“الكلمة هي الظاهرة الأيديولوجية بامتياز”
ميخائيل باختين
على الرغم من أنه لم ينل في حياته أبدًا ما يستحقه، وظلَّتْ جمهرةُ فتوحاته العصيَّة طيلة حياته تقريبًا أسيرةَ نخبة ضيِّقة ما لبثت أن أطاحت بها يد القهر الستاليني قبل أن تجد متنفَّسَها في الهواء الأوربي، إلا أنَّ الأثرَ الذي تركه باختين على النقد الحديث يُشابهُ الأثَرَ الذي تركه أينشتاين على الفيزياء الحديثة.
تأسيسُه الشاق – مع رصفائه – لعلم الأدب، واجتراحاته النقدية الفذة، وحقوله المعرفية المتعددة ابتداءً من الفلسفة، واللغة، وعلم النفس، حتى الأنثروبولوجيا، والأيديولوجيا، وعلم الاجتماع التي أعاد تشبيكها، واستثمار كل تلك الحقول لتخصيبِ الخطاب النقدي، وسريان نسَغ المفاهيم التي أسسها بقطاف البنيوية وما بعدها، وكثافة إنتاجه الفكري رغم حياته الصعبة… وغيرها من الفتوحات هي – ربما – ما دفع تزفيتان تودوروف إلى منحه ذينك الوسامين الشاهقين في الأدب، والعلوم الإنسانية؛ فقد كتب تودوروف بالحرف: “يمكن للمرء أن يطري ميخائيل باختين دون كثير ارتياب لاعتبارين: إنه المفكر السوفيتي الأكثر أهمية في حقل العلوم الإنسانية، وأعظم منظِّر في حقل الأدب في القرن العشرين” (ميخائيل باختين :المبدأ الحواري، ص15).
من العسير لملمة أرشيف باختين (1895 – 1975) بشكل دقيق وقاطع؛ فبسبب السياق التاريخي الشائك الذي أنجز فيه معظم أعماله – بما في ذلك مرارة الاضطهاد السياسي والسجن والمرض والعزلة والمنع من النشر وتأخُّر بعض أعماله عقوداً قبل نشرها، والعثور على أعمال ناقصة له بعد وفاته، والنشر بأسماء مستعارة، وهوسه الدائب بإعادة الكتابة، ووصول أعماله إلينا عبر الترجمات المختلفة من الروسية الخ الخ – ظل باختين يصل إلينا مُجزَّأً على دفعات متقطِّعة.
تلقَّفَتِ المكتبة العربية إنتاج باختين باهتمام شديد، وترجمت أغلب أعماله، حيث تضم المكتبة العربية المترجمة لباختين: “جمالية الإبداع اللفظي” وقد ترجمه شكير نصر الدين، وصدر عن دار دال للنشر، دمشق 2011، و”الخطاب الروائي” ترجمة محمد برادة، و”الكلمة في الرواية” ترجمة يوسف حلاق، والكتابان مترجمان من كتاب باختين “إستاطيقا الرواية ونظريتها”، و”الماركسية وفلسفة اللغة” ترجمة محمد البكري ويمنى العيد، و”شعرية ديستوفسكي” ترجمة جميل نصيف التكريتي، و”أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة” ترجمة شكير نصر الله، وإصدار دار الجمل، بالإضافة إلى مجتزآت مختلفة متفرقة في المجلات والدوريات العربية، بالإضافة إلى الدرس النقدي الواسع لباختين والاشتغال على مفاهيمه في الخطاب الروائي ولاسيما في الحقل الأكاديمي المغاربي.
صدر كتاب “الكلمة في الرواية” في ترجمته العربية عن منشورات وزارة الثقافة في سوريا في العام 1988، نقله عن الروسية المترجم يوسف حلاق في ترجمة رصينة مشرقة تختلف كثيرًا عن ترجمة محمد برادة المربكة لنفس الكتاب عن الفرنسية.
يتكوَّن كتاب “الكلمة في الرواية” من خمسة فصول، ومقدمة قصيرة يوضِّح فيها باختين الفكرة الرئيسة لدراسته وهي تجاوز القطيعة بين “الشكلية” المجردة، والنزعة “الأيديولوجية” التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية، والكلمة هنا ليست خلية معزولة في يباس القواميس، بل هي “ظاهرة اجتماعية – اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً” (الكلمة في الرواية: 5)، وبذا يصهر باختين الأسلوبية بعلم اجتماع الأدب.
يؤسس باختين في كتابه هذا بعض مصطلحاته الأكثر مضاء في جسد النص الأدبي، مثل الحواريَّة، وأسْلبَة الرواية، والتنوُّع الكلامي للرواية. ويمثل الأخير حجر الزاوية في كتابه باعتباره السمة الأمسّ رحماً بالرواية، والمقدمة الضرورية لتجنيسها أدبياً “إذ بهذا التنوُّع الكلامي الاجتماعي، وبالتباين الفردي بين الأصوات الذي ينمو على أرضيته توزع الرواية مواضيعها كلها وعالمَ المعاني والأشياء الذي تصوّره وتعبر عنه توزيعاً أوركسترالياً”. وبينما يتبنَّى الشعر لغة محددة ويخضع “لتاريخيتها ومشروطيتها وخصوصيتها الاجتماعية”، ويكتفي الشاعر بلغة واحدة ووعي لغوي واحد مغلق مونولوجي حسب باختين، فإن الرواية “تفترض لا مركزة معنوية كلمية للعالم الأيديولوجي، ونوعاً من التشرد اللغوي للوعي الأدبي الذي فقد الوسط اللغوي الواحد”.
بتعبير باختيني آخر فبينما يتصدى الشعر لمركزة عالم الكلمة الأيديولوجية ثقافياً وقومياً وسياسياً وصهرها في لغة واحدة، فإن “الرواية والأجناس النثرية الفنية الأخرى المتصلة بها تتشكل تاريخياً في مجرى قوى اللامركزة: قوى النبذ”.
يهدِّدُ التنُّوع الكلامي للرواية تجانس لغة المركز إذن، يهدِّدُ معياريتها وحدودها الجامدة، ويخلخل سكونيتها لينفسح المجال لحضور المهمش، والمقصى، والمنفلت، فيدلف “الشماشة” بأسمالهم البالية ولغة الراندوك، والسكارى بلهجاتهم الملتوية، والمشرَّدون بنكاتهم الجانحة، بكلمة واحدة: يحضر كل ما تمَّ إقصاؤه بفضل هيمنة المركز إلى هامش الفاعلية، وهو حضور يختلف عن حضوره في القصيدة؛ فالمهمَّش في القصيدة لا يحضر إلا ليندمج بصوت الشاعر وينطق بلغته، فهو يحضر بشروط لغة القصيدة وجمالياتها التي تتستَّر على غيابهِ لتوالي تزييفه، وهكذا يتم نفيه مرة أخرى عبر لغة المركز وأيديولوجيته إلى يمبوس اللغات المهمشة.
تهديد لغة المركز يفضي بالضرورة إلى تهديد أيديولوجيا هذا المركز فـ “اللغة ممتلئة أيديولوجيا” كما تعلمنا مع باختين؛ وبخلخلة هذه الأيديولوجيا – عبر التنوع الكلامي – تنبعث اللغات واللهجات التي طمرتها اللغة الرسمية تحت تربتها المعيارية، ويستعيد المهمشون لسانهم المسروق وحيواتهم المستلبة، وتنفثئ مرارات الغُبْن الاجتماعي، وتنفتح الجراح التي اندملت زورًا، وفي خلفية كل ذلك سوف يزلزل صوت باختين – كما نِبُوءَات نيتشه – “المطلوب واللازم: أن يجتاح التنوُّع الكلامي الوعي الثقافي ولغتَه وينفذ إلى نواتِه، ويَشيعُ النسبيَّةَ في النظام اللغوي الأساسي للأيديولوجيا والأدب، ويحرمه من يقينيته الساذجة”، تلك اليقينيَّة الهشَّة التي تُمثِّلُ أحدَ أعطابنا الأساسية على ظهر هذا الكوكب.
وبهذا يكون باختين قد بدأ من النص لينتهي إلى العالم، بدأ بتأسيس الرواية لينتهي إلى إعادة صياغة تأسيس العالم: وهذه إحدى التجليات العديدة لعبقرية باختين.
د. هاشم ميرغني
* نقى عن موقع البعيد
ميخائيل باختين
على الرغم من أنه لم ينل في حياته أبدًا ما يستحقه، وظلَّتْ جمهرةُ فتوحاته العصيَّة طيلة حياته تقريبًا أسيرةَ نخبة ضيِّقة ما لبثت أن أطاحت بها يد القهر الستاليني قبل أن تجد متنفَّسَها في الهواء الأوربي، إلا أنَّ الأثرَ الذي تركه باختين على النقد الحديث يُشابهُ الأثَرَ الذي تركه أينشتاين على الفيزياء الحديثة.
تأسيسُه الشاق – مع رصفائه – لعلم الأدب، واجتراحاته النقدية الفذة، وحقوله المعرفية المتعددة ابتداءً من الفلسفة، واللغة، وعلم النفس، حتى الأنثروبولوجيا، والأيديولوجيا، وعلم الاجتماع التي أعاد تشبيكها، واستثمار كل تلك الحقول لتخصيبِ الخطاب النقدي، وسريان نسَغ المفاهيم التي أسسها بقطاف البنيوية وما بعدها، وكثافة إنتاجه الفكري رغم حياته الصعبة… وغيرها من الفتوحات هي – ربما – ما دفع تزفيتان تودوروف إلى منحه ذينك الوسامين الشاهقين في الأدب، والعلوم الإنسانية؛ فقد كتب تودوروف بالحرف: “يمكن للمرء أن يطري ميخائيل باختين دون كثير ارتياب لاعتبارين: إنه المفكر السوفيتي الأكثر أهمية في حقل العلوم الإنسانية، وأعظم منظِّر في حقل الأدب في القرن العشرين” (ميخائيل باختين :المبدأ الحواري، ص15).
من العسير لملمة أرشيف باختين (1895 – 1975) بشكل دقيق وقاطع؛ فبسبب السياق التاريخي الشائك الذي أنجز فيه معظم أعماله – بما في ذلك مرارة الاضطهاد السياسي والسجن والمرض والعزلة والمنع من النشر وتأخُّر بعض أعماله عقوداً قبل نشرها، والعثور على أعمال ناقصة له بعد وفاته، والنشر بأسماء مستعارة، وهوسه الدائب بإعادة الكتابة، ووصول أعماله إلينا عبر الترجمات المختلفة من الروسية الخ الخ – ظل باختين يصل إلينا مُجزَّأً على دفعات متقطِّعة.
تلقَّفَتِ المكتبة العربية إنتاج باختين باهتمام شديد، وترجمت أغلب أعماله، حيث تضم المكتبة العربية المترجمة لباختين: “جمالية الإبداع اللفظي” وقد ترجمه شكير نصر الدين، وصدر عن دار دال للنشر، دمشق 2011، و”الخطاب الروائي” ترجمة محمد برادة، و”الكلمة في الرواية” ترجمة يوسف حلاق، والكتابان مترجمان من كتاب باختين “إستاطيقا الرواية ونظريتها”، و”الماركسية وفلسفة اللغة” ترجمة محمد البكري ويمنى العيد، و”شعرية ديستوفسكي” ترجمة جميل نصيف التكريتي، و”أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة” ترجمة شكير نصر الله، وإصدار دار الجمل، بالإضافة إلى مجتزآت مختلفة متفرقة في المجلات والدوريات العربية، بالإضافة إلى الدرس النقدي الواسع لباختين والاشتغال على مفاهيمه في الخطاب الروائي ولاسيما في الحقل الأكاديمي المغاربي.
صدر كتاب “الكلمة في الرواية” في ترجمته العربية عن منشورات وزارة الثقافة في سوريا في العام 1988، نقله عن الروسية المترجم يوسف حلاق في ترجمة رصينة مشرقة تختلف كثيرًا عن ترجمة محمد برادة المربكة لنفس الكتاب عن الفرنسية.
يتكوَّن كتاب “الكلمة في الرواية” من خمسة فصول، ومقدمة قصيرة يوضِّح فيها باختين الفكرة الرئيسة لدراسته وهي تجاوز القطيعة بين “الشكلية” المجردة، والنزعة “الأيديولوجية” التي لا تقل عنها تجريداً في دراسة الكلمة الفنية، والكلمة هنا ليست خلية معزولة في يباس القواميس، بل هي “ظاهرة اجتماعية – اجتماعية في كل دوائر حياتها، وفي كل لحظاتها: من الصورة الصوتية حتى أشد طبقات معانيها تجريداً” (الكلمة في الرواية: 5)، وبذا يصهر باختين الأسلوبية بعلم اجتماع الأدب.
يؤسس باختين في كتابه هذا بعض مصطلحاته الأكثر مضاء في جسد النص الأدبي، مثل الحواريَّة، وأسْلبَة الرواية، والتنوُّع الكلامي للرواية. ويمثل الأخير حجر الزاوية في كتابه باعتباره السمة الأمسّ رحماً بالرواية، والمقدمة الضرورية لتجنيسها أدبياً “إذ بهذا التنوُّع الكلامي الاجتماعي، وبالتباين الفردي بين الأصوات الذي ينمو على أرضيته توزع الرواية مواضيعها كلها وعالمَ المعاني والأشياء الذي تصوّره وتعبر عنه توزيعاً أوركسترالياً”. وبينما يتبنَّى الشعر لغة محددة ويخضع “لتاريخيتها ومشروطيتها وخصوصيتها الاجتماعية”، ويكتفي الشاعر بلغة واحدة ووعي لغوي واحد مغلق مونولوجي حسب باختين، فإن الرواية “تفترض لا مركزة معنوية كلمية للعالم الأيديولوجي، ونوعاً من التشرد اللغوي للوعي الأدبي الذي فقد الوسط اللغوي الواحد”.
بتعبير باختيني آخر فبينما يتصدى الشعر لمركزة عالم الكلمة الأيديولوجية ثقافياً وقومياً وسياسياً وصهرها في لغة واحدة، فإن “الرواية والأجناس النثرية الفنية الأخرى المتصلة بها تتشكل تاريخياً في مجرى قوى اللامركزة: قوى النبذ”.
يهدِّدُ التنُّوع الكلامي للرواية تجانس لغة المركز إذن، يهدِّدُ معياريتها وحدودها الجامدة، ويخلخل سكونيتها لينفسح المجال لحضور المهمش، والمقصى، والمنفلت، فيدلف “الشماشة” بأسمالهم البالية ولغة الراندوك، والسكارى بلهجاتهم الملتوية، والمشرَّدون بنكاتهم الجانحة، بكلمة واحدة: يحضر كل ما تمَّ إقصاؤه بفضل هيمنة المركز إلى هامش الفاعلية، وهو حضور يختلف عن حضوره في القصيدة؛ فالمهمَّش في القصيدة لا يحضر إلا ليندمج بصوت الشاعر وينطق بلغته، فهو يحضر بشروط لغة القصيدة وجمالياتها التي تتستَّر على غيابهِ لتوالي تزييفه، وهكذا يتم نفيه مرة أخرى عبر لغة المركز وأيديولوجيته إلى يمبوس اللغات المهمشة.
تهديد لغة المركز يفضي بالضرورة إلى تهديد أيديولوجيا هذا المركز فـ “اللغة ممتلئة أيديولوجيا” كما تعلمنا مع باختين؛ وبخلخلة هذه الأيديولوجيا – عبر التنوع الكلامي – تنبعث اللغات واللهجات التي طمرتها اللغة الرسمية تحت تربتها المعيارية، ويستعيد المهمشون لسانهم المسروق وحيواتهم المستلبة، وتنفثئ مرارات الغُبْن الاجتماعي، وتنفتح الجراح التي اندملت زورًا، وفي خلفية كل ذلك سوف يزلزل صوت باختين – كما نِبُوءَات نيتشه – “المطلوب واللازم: أن يجتاح التنوُّع الكلامي الوعي الثقافي ولغتَه وينفذ إلى نواتِه، ويَشيعُ النسبيَّةَ في النظام اللغوي الأساسي للأيديولوجيا والأدب، ويحرمه من يقينيته الساذجة”، تلك اليقينيَّة الهشَّة التي تُمثِّلُ أحدَ أعطابنا الأساسية على ظهر هذا الكوكب.
وبهذا يكون باختين قد بدأ من النص لينتهي إلى العالم، بدأ بتأسيس الرواية لينتهي إلى إعادة صياغة تأسيس العالم: وهذه إحدى التجليات العديدة لعبقرية باختين.
د. هاشم ميرغني
* نقى عن موقع البعيد