د. أحمد الحطاب - الـــ"أنا" مقابلَ "نحن"

عندنا، في غالب الأحيان، يحدُثُ أن ال"أنا" يذوب في "نحن"، أي أن ال"أنا"، احتراما ل"نحن" أو، بكل بساطة، خوفا من ردَّة فعل "نحن"، ينصهر في "نحن"، وبالتالي، لا يجرُأُ على التَّعبير، على قول ما يفكِّر فيه أو تصحيح ما يبدو له غير ملائم لِما يفرضه العقل. عندنا، مسألة ال"أنا" مقابل "نحن" تشكِّل عائقا اجتماعيا كبيرا في وجه التَّعبير عن الأفكار وفي تحقيق العديدَ من الطموحات.

ومع ذلك، فإن ال"أنا"، عندما يبزغ داخلَ "نحن"، هو الذي بإمكانه أن يُغيِّرَ الأشياء على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، السياسي، العلمي، التكنولوجي… وذلك بفكره، بسلوكه، بإنتاجه، بابتكاره، بقدرته على المبادرة، بجُرأته وبسيره إلى الأمام…

عندنا، هذا الوضع المتمثِّل في طُغيان "نحن" على ال"أنا"، متواجد في الثقافة الشعبية المتداولة وذلك من خلال بعض المقولات التي تُعتَبَرُ، في غالب الأحيان، كحقائق مطلقة. وعلى سبيل المثال، نسمع هنا وهناك :

“ديرْ ما دارْ جاركْ ولا حَوّْلْ باب دارك” أو "أعود بالله مْنْ قُلْتْ أنا"

المقولة الأولى تدعو الناسَ لتقليد ما يفعله الجار دون التَّفكير في أسباب هذا التَّقليد. الأمر يتعلَّق إذن بتقليد أعمى قاتل وكابحٍ لروح المبادرة.

أما المقولة الثانية يبدو أن لها صبغة دينية لكن، في الحقيقة، لا تمتُّ بصلة للدين لأن هذا الأخير لا يمنع أيا كان أن يُعبِّرَ، بصفة فردية، عن آرائه، وبالأخص، عن الأفكار والأعمال التي تخلق السعادةَ أو تلك التي تُحسِّن ظروفَ العيش وتُعزِّز الراحةَ النفسيةَ وتقوي الاقتصاد… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ…" (التوبة، 105). أما الأشخاص الذين ينطقون بهذه المقولة لإظهار نرجسيتهم وغرورهم، عليهم أن يدركوا أن هذين العَيبين مذمومين من طرف الدين والمجتمع والأخلاق الحميدة…

حسب رأيي الشخصي، بما أن المقولة الثانية أُلصِقَت بها صبغة دينية التي، في الحقيقة، هي مجرَّدة منها، فهي (أي المقولة) أشد إساءةً للمجتمع من المقولة الأولى. وهذا ليس شيئا غريبا لأن هذا الوضعَ راجع، حسب ما يبدو لي، إلى إدراك الدين كملك عام إلزامي وقاهر عوض أن يُعتَبَرَ شأنا يتمُّ بين خالق ومخلوق.

في الحقيقة، هاتان المقولتان ليستا إلا صورتين نمطيتين stéréotypes تمَّ بناءُهما من طرف المجتمع الذي يجعلهما جزأً لا يتجزَّأ من الثقافة الشعبية. لا صلةَ لهما بالعقل السليم وبالمنطق. لكنهما يشكِّلأن عائقا لبزوغ ال"أنا" الذي هو مجبَرُ على الذوبان في "نحن"، وفي غالب الأحيان، من خلال تقليد أعمى وفي غياب تفكير مستنير. وحتى أُبرِّرَ اختفاءَ ال"أنا" أمام "نحن"، تجدر الإشارةُ إلى أن ال"أنا" يلجأ دائما إلى ما قاله ويقوله الآخرون عوض أن يُعبِّرَ عن ما يفكِّر فيه هو.

وهذا هو ما يحدث بالضبط في مجال التَّديُّن حيث شريحة عريضة من الناس تبني تديُّنَها من خلال ما يتداوله "نحن" في الثقافة الشعبية التي، جزء كبير منها، مبنيٌ على القيل والقال والتقليد الأعمى. وإذا اختلطا القيل والقال والتقليد الأعمى بالأمية، فذوبان ال"أنا" في "نحن" يصبح هو القاعدة. فما بالك بالأحزاب السياسية التي تستغل هذا الذوبان لتحقيق ما يحلو لها من مآرب وأغراض غير مشروعة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى