د. رسول محمَّد رسول - فيلسوف ساهر و(بوم) دبق.. الفلسفة للصغار في ليلة مع بول ريكور

ربما يكون هكذا عنوان يحتمل بعض الغرابة، لكن مخيال الكاتب الفرنسي أوليفييه آبيل وهو يكتب نصاً للقرّاء الصغار عن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 - 2005) كتاباً تربوياً بعنوان (موافقة بول ريكور)، الصادر عن مشروع كلمة في أبوظبي بترجمة فريد الزاهي، آثر تقديم حوار متخيَّل بين ريكور و(بوم) في ليلة واحدة اتخذ شكل حوار مفعم بالمضامين الفلسفية، بالأحرى رؤى ريكور الفلسفية التي كان البوم يستذكرها مع ريكور على طريقة محاورات أفلاطون القديمة.
صدر هذا الكتاب في لغته الفرنسية ضمن سلسلة الفلاسفة الصغار تعزيزاً لترسيخ المعرفة الفلسفية للنشء الجديد، ولأنها للقارئ - الطفل، فقد عزّزها الناشر بنحو ثلاثين رسماً كارتونياً من الرسوم التي توضِّح أحداث الحوار بريشة الفنان (أونهْوا لي)، وهي تجربة رائعة ثرية المعنى والهدف من حيث توصيل الفكرة الفلسفية إلى الأطفال القراء.
فيلسوف ساهر
"يحل المساء في مدينة شاتناي مالابْري في ضواحي باريس، وعند باب حديقة رائعة، في الطابق الأرضي لمنزل كبير، كانت الأضواء مُضاءة، وثمّ فيلسوف ساهر". (ص 6).
بهذه الكلمات الواصفة للمشهد، يبدأ أوليفييه آبيل حكاية الفيلسوف ريكور "بين كتبه" والذي "بلغ من المعمر عتيا" في ليلته مع بوم حط في غرفة نومه. يصف أوليفييه، وعلى نحو سردي، مكانية البيت الريكوري من حيث ما يضمّه من أغراض وإثاث وكتب ولوحات فنية يطيل ريكور التطلّع فيها بوازع من رغبته العريقة في محاورة "الغائبين الكبار من الأزمنة الغابرة" (ص 13). يقول الراوي/ السارد واصفاً ريكور في ليلته تلك:
"بدأ ريكور يغفو حين حط (بومٌ) فجأة على كتفه. هل هو بوم؟ سأل ريكور. أغمض عينيه ثم أعاد فتحهما، قد يكون ذلك هلوسة حُمّى، بيد أن البوم بقي في مكانه، يغمض عينيه ويفتحهما وفي الوقت نفسه يقوم بول ريكور بالأمر نفسه" (ص 13)، وعندها سيبدأ الحوار بينهما.
سلّة مهملات
بوم، وكتب، ولوحات، وصور وذكريات عن تلاميذ وفلاسفة، وابن فقده ريكور (أوليفيي)، وزوجة جميلة وفيّة، حتى استفز البوم ريكور فقال للفيلسوف: "الأموات لا يوجدون"! ردَّ ريكور: "لا، لقد وجدوا، وأنا أملك آثار وجودهم في هذه الكتب، وفي رسائلهم، وفي ذاكرتي" (ص 15)، ويضيف ريكور: "الموت ليس هو اللغز الكبير وإنما الولادة"! (ص 16).
ينتقل الحوار عن فكرة الحداد بتذكير من البوم، فيرد ريكور بأنه عرف موت والدته بعد وضعه في دار الدُّنيا، وصار بين يدي جدّه ليربيه ويعلِّمه، ويأخذه إلى عالَم الكتب التي بدت له "أشبه بآثار الغائبين، أشبه بالجميلة النائمة في الغاب والتي لا يمكن أن تعود إلى الحياة إلّا بالقراءة" (ص 19).
وفي خلال الحوار، يعود ريكور إلى ذكرياته في الحرب يوم كان بالسجن في ألمانيا النازية فترجم أعمال الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 - 1938) إلى الفرنسية من دون إعفاء النازيين من جرائمهم ويذكّره البوم أن طلبته في (جامعة ناطير) وضعوا على رأسه سلّة المهملات! لكن ريكور سيرد بأنه كان يطمح لطلبته بأن "يهديهم عالماً جديداً" (ص 28) وهم الذين مرّوا بخراب الحروب والهزائم؛ فلا بدّ من محاربة الشر.
مسيحي بلغة الفلسفة
يتهم البوم ريكور بأنه ذلك "الفيلسوف المسيحي"، فكان هذا الوصف استفزازي المنحى، لكن ريكور أفحمه رداً عندما قال: "أعتبر نفسي أولاً فيلسوفاً لا غير، ثم من ناحية أخرى مسيحياً يتكلَّم لغة الفلسفة لأن تلك موهبتي ومَلَكَتي" (ص 34). طيب ماذا عن الله؟
يقول ريكور موجها كلامه إلى رفيقه البوم الساهر معه: "الرب يكون تارة ذلك الآخر البعيد جداً الذي لا أستطبع فهمه، وتارة أخرى القريب الأقرب الذي أُحب، والذي يخلخلني من الداخل" (ص 34). ولعلّ في هذا القول بلاغة الصراحة والإيضاح معاً في شأن الله. وما هو مهم أن ريكور يظهر مفتوناً بالذات الإلهية حتى قال للبوم عندما كانا يتخيلان الصليب "إنه علامة على الأمل" (ص 55).
لكن البوم سرعان ما يريد البقاء في الوجود الحياتي، فيصف ريكور بأنه "مذنب يؤوي فلاسفة كُل العصور الذين يناقشون معنى الحياة" (ص 38). وتلك هي مشروعات ريكور التي عبّرت عنها كُل كتبه ومؤلفاته ومحاضراته، فهو الفيلسوف الذي صال وجال بين فلاسفة الأزمنة كلها تباعًا.
ينزل البوم، بقدر ما يرتقي، بين الواقع المادي المتناهي والكوني. لقد راقت للفيلسوف ريكور هذه الثنائية، ثنائية الرواقيين "المعجبون بالكون في شموليته"(ص 47)، والأصحاب الأوروفيوسيون "المنتظمون بالحول اللانهائي للصيرورة حيث يتزاوج الموت مع الحياة" (ص 49). وهي ثنائية عميقة وغائرة القدم في تأريخ الفكر الإنساني، لكن ريكور يقرأها ليعيد لها الحياة على نحو تأملي فلسفي.
لقد بدا هذا التواصل شكلاً من انفتاح ريكور على الوجود والتأريخ والعالم لإغناء الراهن، يقول ريكور في هذا الصدد وهو يستعيد قول الشاعر الألماني كارل ريلكه (1875 - 1926): "أنْ يكون المرء هنا روعة لا مثيل لها"، ويعلق عليه ليقول: "كل حياة لها وقت تصفق فيه للوجود ووقت يصفق لها لوجودها، والنور والأنشودة التي تأتي من جهة البحر كطلها وعد من وعود السعادة" (ص 51).
وبذلك، يسعى ريكور إلى الجمع بين الرواقيين والأوروفيوسيين في مشهد واحد حتى يقول: "لكي نتعلّم قول: نعم، علينا دوماً أن نجد السبيل بين المنفى الجامد للرواقيين والمملكة الراقصة للأورْفيوسية باعتباره سبيل التوازن" (ص 53).
إيقاظ وتأويل
وعندما راح الليل يماد ينهي ساعاته صوب انبلاج الفجر، أخذت ريكور الحاجة إلى النوم، لكن البوم أراد استفزازه في لحظة الوداع: "شعب الغابرين يتشتَّت، أين هو؟ أنا بدوري أنمحي، أين؟ أين أنا؟" (ص 59).
قبل التوادع الأخير، قرر ريكور الإجابة، فقال للبوم: "أعتقد أن الغابرين ينتظرون أنْ يتم إيقاظهم بالكلام، ويتم إحياؤهم بالتأويل مثل المُمثل أو الموسيقي اللذين يوقظان نصاً عتيقاً أو معزوفة لا تزال تؤثر فينا لليوم، فبالكلمة نحن نستحضر منْ فقدْنا" (ص 59). وقال ريكور مودِّعاً بومه: "الكُّتاب السابقون لنا ينتظرون أن نقرأهم" (ص 64).
***
وبعد، فهذا كتاب مخصَّص للأطفال، ويقصد المؤلِّف، كما الناشر، أن ينمي الأفكار الفلسفية لدى الأطفال، وربما نزل المؤلِّف أوليفييه آبيل إلى مستوى إشراك الحيوانات في الحضور كفاعلين في سردية الحكاية، وتلك فكرة جميلة محببة للأطفال، لكن اختيار المضامين الفلسفية كان بإمكانه أنْ تكون أبسط وأسهل حتى يتلقفها (القارئ - الطفل) بيسر وبساطة، لكنّني لم أجد تلك البساطة في هذا الكتيب الفلسفي رغم ردف مسارات الحكي بالكثير من الرسومات التوضيحية التي أدَّت معانيها ووظائفها ببساطة جمالية أستطيع وصفها بالرائعة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى