د. السيد إبراهيم أحمد - عندما غنت "الست" في السويس: "توثيق فني وتاريخي"..

تبرز أهمية التوثيق، باعتباره علمًا من علوم التاريخ، في حفظ المعلومات، وتبويبها، وتصنيفها، وفهرستها عبر إجراء عدد من العمليات الفنية التي تكشف عن جودة الوثيقة وصحتها، لذا فهو يتيح للأجيال التعرف على تاريخهم بكافة مراحله من خلال نقله من الماضي إلى الحاضر.

ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى التوثيق الفني، لأي عمل فني معين أو جانب من جوانب حياة الفنان بشكل عام، ومن هذه الفنون فن الغناء الذي يحتاج إلى التوثيق الفني والتاريخي سواء لمسيرة اللحن أو الكلمات أو صناع العمل: المؤلف والملحن والموزع والمطرب أو المؤدي، خاصة وأن هناك العديد من المناسبات الفنية التي ارتبطت بأحداث تاريخية هامة، تمضي مع السنوات وتنساها الأجيال التي عاصرتها بفعل التقدم في السن، وتسقط من ذاكرة الأجيال التي لم تعاصرها، وهو ما يفوت عليهم فرصة الاعتزاز بهويتهم، وتاريخهم، وبلدهم أيضا.

لقد ذكرتُ في مقالات ـ وبالأحرى ـ دراسات؛ فقد أخذت جهدا ووقتا من العمر في التقصي والبحث، والتحقق، ومنها: زيارة الكاتبة الكبيرة الراحلة مي زيادة للسويس، وكان موضع سرور من المهتمين، والمثقفين، فليست كل الحوادث التاريخية والأدبية والفنية تهم أغلب الأفراد، غير أن أحدًا لم يصدق أن تزور هذه السيدة هذه المدينة، وما الداعي لهذا؟!

لقد زارت سيدة الغناء العربي نفس المدينة في السادس عشر من شهر مارس عام 1967م، وغنت في نادي بورتوفيق الرياضي، من خلال سرادق ضخم أعد خصيصا لهذا الحفل الذي حضره لفيف من كبار رجال الدولة، والمدينة، ومنهم: الوزراء: وزير التخطيط دكتور محمد لبيب شقير، واللواء شعراوى جمعة وزير الداخلية، ووزير الدولة للشباب طلعت خيري، ووزير العمل أنور سلامة. كما حضره من المحافظين: سعد زايد محافظ القاهرة، ومحمد البلتاجي محافظ الجيزة، وإبراهيم بغدادي محافظ المنوفية، وعماد رشدي محافظ بني سويف، ووجيه رشدي محافظ الغربية، ومحمد فريد طولان محافظ بورسعيد، ومبارك رفاعي محافظ الإسماعيلية، وحضره أيضا: رئيس هيئة قناة السويس مهندس مشهور أحمد مشهور، ووكيل وزارة الإرشاد القومي السيد فرج، والآلاف من شعب السويس، وكان في استقبالهم محافظ السويس اللواء حامد محمود.

ولقد نقل الحفل إذاعات البرنامج العام والشرق الأوسط، وعلق على أحداثه الإعلامي الكبير صالح مهران، وذلك احتفالا بعيد السويس القومي الثاني الذي سيحل في الثاني والعشرين من شهر مارس، منذ أن رفع الرئيس جمال عبد الناصر علم مصر فوق منطقة "الشلوفة" بالسويس بعد جلاء القوات البريطانية عن معسكرها وعن مصر عام 1955، وتم اتخاذ هذا اليوم عيدا وطنيا للسويس بديلا عن عيدها الأول الذي كان يوافق الثامن من ديسمبر ذكرى معركة كفر أحمد عبده في نفس اليوم من عام 1951م. وقد تم هذا بعد موافقة المجلس المحلي بالمحافظة في الثاني عشر من أكتوبر عام 1965م، وقد حضر الرئيس جمال عبد الناصر العيد الوطني الأول للسويس عام 1966م.

غنت السيدة أم كلثوم في الحفل ـ المشار إليه ـ ثلاث أغنيات أو ما يسمونه "وصلات"؛ فشَدَت في الوصلة الأولى بأغنية "أمل حياتي" كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، ولحن الموسيقار محمد عبد الوهاب، وفي الوصلة الثانية غنت "فات الميعاد" كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز، ولحن الموسيقار بليغ حمدي، واختتمت الحفل بوصلتها الثالثة التي استغرقت قرابة الساعة والربع وغنت فيها رائعتها الدائمة "الأطلال" من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي ولحن الموسيقار رياض السنباطي.

وأتى ما تقدم بيانه من مناسبة إقامة الحفل، ومكانه، ووصلاته تصويبًا لما ذكره الأستاذ فاروق علي متولي في كتابه "السويس: أماكن وذكريات"، ص20: (كان يوجد مسرح بورتوفيق الصيفي والذي تواجدت فوق خشبته سيدة الغناء العربي أم كلثوم في أول زيارة لها للسويس ضمن اﻻحتفاﻻت الوطنية بتأميم القناه، واستقبلتها الجماهير استقبال الفاتحين وهي تشدو بأغنياتها وأنشودتها الرائعة: "محلاك يا مصري وانت على الدفه والفرحه عامله في القنال زفه").

ذلك أن الأنشودة التي ذكرها متولي "محلاك يا مصري"، والأدق اسمها "فرحة القنال" غنتها السيدة أم كلثوم في "نادي الفرسان" بمحافظة الإسماعيلية في الرابع عشر من سبتمبر عام 1957م، احتفالا بعيد المرشد المصري أو "يوم المرشدين"، وهي من كلمات الشاعر صلاح جاهين، ولحن الموسيقار محمد الموجي، وكانت في الوصلة الأولى، ثم أتبعتها بأغنية "دليلي احتار" في الوصلة الثانية من كلمات الشاعر أحمد رامي، ولحن الموسيقار رياض السنباطي، واختتمت الحفل بوصلتها الثالثة بأغنية "شمس الأصيل" للشاعر محمود بيرم التونسي وأيضًا لحن الموسيقار رياض السنباطي.

من المعلوم بيانه أن للصورة الفوتوغرافية مكانة مهمة عند توثيق الأحداث من خلال تجسيدها لأبعاد رمزية وتراثية وثقافية، وهو ما افتقده هذا الحفل وحفلات أخرى أقامتها أم كلثوم في العديد من محافظات الجمهورية، على الرغم من الاهتمام بتسجيل أحداث العيد الوطني الأول للسويس لوجود رئيس الجمهورية، ولا أرى أن سيدة الغناء العربي تقل مكانا ومكانة أبدا، مع وجود صور لأحداث وحفلات تلت هذه الحفلة، ولقد راجعت صفحات ومواقع متحف هيئة قناة السويس بالإسماعيلية، والمتحف القومي بالسويس، ومتحف أم كلثوم، وعدد من صفحات المهتمين بتاريخ وذكريات السويس فلم أنجح، وأثبت هنا تحذيرا للتلفيق الذي دفع بعضهم لوضع صورة لأم كلثوم وهي تحمل طفلة ومعها رجل وفي الخلفية بحر وقارب، وكتب على يمين الصورة بالإنجليزية الواضحة "SUEZ"، وبالتحري ثبت أن الرجل هو زوج السيدة أم كلثوم دكتور محمد حسن الحفناوي ولم تكن في السويس.

لم تكن السيدة أم كلثوم تدري أن حالها سيتغير بتغير أحوال السويس التي كانت على مقربة من الهزيمة العسكرية أو النكسة بعدها بأقل من شهرين من قدومها القدري لهذه المدينة الهادئة الوادعة؛ وقد رصدت وقائع هذا التغير الباحثة الأمريكية "فرجينيا دانيلسون" المتخصصة فى الموسيقى وتأثيرها على المجتمعات، في كتابها: "أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين" بدقة، فتقول: (وبوقوع الهزيمة في حرب 1967 صار كل جانب من جوانب الحياة في مصر عُرضة لإعادة التقييم، لا سيما على ألسنة وأقلام المثقفين. فانتقدوا بشدة ما اعتقدوا أنه السبب في الكارثة: ضلالات العظمة والتباهي وانعدام الاهتمام بمشكلات العالم العربي الفعلية، وعدم توخي سبل لحلها تقوم على النظرة النقدية. وفي رأي الكثيرين منهم كانت أم كلثوم رمزًا على هذه المجموعة من المشكلات؛ إذ أنهم اعتبروا أغنياتها الطويلة وتباهيها بالثقافة المحلية انفصالا عن الواقع بما فيه من محن اقتصادية واجتماعية وسياسية).

خرج شعب السويس في هجرتين، الأولى اختيارية بدأت مع بداية الحرب، وذلك خوفا من العمليات الانتقامية العسكرية الإسرائيلية كرد فعل لأي عمليات عسكرية مصرية قادمة، وهذه كانت حتى التاسع والعشرين من سبتمبر من نفس عام النكسة، تلتها هجرة إجبارية طويلة عانى فيها شعب السويس من مشاكل كانت جديدة عليهم، كانت بمثابة الحلم أو الكابوس، تماما كتلك التي جعلت أم كلثوم تختفي في بدروم بيتها تحتضنها ظلمة طويلة، وعزلة تامة عن العالم، حزنا على ما أصاب مصر، وقررت أن تجعل حفلاتها القادمة من وصلتين فقط، ثم رأت أن عليها دورا يجب القيام به، فأقامت العديد من الحفلات داخل البلاد وخارجها، كان الهدف منها جمع الأموال للمجهود الحربي، ورأب الصدع العربي.

لم يكن موقفها هذا كرد فعل على الاتهامات الموجهة إليها ـ كما ادعى البعض، ولكن عن إيمان عميق بأن الهزيمة كبوة، ومصر ستخرج منها أكثر قوة؛ فهي المصرية الوطنية الفلاحة المنحازة لشعبها وأرضها، الذي يشهد لها نشيدها "والله زمان يا سلاحي"، خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي أطلقته كقذائف اللهب على رأس العدو الصهيوني الذي كان يهدد باستهداف الإذاعة بنيرانه وقنابله وأم كلثوم فيها، فلم ترضخ أو تخف، وهو ما يعني أنها لن تتخاذل أو تجبن بعد أن تقدم بها موكب العمر، وقد رأت أنه لا يجب عليها أن تتخلى عن زعيم وطني مخلص وصادق وهو مثلها من أبناء هذا الشعب الكادح، غير أنه يمثل أملا ومُخلِّصًا لهم، كما يسكن بين جنباتها يقين تستمده من إيمانها العميق بالله تعالى، وأنه ناصر ـ كما وعد ـ المؤمنين.

غنت أم كلثوم لرفع الروح المعنوية المصرية والعربية معا، وجمع شمل الدول والشعوب العربية، واستعادة تماسك البنيان الشعبي والمؤسسي المصري، غير أن قلبها لم يتحمل أن يسبقها عبد الناصر إلى رحاب ربه وهو يعيد تنظيم الجيش، ويدفع سحابات اليأس عن عزائم الرجال، وكأنه وأم كلثوم كانا يعزفان معا لحن الأمل وينشدانه أغنية بالفعل والكلمات، فكان عليها أن تستكمل مسيرته بعد أن فكرت في اعتزال الغناء بعده ثم تراجعت تحت إلحاح من حولها، لأن في الاعتزال خيانة لمسيرة ناصر، فعادت بعد توقف دام ثلاثة أشهر، لكن المرض لم يترك لها الفرصة أكثر من أن ترى بشائر النصر، وربما كان من أحلامها أن تعود لتغني لأهل القناة وأن تبدأ بالسويس التي حوصرت واستبسلت ودافعت لا عن نفسها فقط بل عن مصر كلها بل العرب كلهم.

سألت أم كلثوم الشاعر صالح جودت أن ينظم لها أنشودة تغنيها بمناسبة مرور عام على معركة استرداد العزة والكرامة، أي فى السادس من أكتوبر عام ١٩٧٤، ونظم جودت بالفعل الأنشودة، وبدأ الموسيقار رياض السنباطى فى تلحينها، لكنها لبت نداء ربها فلم تخرج هذه الأغنية للنور، ومنها هذا المقطع: (قيدوا شموع العيد وغنوا لمصر/ وادعوا لها دايما بالعلا والنصر/ الله يزيدك منزلة يا مصر/ ياللي شبابك من جنود الله/ والحرب في قلوبهم صيام وصلاه/ ودمهم عند الشهادة زكاه/ زي اللي عزوا الدين في غزوة بدر/ طول عمرهم أحرار ولاد أحرار/ متسلحين بالعزم والإصرار/ ساعة ما نداهم مُنادي التار)..

مضت الأيام وعاد أهل السويس لديارهم، وقد صار الأطفال شبابا يعزف بعضهم أغاني الست على "آلة السمسمية" الشهيرة في أفراحهم وأسمارهم، ويرددونها ومنها أغنيات ثلاث شدت بها واحتضنتها سماء مدينتهم، ولا يعلمون .. مثل كاتب هذه السطور الذي يسكن منذ عدة سنوات بالقرب من مكان الحفل لا يفصله عنه غير أمتار قليلة. لذا كان من الأهمية توثيق ذلك الحدث لمن يهمه الأمر سواء من أبناء هذا الجيل أو الجيل القادم؛ فنحن لا نمتلك التاريخ ونخزنه ـ لكوننا عاصرناه ـ في الذاكرة بل هو إرث ينتقل عبر الأجيال وعبر الأزمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى