هل سيغدو مآلي، وأنا في الخامسة والستين من عمري، مثل مآل (غريغوري) في قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا)؟ من يدري؟ ربما. نعم ربما.
منذ ثلاثين عاماً وأنا أخدم في المؤسسة. دخلت إليها شاباً في الثامنة والعشرين من عمري، دخلت شاباً مكتمل الملامح. عينان مثل عيني صقر تبصران أصغر الأشياء حجماً، عينان تنظران إلى الطلبة وهم يكتبون، وويل لمن يحاول الغش، فثمة (كاميرا) هي عيناي سرعان ما تصطادان الفريسة التي حاولت أن تغش. (الآن أنا، ومنذ سبع سنوات، لا أرى إلا من خلال نظارة بعد نظر، وبعد سبع سنوات أخرى سأغير نظارتي مرتين أو ثلاث مرات. من الرقم 3 إلى الرقم 4 فالرقم 5 فالرقم 6). وشعر أسود أسود مثل الفحم، شعر كثيف كان يحتاج إلى مادة (جلي) حتى يغدو مقبولاً، فالشعر الجعدي، شعر الزنوج، شعر النيغرو، لم يكن مفضلاً، وغالباً ما كنت أستخدم السشوار. (الآن أنا، ومنذ سنوات عشر وأكثر، شبه أصلع. الشعر الأسود، ما تبقى من الشعر الأسود، غدا أبيض، وغدا ناعماً أملس، لأنه ضعف، ولأن ما بقي منه بقاياه. مثل حدوة فرس شعر رأسي الآن. نعم مثل حدوة فرس، وقد أعزي نفسي حين أقول لمن ينظر إلى صلعتي مبتسماً: هل رأيت حماراً أصلع؟ أنا لا أحب الصلع. الشعر تاج الرأس حقاً. أنا أغبط من لا يتساقط شعر رأسه). هل أقول: وقدمان وساقان قويات. نعم كنت أقف في المحاضرة خمسين دقيقة. خمساً وسبعين دقيقة ولا أشعر بالتعب، ولا أشعر، في الليل، بآلام في أرجلي/رجليّ. هل ثمة رجل ثالثة؟ لا ضرورة للحديث عنها. (الآن أنا غالباً ما أجلس وأنا أعطي محاضراتي. غالباً ما آخذ في الصباح فيتامين (أوميغا 3) مع زيت سمك، حتى أعطي المحاضرة واقفاً، أو (مَلتي فيتامين) (فيتامينات متعددة)، آخذها حتى أقف المحاضرة وأسيطر على الطلاب، ذلك أنني إذا ما جلست، بدأ الطلاب يهمسون.. يثرثرون.. يوتوتون(؟)، وبدأت مواعظي وعباراتي: هس. اسكت. الذي يريد أن يتكلم فليخرج وليتكلم ما يشاء. المحاضرة ليست ملكاً لطالب و... و... وأنا أتكلم عربي. هل تفهمون العربية؟ هل من ضرورة للتكلم بالإنجليزية أو العبرية؟
هل سيغدو مآلي، وأنا في الخامسة والستين من عمري، مثل مآل (غريغوري) في قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا)؟ من يدري؟ ربما. نعم ربما.
دخلت إلى الجامعة وأنا أحمل درجة الماجستير. كنت فرحاً آنذاك. كان العمل في الجامعة أمنية، فقد كنت أغبط من يعمل فيها. الجامعة شابة وناشئة، وأنا شاب وناشئ. تكبر بي وأكبر بها. نكبر معاً. وكانت الجامعة بحاجة لحملة الماجستير، كما كان حملة الماجستير بحاجة إلى الجامعة. بدأت الجامعة مشوارها بحملة البكالوريوس، وتطورت وتطور هؤلاء، فقد كان حملة الدكتوراه عملة نادرة في فلسطين. درست خمس سنوات. درّست ما يجيز لي القانون تدريسه وأكثر، أدرّس النصاب القانوني وأدرّس تدريساً إضافياً، أنا أريد أن أدرس نفسي، والجامعة لا تجد كفاءات تدريسية بما فيه الكفاية، ثم سافرت لأنجز الدكتوراه مبتعثاً. غبت أربع سنوات وعدت، وأعتقد جازماً أنني قدمت خدمات في تخصصي، خدمات جليلة. أفدت الجامعة وأفدت الحركة الثقافية، وحصلت على جائزة شومان للشباب، وشاركت في عشرات المؤتمرات، وعقدت عشرات الندوات. أنا فخور بما أقوم به، والجامعة فخورة بإنجازي، فهي تسجل أسماء من حصلوا على جوائز لتحقق مكانةً معتبرةً بين الجامعات، غالباً ما تفتخر الجامعة بمكانتها العلمية، وكثيراً ما تخصص إذاعتها ساعات بث للإعلان عن مكانتها. (طبعاً أنا شاركت في غير برنامج وتواصلت مع الناس، مع المواطنين، مع سواقي السيارة، مع الباعة، فكم من سائق وكم من بائع وكم من إنسان عادي قال لي: اليوم استمعت إليك يا أستاذ تتحدث عن كذا وكذا).
ولي الآن ما لا يقل عن أربعة عشر كتاباً تضعها الجامعة على (الإنترنت)، وفي زاوية أدبيات الخاصة بي ما لا يقل عن خمسة آلاف زائر، وهناك عشرات المواقع التي أعادت نشر هذه الزاوية، وبعضها كتب: مكتبة أدبية متنوعة للكاتب الكبير. (هكذا والله كتبت بعض المواقع. هذا ليس مديحاً للذات أو سخرية منها، فالعبارة تحتمل قراءتين: جادة وساخرة، مديح للذات وسخرية من الذات).
هل سيغدو مآلي، وأنا في الخامسة والستين من عمري، مثل مآل (غريغوري) في قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا)؟ من يدري؟ ربما. نعم ربما.
أحياناً أبدو عاقاً. ربما لأنني طورت نفسي. ربما لأنني عاق بطبعي، ربما لأنني كنت شاباً لم يمر بتجربة الشيخوخة. ربما.. ربما.. ربما.. ربما لأشياء كثيرة كنت أقول: على كبار السن أن يتخلوا عن مناصبهم.. أن يتقاعدوا. (مثل خيل الحكومة سأغدو في الخامسة والستين.. نعم مثل خيل الحكومة). وأنا رئيس قسم لم أوافق على إعطاء محاضرات لأحد زملائي ممن بلغوا الخامسة والستين. قلت: كفى، ولم أكن أعلم إلام سيؤول، فالغيب ليس بيدي. الغيب بيد الله. (أنا، حتى اللحظة، مع فسح المجال للشباب.. مع أن يهيئ المرء نفسه لسنوات ما بعد الخامسة والستين. أنا، حتى اللحظة، مع المصلحة العامة لا مع المصلحة الفردية).
أحياناً كنت عاقاً، وعليّ الآن، أن أهيئ؟ نفسي للخامسة والستين من العمر - إن بلغتها -. (حين كان أبي يعاني من مرض السكر وأنا خال منه، لم أكن أكترث له.. لمرض أبي. أنا، الآن، أعاني من مرض السكر، وأشعر بما كان أبي يشعر به. أتألم وأخاف من المستقبل). ألهذا كنت عاقاً وأحاول الآن أن أتفهم الكبار؟ (في الفترة الأخيرة قرأت كتاباً لأستاذ مصري يربو عمره على السبعين، ولاحظت ما فيه من أخطاء في المعلومات، ولاحظت عدم التركيز لديه، فقلت: لعلها بدايات زهايمر، وعلي أن أهيئ نفسي للخامسة والستين من العمر).
مثل (غريغوري).. هكذا أنا في الخامسة والستين من العمر: الفكرة جاءتني وأنا أسير مع زميلي. زميلي بلغ الخامسة والستين من العمر. خدم الجامعة ثلاثين عاماً وعاماً، وكنت زميله منذ ثلاثين عاماً، فقد عينت بعد تعيينه بعام. درسنا ودرسنا ودرسنا، وعقدنا مؤتمرات وندوات وأشرفنا على رسائل ماجستير وناقشنا أخرى، وفجأة.. فجأة كأننا خيل حكومة.
قال لي زميلي: هل نهرول إلى المدينة؟ قلت له: نهرول إلى المدينة، وقبل أن نهرول سرنا باتجاه مكتب شؤون الموظفين، إنه يريد أن يعرف ما سيجري معه، ما سيحسب له، ما له، ما عليه، فقد بلغ الخامسة والستين من العمر. وربما لأول مرة أفكر فيّ، فيّ أنا، وأنا في الخامسة والستين. أنا (غريغوري). أنا مثل (غريغوري).
قبل ثلاثين سنة وأكثر قرأت قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا). كان زميلي أستاذ الرياضيات يدرس في جامعة بيرزيت، وكانت القصة مقررة عليه، وطلب مني أن أقرأ القصة وأن أبدي رأيي فيها. فقرأتها، وربما أتيت على فكرتها في مقالاتي التي نشرتها في جريدة "الشعب" باسمي أو باسم عروة بن الورد. لقد راقت لي فكرة التحول، تحول (غريغوري) إلى حشرة. (إن طلب القارئ مني نشر مقال حول ذلك كنت نشرته فسأفعل).
وحين ذهبت إلى ألمانيا ودرست فيها قرأت "المسخ" بالألمانية، ولدي نسخة منها. عنوان القصة بالألمانية "التحول" (Die verwandlung). (غريغوري) عامل يحترمه صاحب العمل ويحترمه أبواه وأخته، صاحب المصنع يستفيد من قوة عضلاته، وأبواه يأخذان منه بعض المال لينفقا على البيت. فجأةً قرر (غريغوري) ألا يذهب إلى العمل. قرر أن يتحول إلى حشرة. لذلك دلالة رمزية، وفجأة تخلى عنه صاحب المصنع، وتخلى عنه أيضاً والداه. ما الفائدة التي ستعود على هؤلاء من (غريغوري) كسيحاً أو مقعداً أو مشلولاً؟ لقد غدا عبئاً على الجميع، فتخلى الجميع عنه بسهولة.
وأنا أتابع الحوار بين زميلي ومدير شؤون الموظفين تخيلت نفسي في الخامسة والستين من عمري. تخيلت نفسي (غريغوري) آخر. لا النظر ظل على ما كان عليه. لا الصوت ظل على ما كان عليه. لا التركيز ظل على ما كان عليه. لا القدمان ظلتا على ما كانتا عليه. لا شيء يبقى على حاله، هل كان (كافكا) يكتب عني، وهو يكتب "المسخ"؟ ربما. من يدري! وسأصيح: أنا (غريغوري) أنا (غريغوري).
عادل الأسطة
2012-05-27
منذ ثلاثين عاماً وأنا أخدم في المؤسسة. دخلت إليها شاباً في الثامنة والعشرين من عمري، دخلت شاباً مكتمل الملامح. عينان مثل عيني صقر تبصران أصغر الأشياء حجماً، عينان تنظران إلى الطلبة وهم يكتبون، وويل لمن يحاول الغش، فثمة (كاميرا) هي عيناي سرعان ما تصطادان الفريسة التي حاولت أن تغش. (الآن أنا، ومنذ سبع سنوات، لا أرى إلا من خلال نظارة بعد نظر، وبعد سبع سنوات أخرى سأغير نظارتي مرتين أو ثلاث مرات. من الرقم 3 إلى الرقم 4 فالرقم 5 فالرقم 6). وشعر أسود أسود مثل الفحم، شعر كثيف كان يحتاج إلى مادة (جلي) حتى يغدو مقبولاً، فالشعر الجعدي، شعر الزنوج، شعر النيغرو، لم يكن مفضلاً، وغالباً ما كنت أستخدم السشوار. (الآن أنا، ومنذ سنوات عشر وأكثر، شبه أصلع. الشعر الأسود، ما تبقى من الشعر الأسود، غدا أبيض، وغدا ناعماً أملس، لأنه ضعف، ولأن ما بقي منه بقاياه. مثل حدوة فرس شعر رأسي الآن. نعم مثل حدوة فرس، وقد أعزي نفسي حين أقول لمن ينظر إلى صلعتي مبتسماً: هل رأيت حماراً أصلع؟ أنا لا أحب الصلع. الشعر تاج الرأس حقاً. أنا أغبط من لا يتساقط شعر رأسه). هل أقول: وقدمان وساقان قويات. نعم كنت أقف في المحاضرة خمسين دقيقة. خمساً وسبعين دقيقة ولا أشعر بالتعب، ولا أشعر، في الليل، بآلام في أرجلي/رجليّ. هل ثمة رجل ثالثة؟ لا ضرورة للحديث عنها. (الآن أنا غالباً ما أجلس وأنا أعطي محاضراتي. غالباً ما آخذ في الصباح فيتامين (أوميغا 3) مع زيت سمك، حتى أعطي المحاضرة واقفاً، أو (مَلتي فيتامين) (فيتامينات متعددة)، آخذها حتى أقف المحاضرة وأسيطر على الطلاب، ذلك أنني إذا ما جلست، بدأ الطلاب يهمسون.. يثرثرون.. يوتوتون(؟)، وبدأت مواعظي وعباراتي: هس. اسكت. الذي يريد أن يتكلم فليخرج وليتكلم ما يشاء. المحاضرة ليست ملكاً لطالب و... و... وأنا أتكلم عربي. هل تفهمون العربية؟ هل من ضرورة للتكلم بالإنجليزية أو العبرية؟
هل سيغدو مآلي، وأنا في الخامسة والستين من عمري، مثل مآل (غريغوري) في قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا)؟ من يدري؟ ربما. نعم ربما.
دخلت إلى الجامعة وأنا أحمل درجة الماجستير. كنت فرحاً آنذاك. كان العمل في الجامعة أمنية، فقد كنت أغبط من يعمل فيها. الجامعة شابة وناشئة، وأنا شاب وناشئ. تكبر بي وأكبر بها. نكبر معاً. وكانت الجامعة بحاجة لحملة الماجستير، كما كان حملة الماجستير بحاجة إلى الجامعة. بدأت الجامعة مشوارها بحملة البكالوريوس، وتطورت وتطور هؤلاء، فقد كان حملة الدكتوراه عملة نادرة في فلسطين. درست خمس سنوات. درّست ما يجيز لي القانون تدريسه وأكثر، أدرّس النصاب القانوني وأدرّس تدريساً إضافياً، أنا أريد أن أدرس نفسي، والجامعة لا تجد كفاءات تدريسية بما فيه الكفاية، ثم سافرت لأنجز الدكتوراه مبتعثاً. غبت أربع سنوات وعدت، وأعتقد جازماً أنني قدمت خدمات في تخصصي، خدمات جليلة. أفدت الجامعة وأفدت الحركة الثقافية، وحصلت على جائزة شومان للشباب، وشاركت في عشرات المؤتمرات، وعقدت عشرات الندوات. أنا فخور بما أقوم به، والجامعة فخورة بإنجازي، فهي تسجل أسماء من حصلوا على جوائز لتحقق مكانةً معتبرةً بين الجامعات، غالباً ما تفتخر الجامعة بمكانتها العلمية، وكثيراً ما تخصص إذاعتها ساعات بث للإعلان عن مكانتها. (طبعاً أنا شاركت في غير برنامج وتواصلت مع الناس، مع المواطنين، مع سواقي السيارة، مع الباعة، فكم من سائق وكم من بائع وكم من إنسان عادي قال لي: اليوم استمعت إليك يا أستاذ تتحدث عن كذا وكذا).
ولي الآن ما لا يقل عن أربعة عشر كتاباً تضعها الجامعة على (الإنترنت)، وفي زاوية أدبيات الخاصة بي ما لا يقل عن خمسة آلاف زائر، وهناك عشرات المواقع التي أعادت نشر هذه الزاوية، وبعضها كتب: مكتبة أدبية متنوعة للكاتب الكبير. (هكذا والله كتبت بعض المواقع. هذا ليس مديحاً للذات أو سخرية منها، فالعبارة تحتمل قراءتين: جادة وساخرة، مديح للذات وسخرية من الذات).
هل سيغدو مآلي، وأنا في الخامسة والستين من عمري، مثل مآل (غريغوري) في قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا)؟ من يدري؟ ربما. نعم ربما.
أحياناً أبدو عاقاً. ربما لأنني طورت نفسي. ربما لأنني عاق بطبعي، ربما لأنني كنت شاباً لم يمر بتجربة الشيخوخة. ربما.. ربما.. ربما.. ربما لأشياء كثيرة كنت أقول: على كبار السن أن يتخلوا عن مناصبهم.. أن يتقاعدوا. (مثل خيل الحكومة سأغدو في الخامسة والستين.. نعم مثل خيل الحكومة). وأنا رئيس قسم لم أوافق على إعطاء محاضرات لأحد زملائي ممن بلغوا الخامسة والستين. قلت: كفى، ولم أكن أعلم إلام سيؤول، فالغيب ليس بيدي. الغيب بيد الله. (أنا، حتى اللحظة، مع فسح المجال للشباب.. مع أن يهيئ المرء نفسه لسنوات ما بعد الخامسة والستين. أنا، حتى اللحظة، مع المصلحة العامة لا مع المصلحة الفردية).
أحياناً كنت عاقاً، وعليّ الآن، أن أهيئ؟ نفسي للخامسة والستين من العمر - إن بلغتها -. (حين كان أبي يعاني من مرض السكر وأنا خال منه، لم أكن أكترث له.. لمرض أبي. أنا، الآن، أعاني من مرض السكر، وأشعر بما كان أبي يشعر به. أتألم وأخاف من المستقبل). ألهذا كنت عاقاً وأحاول الآن أن أتفهم الكبار؟ (في الفترة الأخيرة قرأت كتاباً لأستاذ مصري يربو عمره على السبعين، ولاحظت ما فيه من أخطاء في المعلومات، ولاحظت عدم التركيز لديه، فقلت: لعلها بدايات زهايمر، وعلي أن أهيئ نفسي للخامسة والستين من العمر).
مثل (غريغوري).. هكذا أنا في الخامسة والستين من العمر: الفكرة جاءتني وأنا أسير مع زميلي. زميلي بلغ الخامسة والستين من العمر. خدم الجامعة ثلاثين عاماً وعاماً، وكنت زميله منذ ثلاثين عاماً، فقد عينت بعد تعيينه بعام. درسنا ودرسنا ودرسنا، وعقدنا مؤتمرات وندوات وأشرفنا على رسائل ماجستير وناقشنا أخرى، وفجأة.. فجأة كأننا خيل حكومة.
قال لي زميلي: هل نهرول إلى المدينة؟ قلت له: نهرول إلى المدينة، وقبل أن نهرول سرنا باتجاه مكتب شؤون الموظفين، إنه يريد أن يعرف ما سيجري معه، ما سيحسب له، ما له، ما عليه، فقد بلغ الخامسة والستين من العمر. وربما لأول مرة أفكر فيّ، فيّ أنا، وأنا في الخامسة والستين. أنا (غريغوري). أنا مثل (غريغوري).
قبل ثلاثين سنة وأكثر قرأت قصة "المسخ" لـ(فرانز كافكا). كان زميلي أستاذ الرياضيات يدرس في جامعة بيرزيت، وكانت القصة مقررة عليه، وطلب مني أن أقرأ القصة وأن أبدي رأيي فيها. فقرأتها، وربما أتيت على فكرتها في مقالاتي التي نشرتها في جريدة "الشعب" باسمي أو باسم عروة بن الورد. لقد راقت لي فكرة التحول، تحول (غريغوري) إلى حشرة. (إن طلب القارئ مني نشر مقال حول ذلك كنت نشرته فسأفعل).
وحين ذهبت إلى ألمانيا ودرست فيها قرأت "المسخ" بالألمانية، ولدي نسخة منها. عنوان القصة بالألمانية "التحول" (Die verwandlung). (غريغوري) عامل يحترمه صاحب العمل ويحترمه أبواه وأخته، صاحب المصنع يستفيد من قوة عضلاته، وأبواه يأخذان منه بعض المال لينفقا على البيت. فجأةً قرر (غريغوري) ألا يذهب إلى العمل. قرر أن يتحول إلى حشرة. لذلك دلالة رمزية، وفجأة تخلى عنه صاحب المصنع، وتخلى عنه أيضاً والداه. ما الفائدة التي ستعود على هؤلاء من (غريغوري) كسيحاً أو مقعداً أو مشلولاً؟ لقد غدا عبئاً على الجميع، فتخلى الجميع عنه بسهولة.
وأنا أتابع الحوار بين زميلي ومدير شؤون الموظفين تخيلت نفسي في الخامسة والستين من عمري. تخيلت نفسي (غريغوري) آخر. لا النظر ظل على ما كان عليه. لا الصوت ظل على ما كان عليه. لا التركيز ظل على ما كان عليه. لا القدمان ظلتا على ما كانتا عليه. لا شيء يبقى على حاله، هل كان (كافكا) يكتب عني، وهو يكتب "المسخ"؟ ربما. من يدري! وسأصيح: أنا (غريغوري) أنا (غريغوري).
عادل الأسطة
2012-05-27