المستشار بهاء المري - حكايات من محاكم الجنايات.. خارج نطاق الخدمة.

- خارج نطاق الخدمة.

شغَفها حُبًّا، تعلَّق به قلبها أيَّما تَعلُّق، كأنَّها تعرفه من زمن بعيد وكأن اتصاله العشوائي بها منذ أسبوع كان له مفعول السِّحر الذي سحرها.
لم تُكذِّب مَعسُول قولهِ الذي راح يُطارد به سَمعها ليل نهار، ويُدغدغ من خلاله مَشاعرها، لم تُصدقُ أنه الحب الذي كانت تسمع عنه في الأفلام والمسلسلات وأنه طرَق أبوابَ قلبها هكذا على حين غفلة وتمارسه الآن معه عبر الهاتف الخلوي حتى ولو كان قد جاءها عن طريق المصادفة.
تَشَوقت إلى لقائه، تاقت إلى رؤيته وجها لوجه لتأنس أكثر بروحه المرحة وخِفَّة ظلِّه التي بهرتها، وحين صارحها بذات الشوق ذات مساء هرعت إلى مقابلته - على الفور - في الصباح ثم توالَت اللقاءات. أحيانا في البندر عاصمة القرية نهارًا وأحيانا أخرى ناحية أرض أبيه الزراعية في العصاري.
كانت تُصدِّق - في كل لقاءٍ - أنَّ ما يُتلَى على مَسامعها هو الحبُ الذي كانت تنتظره فلم يكن لابنة السادسة عشر من تجارب سابقة حتى أنهت أنهت تعليمها المتوسط.
صَارت مَجنونة به، مُتيمة بحُبه، تُقابله ما استطاعت، تَتَّصِل به على هاتفه النَّقال آناءَ الليل وأطرافَ النهار، ورويدً رويدُا فقدا السيطرة على سَطوة الغرائز، لم تُمانع في أن يَحتويها غير ذي مَرَّة، وأن يَتحسس أجزاءَ حساسة من جسدها في مرات عديدة.
لم يقنع الشاب الجامعي بما فرَّطت فيه من أجله، كان سَقفُ رغباته في ارتفاع جُنوني رهيب، يدعوها إلى لقاءٍ في "عِشَّة" كائنة في أرض أبيه الزراعية على أطراف القرية خارج العُمران، تُلبِّي الطفلةُ دعوتهُ في الموعد الذي ضَربهُ لها في عصر ذلك اليوم وسُرعان ما مَرَّ الوقتُ حتى راحت الشمسُ تلملم سَلاسلها الذهبية الملقاةعلى الكَون مُعلنة الرحيل، وسرَت في الجو نسمة خريفية رطبة، زادت أعصابها تخديرا.
أغلق دونها الباب المَصنوع من أعواد الغاب الذي كساهُ في اليوم السابق خِصيصًا بالمشمع الأسود من الداخل.
أسكرتها كلماته، تلقَّفها بين أحضانه، انهالَ عليها بقُبلاته، أسْمَعها من الوُعود والوعد بالزواج ما طرَبت له. استطالت يَداه إلى أجزاء بعينها من جسدها يُدرك جيدًا مُبتغاه من العَبَث بها. خارت قُواها، سلمت له نفسها راضيةً مُختارة. ومع غُروب الشمس اليوم ذاته تُغربُ عُذريتها.
لم تَندم على فِعلتها، لم تَزل تُصدِّقه، تَتكرَّر اللقاءات، كانت "العِشَّة" شاهدةً عليها، وعلى أرضها تّحرَّك شيءٌ ما في أحشائها، تُخبره به، لم يَهتز له طَرف، لم يَشعر بندم، لم يَزل يَعِد بالوفاء، وتتكرر المُعاشرة.
دَوَارٌ وصُداعٌ وقَيء يَضربُ جسمها، لم يغِب معنى تلك العلامات عن فِطنة أمِّها، تخلو بها، تُقرِّرها؛ فتُقر بكل ما حدث، تبتلع الأمُّ أوجاع نفسها، تنصحها بمقابلته ليَحسمَ أمره؛ وإلا أخبَرت والدها.
تهرع إليه الطفلة بعَفويتها، تُبلِّغهُ حديث أمِّها وتهديدها، تَتغير ملامح وجهه، تتَّسع عيناهُ وتلمعُ فيهما فِكرة، يأخذها في حِضنه، يُهَدهِدُ على ظهرها، يُطمئنها إلى وُعُوده مَرَّةً أخرى، يُفهمها أنَّ ظروفه المادية تَحولُ الآن دون الزواج، وأنَّ الحلَّ هو إسقاط حملها، ولكنَّ الأم ستكون عقبة، لا بُدَّ إذَن من الخَلاص منها.
يَستقر كلامه في وجدانها وكأنه حكمة بالغة، قامت من بين أحضانه، شَردت بناظريها ساهمة وكأنها تَستحضرً ما سيكون، تقلَّصَت عَضلات وجهها، أومأت له بالموافَقة، انفرجت أساريرُ وجهه، يَضمها ثانيةً إلى حِضنه، ثم يُغادران العشة.
تعودُ إلى البيت شاردة زائغة العَينين وهي تُحدِّث أمها، وفى النهاية طمأنَتْها: سيأتي غدًا أو بعد غد يا أمِّي، اطمئني.
تَستيقظُ الطفلة من نومها في اليوم التالي مُبكرًا، فكرة ما تدور برأسها، الأم تسحَب الماشية - كعادتها مبكرًا - لتَخرُج بها إلى الحقل، تَسيرُ الطفلةُ - على غير عادتها - من خَلفها. ربطَتْ الأم الماشيةَ وتوجَّهت إلى زراعة البرسيم. جلست القُرفصاء لتَحصُدَ منه شيئًا لإطعامها، تتبعها الطفلة من دون هُدَى، لم تَرسُمُ حتى هذه اللحظة خُطةَ لتنفيذ جُرمها، تَقَع عيناها على أداة خشبية ثقيلة يُسمِّيها الفلاحون "المَدقَّة" كأنها "جاكوش" يُصنَع من الخشب الثقيل لاستعماله في أغراض الحقل كدَقِّ الأوتاد في الأرض.
الأمُّ تُوالى حَصَاد البرسيم، تلتقط الابنة "المَدقَّة". كلماتُ حَبيبها تَطن في أذنيها، تَرفع "المدَقَّة" عاليةً في الهواء، تهوى بها فوق رأس أمّها، يَنفجرُ بُركان الدَّمُ من الرأس المَغدور، تُوالى الضَّربات، صُورة حبيبها وهو يَحضنها ويُهدهد عليها تَشخصُ أمام عينيها، كلماته تَرنُّ في أذنيها، تُصبح الأم جثةً هامدة.
تَتصِل بحبيبها على هاتفه النَّقال: قتلتُها! هنَّأها بقُرب زواجه منها، يَسألها عن طبيعة المَكان، قالت: في حقلنا خَلف المنزل، ناحية الجسر ولا يوجد أحد، يَنصحَها بالتخلص من الجثة، يَرسُمُ لها الوسيلة.
تَنزَح إلى الدار، تأتى بإناء يَحتفظ فيه والدها "ببنزين" ماكينة الري، تُحضر من المَطبخ "ولاعة". تَسكُب البنزين على الجثة وتُضرم النار فيها، تُغادر المكان، تتوجَّه إليه في "العِشَّة"، لم يكن هناك، تَتصِل به على هاتفه المحمول، تَسمَع تلكَ العِبارة الرتيبة: "الهاتف قد يكونُ مُغلقًا أو خارج نِطاق الخدمة"!

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
216
آخر تحديث
أعلى