د. زياد العوف - اللغة العربيّة ودورها الحضاريّ في فكر محمّد كُرد عليّ *

في كتابه القيِّم "الإسلام والحضارة العربيّة"** يعرِض العلّامةُ محمّد كُرد علي لجوانب من الحضارة العربية الإسلامية، وذلك انطلاقاً من غَيرته الفكريّة والعلميّة على هذه الحضارة ومنجزاتها الكبرى عبر العصور؛ متصَدّياً بذلك لخصومها من الأعداء الظاهرين، والشعوبيين الحاقدين من القدماء والمُحدَثين.
فكان هذا الكتاب حصيلة علميّة تاريخيّة أعقبتْ مشاركته في مؤتمر المشرقيات الذي عُقِد في هولندا عام(١٩٣١م) ممثِّلاً للمجمع العلميّ العربيّ في دمشق آنذاك.
جاء في مقدّمة الكتاب:
" لمّا قرّر المجمع العلميّ العربي انتدابي إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيّات الذي عُقِدَ في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف سنة(١٩٣١م)، رغِبَ إليّ أعضاؤه المفكّرون أنْ ألقي فيه كلمةً أعرِض فيها لما لا يزال يسري على أَسَلات أقلام بعض مؤلّفي الغرب، ولا سيّما علماء المشرقيّات، من أمور نابية عن حدّ التحقيق والنَّصَفَة، كلّما ذكروا الإسلام وأهله، والعرب ومدنيتهم."(ص.٩)
يشير المؤلّف بعد ذلك إلى التقدّم العلمي والمعرفي والتّقانيّ الذي يَسِمُ الحضارة الحديثة وما صاحبه من تعارف وتفاعل بين الأمم والحضارات بما هو كفيل بنشر الحقائق وإماطة اللثام عن تاريخ الشعوب وحضارة الأمم بعيداً عن الشعوبية والتعصّب الأعمى.
لكنّه يأسف أشدّ الأسف لتمادي بعض من يُحسَبون على العلم والمعرفة في الباطل، فيقول:
" وإنّ فئة تمثّلتْ أساليب هذا العصر في البحث والحلّ، ولم تتحرّر إلى اليوم من سلطان العوامل الجنسيّة والدينية والسياسية، لَمؤاخَذَةٌ أشدّ المؤاخذة بأحكامها الجائرة على الإسلام والمسلمين، بَيْدَ أنّ الإعجاب بطرائق أولئك الباحثين لا يمنع من مناقشتهم في آراء لهم غيرِ سديدة، قال بها مَنْ قالوا ذهاباً مع أهواء النفس الكثيرة"(ص.٩)
لذا فإنّ المؤلّف يأخذ على عاتقه تصحيح أخطاء هؤلاء، وبيان فضل الحضارة العربية على الإنسانية، فيقول:
" وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفَوات مَن أساؤوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدَنيّتهم..."(ص.٩)
تناول المؤلّف في فصول كتابه هذا بالشرح والتفصيل النعرة الشعوبية عبر التاريخ، ثمّ فصّل القول في تاريخ العرب وحضارتهم قبل الإسلام وبعده، لينتقل بعد ذلك إلى مآثر الحضارة العربية الإسلامية كما تجلّتْ في المعارف والعلوم، ويخصّص فصلاً للحديث عن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية- وهو موضوع هذا المقال- يلي ذلك فصولٌ في تأثير العرب في الشعوب الأخرى، مشفوعة بأمثلة مختارة من الشعر والفنون، مع تسليط الضوء على حضارة العرب في الأندلس، وبيان طبيعة التفاعل الحضاري بين الغرب والشرق عبر محطّات تاريخية بارزة، وصولاً إلى تفصيل القول في الإدارة والسياسة في الدولة الإسلامية.
هذا..وقد وقع اختياري على الفصل الذي يحمل عنوان" مَواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية" لتفصيل القول فيه.
يبدأ المؤلّف بالإشارة إلى انتشار اللغة العربية وبيان أسباب هذا الانتشار، فيقول:
" كثُرَ المسلمون بمواليهم وبمَن دان بالإسلام في كلّ بلد نزلوه وحكموه، وهاجرت من بلاد العرب قبائل كثيرة نزلت الشام والعراق ومصر وشماليّ إفريقيّة والأندلس والجزيرة، فكانوا الدِّمنة التي قام عليها تعريب هذه الأقطار العظيمة، وأنشأ أهل الذِّمّة يتعلمون اللغة العربية بحكم الطبيعة، وربّما كان من أجمل السياسة في تعريب العناصر فَتْحُ العرب للمجوس واليهود والصابئة والنصارى وغيرهم بابَ الخدمة في الدولة.."(ص.١٥٩)
لقد وجد هذا الانفتاح الحضاريّ الإنسانيّ على الأقوام الأخرى صدىً طيّباً عند هؤلاء؛ فقابلوه بالإخلاص والاندماج الحيويّ في هذا المجتمع الجديد المتعدّد الأعراق، الموحَّد الأهداف والغايات.
يقول المؤلّف في ذلك:
" فلم يكن العرب يأبَون استعمال القبطيّ والفارسيّ والروميّ والإسبانيّ والكاتالانيّ والبروفنساليّ والبرتغاليّ والإيطاليّ، فاتّحدت مصلحة الموافِق والمخالِف تحت عَلَم الحرية العربية، وأخلص أهل الذّمة القصد للمسلمين فعاشوا في دولتهم الجديدة مغتبطين، وتعاون الكافّة فكانت هذه المدنيّة الباهرة."
(ص.ص ١٥٩-١٦٠)
ثمّ يشير المؤلّف إلى أثر اعتناق الإسلام عند غير العرب في انتشار العربية، فيقول:
" وممّا ساعد على انتشار العربية كون الصلاة بها فرضاً على كلّ أعجميّ انتحل الإسلام، فالأعجميّ يُسلِم ويتعرَّب، وإذا لم يُسلِم تضطرّه الحالُ إلى تعلّم لغة الدولة القائمة فيقرُب من العواطف
العربية."(ص.١٦١)
ويجب أنْ نشير بالتقدير والإعجاب إلى ما لاحظه محمّد كرد عليّ من دورٍ للّغة في توحيد العواطف والمشاعر بين الناطقين بها.
هذا، ولم يغفل المؤلف عن الإشادة بحيويّة اللغة العربية ومرونتها، كما تجلّتْ في التفاعل الخلّاق مع اللغات الأخرى، وكذا في قدرتها على التطور الذاتي بما يفي بحاجات المجتمع الجديد، يقول في ذلك:
" ..ثمّ إنّ هذا اللسان، على سَعته وسلاسته، لم يقف ولم يجمدْ، فنقل ألفاظاً من الفارسية والروميّة والعبرانيّة والحبشيّة والقبطيّة والهنديّة، وتركَ ألفاظاً عربية كانت مألوفة في عصر الجاهلية، واصطلح على كلمات عربية كانت تؤدّي معاني أخرى قبل الإسلام، وسعى العرب منذ كانت البلاد في طاعتهم، أنْ يجعلوا العربية لغة علم كما هي لغة دين وأدب وسياسة."
(ص.١٦١)
ثمّة حقيقة تاريخية مهمّة أخرى ذكرها المؤلّف في سياق حديثه عن موقف العرب من اللغات الأخرى واحترامهم لها وللناطقين بها،حيث يقول:
" ولم يحارب العرب لغات البلاد الأصليّة على رسوخها فيها، بل ساروا في نشر لغتهم بتعقّل، وراعى دُعاتهم سنن الطبيعة والنشوء، وعملتْ قاعدة الانتخاب الطبيعيّ عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نِحَلِهم ومِلَلِهم." (ص.١٦١)
ولا أظنّنا نُغالي في شيء إذا نحن أدرجنا هذه النظرات اللغوية النافذة للمؤرّخ المحقّق واللغويّ المدقّق محمّد كُرد عليّ في سياق" علم الاجتماع اللغويّ".
لقد عملتْ كلّ هذه الخصائص والمزايا التي تحلّتْ بها العربية على أنّ تحتلّ مكانها المرموق بين اللغات الأخرى على امتداد قرون بأكملها، يقول المؤلّف في ذلك:
" وأصبحتْ العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العِلْم عند الخواصّ في العالم المتمدّن، وصارت حاملة عَلَم التّقدّم الصحيح، وحافظت على تفوّقها وتصدّرها في المرتبة الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى آخر القرن الحادي عشر على أقلّ تعديل."
(ص.١٦٢)
أمّا عن ملامح تأثّر اللغات اللاتينية بالعربية فيتّضح بوجه خاصّ، فيما يرى المؤلّف، في كثير من الألفاظ والمصطلحات ذات الأصول العربية، وكذا في بعض المظاهر اللغوية، مثل أل التعريف على سبيل المثال.
يقول محمّد كرد علي في ذلك:
" وبعد هذا الاختلاط لا نستغرب أنْ نرى اليوم في الاسبانية كثيراً من الألفاظ العربية كأسماء البلاد والأنهار والنواحي.......وكلّ كلمة تبدأ عندهم بأل التعريف العربية هي عربية لا مَحَالة...................كما دخلتْ العربية في البرتغالية والإيطالية والفرنسية...." (ص.١٦٦)
ويشير المؤلّف إلى تأثير العربية في بعض اللغات الشرقية، فيقول:
" .....بقي الكلام على تأثّر اللغات الشرقية بها؛ فمن أهم اللغات التي تأثّرت بها اللغة الفارسيّة، مع أنّها كانت لغة حضارة راقية، وربّما كان نحو نصف ألفاظها اليوم عربياً، ومثل ذلك يُقال في اللغة العثمانية أو التركية على اختلاف لهجاتها.............واللغة العربية اليوم في السنغال هي لغة المسلمين، وتعتمد بقية اللغات الوطنية على على الحروف العربية في كتابة لغتها، وهي شائعة في السودان الفرنسي وفي شاطئ العاج، ويعتمدون في النيجر على الحروف العربية في تدوين لغاتهم."(ص.١٦٩)
ويختم الكاتب حديثه بالإشارة إلى واقع العربية في عصره المتمثّل في انتشار العاميّات ، على أنّه يلاحظ أنّ جوهر المشكلة إنّما يكمن في تفشّي الأميّة؛ أي أنّ انتشار التعليم، وهو ما يحدثُ فعلاً منذ عقود عديدة، كفيل، مع الوقت، بإعادة الاعتبار للفصحى، فيقول:
" وقد نشأ تكاثر اللهجات العربية من تنائي أقطارها، وانفصام عرى وحدتها.............وليست كثرة اللهجات بضارةٍ كثيراً ما دام المعوّل على الفصحى، والعاميّة تقرُب كلّ يوم خطوة منها، والضّار شيوع الأميّة في الأمة العربية."(ص.١٧٢)
سطور مضيئة تزخر بالمعرفة الدقيقة والرؤى العميقة والمعلومات القيِّمة والملاحظات الذكيّة تؤكّد، دون ريب، على المكانة الرفيعة التي يشغلها محمّد كرد علي بين أنداده من روّاد الفكر والتنوير العرب في القرن العشرين.

*-د. زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث، قراءة جديدة، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،٢٠٢٠م، ص ص ٢٠٩-٢١٥ .
**- محمّد كرد عليّ، الإسلام والحضارة العربية، مؤسّسة هنداوي،سي آي سي، المملكة المتّحدة،٢٠١٧م

دكتور زياد العوف



د. زياد.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى