سأُعطي فقط بعض الأمثلة للآيات التي يمكن لمحتواها أن ينطبقَ على الماضي والحاضر والمستقبل علما أن القرآنَ الكريمَ غني بهذا النوع من الآيات. منها ما هو متعلِّقٌ بسلوك الإنسان وأخلاقه. ومنها ما هو متعلِّقٌ بالمخلوقات الحية. ومنها ما هو متعلِّقٌ بما سخَّره الله للبشر من خيرات ونِعَمٍ…
صحيح أن العديدَ من آيات القرآن الكريم لها أسبابُ نزولها وكثير منها نزل بدون سبب. وأسباب النزول تجعل من الآيات التي لها علاقة بهذا النزول، مرتبطةً بزمان ومكان معينَين. والارتباط يتمثَّل في حادث أو واقعة أو أشخاص معينِين أو سؤال من الأسئلة موجَّه للرسول محمد (ص). لكن، في نهاية المطاف، سواءً تعلَّق الأمرُ بالآيات التي لها أسباب نزول أو تلك التي نزلت بدون سبب، فالهدف منها هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتسهيل تساكنهم وتعايشهم في المجتمعات البشرية. ولا داعيَ للقول إن تساكنَ وتعايشَ الناس في المجتمعات البشرية، إن اختلفت ظروفُه، زمانا ومكانا، فهو كمفهوم بشري له طابَع إنساني، ديني، أخلاقي، سلوكي، اجتماعي…، عابرٌ للزمان والمكان، أي لا يتغيَّر معناه العميق (الفلسفي).
بعد هذا التوضيح، فيما يلي، هذه بعض الآيات التي، من الممكن، أن ينطبقَ محتواها وحِكَمُها على الماضي والحاضر والنستقبل.
في مجال سلوك الإنسان وأخلاقه، اخترتُ النفاقَ والفسادَ. فيما يخص النفاقَ، اخترتُ الآيتين التاليتين:
1."الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة، 67).
2."إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال، 49).
النفاق hypocrisie هو أن يَظهَرَ الشخصُ للناس في حال مغايرٍ لذلك الذي هو مُبطَّنٌ في ذاته. وبعبارة أخرى، النفاق هو أن يُخفيَ شحصٌ حقيقةَ أمره أو نواياه الحقيقية، أي أن يتظاهرَ بسلوك وبأحاسيس وآراء وصفات لا يملكها حقّاً ليظهرَ للناس وكأنه ملاكٌ وليكسبَ ثقتَهم.
في مضمون الآيتين أعلاه، لم يحدِّد سبحانه وتعالى هويةَ هؤلاء المنافقين والمنافقات. بل ليس هناك في مضمون هاتين الآيتين شيءٌ يدل على أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، ربط وجود هؤلاء المنافقين والمنافقات بزمان أو مكان معيَّنين. فالنفاق، كسلوك، يبقى ملازما للبشر أينما حلوا وارتحلوا. وسواءً كان هذا النفاق ملازما للأقوام الغابرة أو اتصف به الناسُ خلال فترة بعث الرسول محمد (ص)، فإنه، كسلوك بشري، يبقى ملازما لفئة من الناس اليوم وغدا وبعد غد… إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. ولا داعيَ للقول أن النفاقَ، في العصر الحاضر، أصبح منتشرا في كل مكان ولا سيما في مجال المعاملات البشرية. معاملات أصبحت تحكمها مصالحٌ مادية على الخصوص. وما يدعِّم صلاحيةَ هاتين الآيتين حاضراً ومستقبلاً، هو أن الأفعالَ التي وردت، بالأخص في الآية الأولى، جاءت بصيغة المضارع. والفعل المضارع يعبِّر عن شيءٍ يحدث في الحاضر والمستقبل. والنفاق، كسلوك بشري، لا يتغيَّر لغوياً وتفسيراً.
في مجال سلوك الإنسان وأخلاقه، اخترتُ كذلك الفسادَ من خلال الآيتين التاليتين:
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة، 205).
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم، 41).
الفساد لغويا هو كل ما يحدث من خللٍ أو اضطرابٍ أو تلفٍ أو عطبٍ في أمور الدنيا، المادية منها والمعنوية. وبصفة عامة، الفساد هو كل ما يُعكِّر المعاملات البشرية ويُحرِّفها عن غاياتها النبيلة. والفساد يمكن أن يكونَ نفسيا، إنسانيا، اجتماعيا، أخلاقيا، ماليا، اقتصاديا، سياسيا، طبيعيا، بيئيا… وقد يكون الفساد فِسقا أو لهوا أو انحلالا أو استبدادا… فكما هو الشأن للنفاق، فالفساد واحد من الانحرافات البشرية التي هي ملازمة للإنسان ما دام سلوكُه أو طَبعُه متأرجحا بين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث وبين الخير والشر… فالفسادُ كان موجودا في الأزمنة الغابرة وفي عهد الرسول محمد (ص) ولا يزال قائما إلى يومنا هذا. غير أن الفسادَ مذموم عند الله كما جاء في الآية الأولى: "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ". لاَ، حرفُ نفيٍ و"يحب" فعلٌ مضارعٌ، أي أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يحب الفسادَ في حاضر الأزمنة الغابرة وفي حاضر عهد الرسول وفي ما يأتي من الزمان. والله سبحانه وتعالى لم يوضَّح ما هي أنواع الفساد. وهذا دليلُ على أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، لا يحب الفسادَ كيفما كان نوعُه. كما أنه، سبحانه وتعالى، لم يُشر إلى أنواع النفاق. وهذه ميزة من مزايا القرآن الكريم حيث أن اللهَ، جلَّ ذكرُه، يُشيرُ فيه إلى الأمور الدنيوية المادية والمعنوية، في جوانبها الإنسانية، الأخلاقية والسلوكية، بمعانيها الواسعة حتى تبقى صالحةً لكل زمان ومكان.
في مجال المخلوقات الحية، اخترتُ النباتَ والحيوانَ. فيما يخص النباتَ اخترتُ الآيتين التاليتين :
"وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ…" (الأنعام، 99).
"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ" (طه، 53).
في هاتين الآيتين، "النبات" plante اسمٌ يُطلقُ على جميع النباتات. و النبات يبقى نباتا سواءً في الماضي والحاضر والمستقبل. بل إن عبارة "نباتَ كل شيء" في الآية الأولى وعبارة "من نباتٍ شتى"، في الآية الثانية، تشيرُان إلى أن النباتَ أنواع دون الإشارة الواضحة والبيِّنة لهذه الأنواع. وعدم الدخول في تفاصيل الأشياء، كما سبق الذكرُ، ميزةٌ من مزايا القرآن الكريم حتى يبقى محتواه صالحا لكل زمان ومكان. وحتى لو أن بعض أنواع النبات التي كانت موجودة في الأزمنة الغابرة، انقرضت ولم يعد لها أثر، فالنباتُ يبقى نباتا ولو انقرض ولو ظهرت أنواعٌ جديدةٌ من النبات. وقد ذكر اللهُ سبحانه وتعالى نباتات أخرى في أياتٍ أخرى كالرمان والزيتون والأعناب (...وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ… - الأنعام، 99). كما ذكر الثمرات (...وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ…- البقرة، 22) والفاكهة (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ - يس، 57). لكن اللهَ سبحانه وتعالى لم يذكر لا أنواعَ الرمان ولا أنواعَ الزيتون ولا أنواعَ الأعناب والثمرات والفاكهة. الرمان والزيتون والأعناب والفاكهة والثمرات أسماءٌ شاملة تدخل فيها كل أنواع الرمان والزيتون والأعناب والفاكهة والثمرات. وهذا هو ما يجعل الآيتين السابقتين صالحتين لكل زمان ومكان.
في مجال المخلوقات الحية، اخترتُ كذلك الحيوانَ. من خلال الآيتين التاليتين :
"وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (النور، 45)
"وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ" (الشورى، 29).
الدابة هي كل ما يَدُبُّ، أي كل ما يمشي أو يسير على سطح الأرض أو يدُبُّ في سمائها. وقد يُطلَق اسمُ دابة على كل جسمٍ تَدُبُّ فيه الحياة. وكما هو الشأن بالنسبة للنبات، فالدابة تبقى دابّةً سواءً في الماضي والحاضر والمستقبل. والدابة تبقى دابة ولو خضعت لتطوُّرٍ بيولوجي évolution biologique أو لطفرةٍ من الطفرات mutations. وحتى عندما يشير اللهُ سبحانه وتعالى لدواب أخرى (دابة بالمعنى الواسع، أي كل جسم تدب فيه الحياة)، فإنه، جلَّ ذكرُه، يشير إليها ليس بأسمائها الخاصة ولكن بأسمائها الواسعة noms génériques. وهذا هو ما يحدث في بعض الآيات التي تشير مثلا للنَّمل أو النَّحل. فهذان الإسمان، "نمل" و "نحل" يشملان كل أنواع النَّمل والنَّحل. وفي الآية الأولى، فرَّق اللهُ بين الدواب من حيث المشيِ وليس من حيث الأنواع. وفي نفس الآية، يقول سبحانه وتعالى: "...يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ…"، أي أنه، إذا أراد، قادرٌ على خلق دواب أو مخلوقات أخرى. وهذا الخلق تمَّ في الماضي ويمكن أن يتِمَّ في الحاضر والمستقبل، لأن فِعلَي "يخلق" و "يشاء" مستعملة في الآية الأولى بصيغة المضارع. فالله سبحانه وتعالى خلق الدوابَ في الماضي وهو قادر على خلقِها، من جديد، في الحاضر والمستقبل. وهذا دليلٌ آخر على أن الآيتين صالحتان لكل زمان ومكان.
في مجال الأرزاق، اخترتُ الآيتين التاليتين :
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (الرعد، 26).
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (هود، 6).
في الآية الأولى، اللهُ يوسِّع الرزقَ أو يُضيِّقه لمن يشاء من عباده. وهذا يعني أن توسيعَ الرزق أو تضييقُه رهينان بمشيئة الله. ومشيئةُ الله، كوجوده، لا بدايةَ لها ولا نهاية. فتوسيع الرزق أو تضييقُه كانا ولا يزالا وسيبقيان مرتبطين بمشيئة الله.
في الآية الثانية، يقول سبحانه وتعالى إنه يضمن الرزقَ لكل الدواب أو المخلوقات الحية (الدابة هنا مستعملة بالمعنى الواسع، أي كل جسم تدبُّ فيه الحياة بما فيها الإنسان كان مؤمنا أو كافرا). والرزق مضمون، موسَّعاً أو مضيَّقاً، لجميع الدواب سواءً تلك التي خُلِقت في الماضي أو التي تُخلَق في الحاضر أو تلك التي ستُخلَق في المستقبل.
وما أريد أن أختمَ به هذه المقالة، هو أن القرآنَ الكريمَ مليء بهذا النوع من الآيات ومليء كذلك بالأسماء الواسعة الدلالة noms génériques التي تشمل العديدَ من الأشياء المختلفة لكنها تنتمي إلى نفس الجنس appartient au même genre . فمثلا عندما نقول "ذنب"، فكلمة "ذنب" كلمةٌ أو إسمٌ واسع الدلالة، أي تشمل كل الذنوب كيفما كان نوعُها ومصدرها.فالذنب يمكن أن يكونَ ناتجا عن كذب أو سرقة أو خيانة أو تعسُّف أو احتقار أو ظلم… والذنبُ يبقى ذنبا سواءً تم اقترافُه في الزمان الماضي أو في الزمان الحاضر أو في المستقبل.
ولهذا، فالكلمات الواسعة الدلالة التي تحتوي عليها آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم، تفتح البابَ لتفسير هذه الآيات تفسيرا ينطبق على امتداد الزمان ماضيا، حاضرا ومستقبلا. من بين هذه الكلمات الواسعة الدلالة، أذكُرُ على سبيل المثال : عِلم، شجر، رحمة، لٌطف، نِعمة، خير، يُسر، حق، باطل، بِرّ، إحسان، صالح (صالحات)، ظلم، سيئة، إثم، فضل…
صحيح أن العديدَ من آيات القرآن الكريم لها أسبابُ نزولها وكثير منها نزل بدون سبب. وأسباب النزول تجعل من الآيات التي لها علاقة بهذا النزول، مرتبطةً بزمان ومكان معينَين. والارتباط يتمثَّل في حادث أو واقعة أو أشخاص معينِين أو سؤال من الأسئلة موجَّه للرسول محمد (ص). لكن، في نهاية المطاف، سواءً تعلَّق الأمرُ بالآيات التي لها أسباب نزول أو تلك التي نزلت بدون سبب، فالهدف منها هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتسهيل تساكنهم وتعايشهم في المجتمعات البشرية. ولا داعيَ للقول إن تساكنَ وتعايشَ الناس في المجتمعات البشرية، إن اختلفت ظروفُه، زمانا ومكانا، فهو كمفهوم بشري له طابَع إنساني، ديني، أخلاقي، سلوكي، اجتماعي…، عابرٌ للزمان والمكان، أي لا يتغيَّر معناه العميق (الفلسفي).
بعد هذا التوضيح، فيما يلي، هذه بعض الآيات التي، من الممكن، أن ينطبقَ محتواها وحِكَمُها على الماضي والحاضر والنستقبل.
في مجال سلوك الإنسان وأخلاقه، اخترتُ النفاقَ والفسادَ. فيما يخص النفاقَ، اخترتُ الآيتين التاليتين:
1."الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة، 67).
2."إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال، 49).
النفاق hypocrisie هو أن يَظهَرَ الشخصُ للناس في حال مغايرٍ لذلك الذي هو مُبطَّنٌ في ذاته. وبعبارة أخرى، النفاق هو أن يُخفيَ شحصٌ حقيقةَ أمره أو نواياه الحقيقية، أي أن يتظاهرَ بسلوك وبأحاسيس وآراء وصفات لا يملكها حقّاً ليظهرَ للناس وكأنه ملاكٌ وليكسبَ ثقتَهم.
في مضمون الآيتين أعلاه، لم يحدِّد سبحانه وتعالى هويةَ هؤلاء المنافقين والمنافقات. بل ليس هناك في مضمون هاتين الآيتين شيءٌ يدل على أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، ربط وجود هؤلاء المنافقين والمنافقات بزمان أو مكان معيَّنين. فالنفاق، كسلوك، يبقى ملازما للبشر أينما حلوا وارتحلوا. وسواءً كان هذا النفاق ملازما للأقوام الغابرة أو اتصف به الناسُ خلال فترة بعث الرسول محمد (ص)، فإنه، كسلوك بشري، يبقى ملازما لفئة من الناس اليوم وغدا وبعد غد… إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. ولا داعيَ للقول أن النفاقَ، في العصر الحاضر، أصبح منتشرا في كل مكان ولا سيما في مجال المعاملات البشرية. معاملات أصبحت تحكمها مصالحٌ مادية على الخصوص. وما يدعِّم صلاحيةَ هاتين الآيتين حاضراً ومستقبلاً، هو أن الأفعالَ التي وردت، بالأخص في الآية الأولى، جاءت بصيغة المضارع. والفعل المضارع يعبِّر عن شيءٍ يحدث في الحاضر والمستقبل. والنفاق، كسلوك بشري، لا يتغيَّر لغوياً وتفسيراً.
في مجال سلوك الإنسان وأخلاقه، اخترتُ كذلك الفسادَ من خلال الآيتين التاليتين:
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة، 205).
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم، 41).
الفساد لغويا هو كل ما يحدث من خللٍ أو اضطرابٍ أو تلفٍ أو عطبٍ في أمور الدنيا، المادية منها والمعنوية. وبصفة عامة، الفساد هو كل ما يُعكِّر المعاملات البشرية ويُحرِّفها عن غاياتها النبيلة. والفساد يمكن أن يكونَ نفسيا، إنسانيا، اجتماعيا، أخلاقيا، ماليا، اقتصاديا، سياسيا، طبيعيا، بيئيا… وقد يكون الفساد فِسقا أو لهوا أو انحلالا أو استبدادا… فكما هو الشأن للنفاق، فالفساد واحد من الانحرافات البشرية التي هي ملازمة للإنسان ما دام سلوكُه أو طَبعُه متأرجحا بين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث وبين الخير والشر… فالفسادُ كان موجودا في الأزمنة الغابرة وفي عهد الرسول محمد (ص) ولا يزال قائما إلى يومنا هذا. غير أن الفسادَ مذموم عند الله كما جاء في الآية الأولى: "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ". لاَ، حرفُ نفيٍ و"يحب" فعلٌ مضارعٌ، أي أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يحب الفسادَ في حاضر الأزمنة الغابرة وفي حاضر عهد الرسول وفي ما يأتي من الزمان. والله سبحانه وتعالى لم يوضَّح ما هي أنواع الفساد. وهذا دليلُ على أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، لا يحب الفسادَ كيفما كان نوعُه. كما أنه، سبحانه وتعالى، لم يُشر إلى أنواع النفاق. وهذه ميزة من مزايا القرآن الكريم حيث أن اللهَ، جلَّ ذكرُه، يُشيرُ فيه إلى الأمور الدنيوية المادية والمعنوية، في جوانبها الإنسانية، الأخلاقية والسلوكية، بمعانيها الواسعة حتى تبقى صالحةً لكل زمان ومكان.
في مجال المخلوقات الحية، اخترتُ النباتَ والحيوانَ. فيما يخص النباتَ اخترتُ الآيتين التاليتين :
"وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ…" (الأنعام، 99).
"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ" (طه، 53).
في هاتين الآيتين، "النبات" plante اسمٌ يُطلقُ على جميع النباتات. و النبات يبقى نباتا سواءً في الماضي والحاضر والمستقبل. بل إن عبارة "نباتَ كل شيء" في الآية الأولى وعبارة "من نباتٍ شتى"، في الآية الثانية، تشيرُان إلى أن النباتَ أنواع دون الإشارة الواضحة والبيِّنة لهذه الأنواع. وعدم الدخول في تفاصيل الأشياء، كما سبق الذكرُ، ميزةٌ من مزايا القرآن الكريم حتى يبقى محتواه صالحا لكل زمان ومكان. وحتى لو أن بعض أنواع النبات التي كانت موجودة في الأزمنة الغابرة، انقرضت ولم يعد لها أثر، فالنباتُ يبقى نباتا ولو انقرض ولو ظهرت أنواعٌ جديدةٌ من النبات. وقد ذكر اللهُ سبحانه وتعالى نباتات أخرى في أياتٍ أخرى كالرمان والزيتون والأعناب (...وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ… - الأنعام، 99). كما ذكر الثمرات (...وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ…- البقرة، 22) والفاكهة (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ - يس، 57). لكن اللهَ سبحانه وتعالى لم يذكر لا أنواعَ الرمان ولا أنواعَ الزيتون ولا أنواعَ الأعناب والثمرات والفاكهة. الرمان والزيتون والأعناب والفاكهة والثمرات أسماءٌ شاملة تدخل فيها كل أنواع الرمان والزيتون والأعناب والفاكهة والثمرات. وهذا هو ما يجعل الآيتين السابقتين صالحتين لكل زمان ومكان.
في مجال المخلوقات الحية، اخترتُ كذلك الحيوانَ. من خلال الآيتين التاليتين :
"وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (النور، 45)
"وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ" (الشورى، 29).
الدابة هي كل ما يَدُبُّ، أي كل ما يمشي أو يسير على سطح الأرض أو يدُبُّ في سمائها. وقد يُطلَق اسمُ دابة على كل جسمٍ تَدُبُّ فيه الحياة. وكما هو الشأن بالنسبة للنبات، فالدابة تبقى دابّةً سواءً في الماضي والحاضر والمستقبل. والدابة تبقى دابة ولو خضعت لتطوُّرٍ بيولوجي évolution biologique أو لطفرةٍ من الطفرات mutations. وحتى عندما يشير اللهُ سبحانه وتعالى لدواب أخرى (دابة بالمعنى الواسع، أي كل جسم تدب فيه الحياة)، فإنه، جلَّ ذكرُه، يشير إليها ليس بأسمائها الخاصة ولكن بأسمائها الواسعة noms génériques. وهذا هو ما يحدث في بعض الآيات التي تشير مثلا للنَّمل أو النَّحل. فهذان الإسمان، "نمل" و "نحل" يشملان كل أنواع النَّمل والنَّحل. وفي الآية الأولى، فرَّق اللهُ بين الدواب من حيث المشيِ وليس من حيث الأنواع. وفي نفس الآية، يقول سبحانه وتعالى: "...يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ…"، أي أنه، إذا أراد، قادرٌ على خلق دواب أو مخلوقات أخرى. وهذا الخلق تمَّ في الماضي ويمكن أن يتِمَّ في الحاضر والمستقبل، لأن فِعلَي "يخلق" و "يشاء" مستعملة في الآية الأولى بصيغة المضارع. فالله سبحانه وتعالى خلق الدوابَ في الماضي وهو قادر على خلقِها، من جديد، في الحاضر والمستقبل. وهذا دليلٌ آخر على أن الآيتين صالحتان لكل زمان ومكان.
في مجال الأرزاق، اخترتُ الآيتين التاليتين :
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (الرعد، 26).
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (هود، 6).
في الآية الأولى، اللهُ يوسِّع الرزقَ أو يُضيِّقه لمن يشاء من عباده. وهذا يعني أن توسيعَ الرزق أو تضييقُه رهينان بمشيئة الله. ومشيئةُ الله، كوجوده، لا بدايةَ لها ولا نهاية. فتوسيع الرزق أو تضييقُه كانا ولا يزالا وسيبقيان مرتبطين بمشيئة الله.
في الآية الثانية، يقول سبحانه وتعالى إنه يضمن الرزقَ لكل الدواب أو المخلوقات الحية (الدابة هنا مستعملة بالمعنى الواسع، أي كل جسم تدبُّ فيه الحياة بما فيها الإنسان كان مؤمنا أو كافرا). والرزق مضمون، موسَّعاً أو مضيَّقاً، لجميع الدواب سواءً تلك التي خُلِقت في الماضي أو التي تُخلَق في الحاضر أو تلك التي ستُخلَق في المستقبل.
وما أريد أن أختمَ به هذه المقالة، هو أن القرآنَ الكريمَ مليء بهذا النوع من الآيات ومليء كذلك بالأسماء الواسعة الدلالة noms génériques التي تشمل العديدَ من الأشياء المختلفة لكنها تنتمي إلى نفس الجنس appartient au même genre . فمثلا عندما نقول "ذنب"، فكلمة "ذنب" كلمةٌ أو إسمٌ واسع الدلالة، أي تشمل كل الذنوب كيفما كان نوعُها ومصدرها.فالذنب يمكن أن يكونَ ناتجا عن كذب أو سرقة أو خيانة أو تعسُّف أو احتقار أو ظلم… والذنبُ يبقى ذنبا سواءً تم اقترافُه في الزمان الماضي أو في الزمان الحاضر أو في المستقبل.
ولهذا، فالكلمات الواسعة الدلالة التي تحتوي عليها آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم، تفتح البابَ لتفسير هذه الآيات تفسيرا ينطبق على امتداد الزمان ماضيا، حاضرا ومستقبلا. من بين هذه الكلمات الواسعة الدلالة، أذكُرُ على سبيل المثال : عِلم، شجر، رحمة، لٌطف، نِعمة، خير، يُسر، حق، باطل، بِرّ، إحسان، صالح (صالحات)، ظلم، سيئة، إثم، فضل…