأسلوب غير المباشر الحرّ" إلى الأسلوب المباشر في نقل الأفكار، أي " المنولوج الداخلي": " تُرى ما سرّ دائي الوبيل؟!".
كلّ ذلك ممّا يقوي الطابع الإشكالي للخطاب الروائي في الثلاثية، وذلك بهدف بثّ الشكّ الأيديولوجيّ فيها.
المثال الأخير مأخوذ من ( بين القصرين) ويتناول أحد " الأجناس الدخيلة" على الرواية، ويتمثّل هنا في أبيات شعرية مختارة لشاعر النيل( حافظ ابراهيم) جاءت على لسان إحدى شخصيات الرواية( فهمي) :
" فقال ياسين وعلى شفتيه ابتسامة:
- حتى النساء خرجنَ في مظاهرة.
فتمثّل فهمي بأبيات من قصيدة حافظ في مظاهرة السيّدات:
خرج الغواني يحتججنَ(م)
ورحتُ أرقبُ جمعهنَّ
فإذا بهِنَّ تخذْنَ مِنْ
سُود الثياب شعارهنَّه
فطلعنَ مثل كواكب
يسطعْنَ في وسط الدُّجنَّه
وأخذْنَ يجتزنَ الطريق
ودارُ سعدٍ قصدهنَّه
فاهتزّت نفس ياسين وقال ضاحكاً:
- ما كان أجدرني أنا بحفظها..".
( بين القصرين) ص. ٣٧٧
لقد سمح هذا المقطع الشعري بوصفه " جنساً دخيلاً" على النص الروائي، بمعالجة قضية مشاركة المرأة في النضال الوطني ضدّ الاحتلال البريطاني لمصر بصورة غير مباشرة. إنّ وضع الأبيات السابقة في سياق حواريّ قد عدّل من نبرتها الأصلية وأكسبها نبرة جديدة ؛ هي حصيلة التفاعل الحواري بين النبرة التضامنية لخطاب فهمي الذي رواها، والنبرة الساخرة والمتحفّظة لياسين: " فقال ياسين وعلى شفتيه....." .
وهكذا فإنّ الطابع الثنائي الصوت لهذا المقطع الشعري الدخيل قد جعل الحوار الداخلي، أي" الحوارية" بين صوتيه المتجاوبين أمراً لا مناصّ منه.
خلاصة القول إنّ الأجناس الدخيلة، مثلُها في ذلك مثل الأشكال البوليفونية الأخرى قد أسهمتْ في تأكيد الطابع البوليفوني الحواري للنص الروائي، الأمر الذي عزّز من هيمنة سمة الشكّ الأيديولوجي على مجمل النص الروائيّ.
-ملاحظة: الأقواس( ) الموجودة في المقاطع المختارة من وضع كاتب المقال.
-طبعات الثلاثية المعتمدة هناهي:
- بين القصرين، دار القلم، بيروت، ١٩٧٣.
- قصر الشوق، دار القلم، بيروت، ١٩٧٢.
- السّكريّة، دار القلم، بيروت، ١٩٧٢.
لكلّ ما ذُكِر في هذا المقال ، يُنظَر:
-د.زياد العوف، الأثر الأيديولوجي في النص الروائي، مؤسسة النوري، دمشق، ص ص. ٢٠١- ٢٤٠

دكتور زياد العوف



د. زياد.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى