د. أحمد الحطاب - الدين لله والتَّديُّن للفرد

الدين نوعان. النوع الأول يتمثَّل في الأديان السماوية religions célestes التي أنزلها اللهُ سبحانه وتعالى، من خلال الوحي، على الأنبياء والرسل لتبليغ محتواها إما لأقوام معيَّنة كقوم نوح ولوط وتمود وعاد وفرعون…، أو للبشرية جمعاء، كما كان الشأنُ بالنسبة للدين الإسلامي الذي أنزله اللهُ على آخِرِ الأنبياء والرُّسُل محمد (ص).

أما النوع الثاني فيتمثَّل في الأديان الوضعية التي هي من صُنع البشر كالهندوسية hindouisme والبوذية bouddhisme والديانات الإفريقية وعلى رأسها الارواحية animisme أو ما يُعرف ب"مذهب حيوية المادة"

غير أن كثيرا من التاس يظنون أن الدين هو التَّديُّن بينما الدين شيءٌ والتَّديُّنُ شيءٌ آخر.

أولا وقبل كل شيء، الدين عبارة عن مجموعة من العقائد dogmes والمعتقدات croyances التي يدين بها الناسُ ويؤمنون بها. و هذه العقائد والمعتقدات، كي تُطبَّقَ على أرض الواقع، لها قناعات convictions وممارساتٌ pratiques وطقوس rites.

أما التَّديُّن religiosité، سواء تعلق الأمر بالأديان السماوية أو الأديان الوضعية، فيتمثَّل في الأخذ بعقائد الدين ومعتقداته ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع، أي التطبيق العملي لهذه العقائد والمعتقدات، من خلال القناعات والممارسات والطقس.

انطلاقا من هذه التَّوضيحات، يتبيُّن أن الدين، إذا كان سماويا، فهو ثابت لا يتغيَّر، وخصوصا الجانب منه الخاص بالعِبادات. وعلى سبيل المثال، فالدين الإسلامي له أركانه وفرائضه التي لا تتغيَّر بتغيير الزمان والمكان. فالإسلام، من حيث الأركان والفرائض، والذي كان سائدا في عهد الرسول (ص)، هو الإسلام نفسُه الممارس حاليا من طرف أكثر من مليار نسمة. مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا… (المائدة، 3). وثبوت أركان الإسلام وفرائضه مُعَبَّرٌ عنه، في هذه الآية الكريمة، بكلمة "أَكْمَلْتُ". وقد نقول إن الدينَ، بحكم ثبونه، شيءٌ مطلقٌ، أو ، إن شئنا، شيءٌ أبدي.

أما التَّديُّن، كنا سبق الذكرُ، هو التَّطبيق العملي للدين على أرض الواقع. وهنا يكمن الاختلاف بين الدين والتَّديُّن. لماذا؟ لأن كل فرد له تمثُّلُه sa représentation للدين، الذي، من خلاله. يدرك ويفهم ماهيةَ هذا الدين. فهناك الإدراك العميق، المُتأنِّي والعقلاني. وهناك الإدراك السطحي. وهناك الإدراك المعتدِل والرزين. وهناك الإدراك المتطرف. ولهذا قلتُ، في عنوان هذه المقالة، "...التَّديُّن للفرد"، أي حسب الكيفية التي يتمثَّل بها هذا الفردُ الدينَ la manière selon laquelle, l'individu se représente la religion، بمعنى أن تمَثُّلَ الدين يختلف من فرد إلى آخر، بل من بلد إلى آخر، أو بالأحرى، من مذهب إلى آخر.

الإدراك العميق، المُتأنِّي والعقلاني للدين هو الإدراك الذي يعتمد على العقل والتَّمعُّن والتَّدبُّر. آدراكٌ يكون وراءه فقهاء وعلماء الدين والمفكِّرون (مسلمون وغير مسلمين) من ذوي التَّبصُّر والحِكمة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة، 269).

أما الإدراك السطحي للدين، فهو الإدراك الذي يعنمد على القيل والقال والتَّقليد الأعمى لما يقال ويُسمع. إدراك سطحي لأنه ليس فيه تمعُّن ولا يعتمد على البصيرة.

أما الإدراكُ المعتدل للدين، فمو يعتمد على ما قاله ولا يزال يقوله العقلاء والحكماء : "خير الأمور أوسطها". بمعنى أن لكل شيءٍ طرفين و وسطا. طرف فيه إهمال وطرف فيه إسراف و وسط فيه اعتدال. وحتى يبقى الشيء متوازنا، يجب إمساكُه من الوسط. وإمساك الشيء من الوسط هو عدم الإهمال والإسراف في التَّعامل معه والله لا يحب المُسرفين في كل شيء.

أما الإدراك المتطرِّف للدين، فهو الغُلُوُّ في فهمه. فعوض أن يُمسكَ الشيء من الوسط، فإنه يُمسك من الطرف الذي فيه إسراف (مبالغة) في فهم هذا الدين مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة، 77). وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمسلمين.

أما الدين، فهو لله. وهو، فعلا، لله مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (النحل، 52) أو مصداقا لقوله عز وجل : "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (الزمر، 3). والدين، في هاتين الآيتين، هو الطاعة والإخلاص في عبادة الله. وإن كان الدين عبادات، فهو كذلك معاملات. والمعاملات، في إطار الدين، ترتكز على صالح الأعمال التي تنفع البلادَ والعباد. وكل عمل صالح، فهو لوجه الله. وهذا هو ما يؤكِّد أكثر أن الدينَ لله والتَّديُّن للفرد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى