د. أحمد الحطاب - قضاء مستقل ونزيه أم لوبيات تخضع للعرض والطلب؟

لا داعيَ للقول أن المشهد القضائي فيه كثيرٌ من القضاة النزهاء، الشرفاء والمشبَّعين بروح المواطنة والمتمسكين بتطبيق القانون ولا شيءَ غير القانون. هذا شيءٌ مفروغ منه ولا يحتاج إلى كثرة الكلام. لكن عامة الناس لا يرون في المشهد القضائي إلا فسادَه طبقا للمقولة الشعبية المشهورة : "حُوتَ وحْدَ كتْخَنّز الشواري". وهذا شيءٌ منطقي لأنه، من المفروض وعادي جدا، أن يكونَ هذا المشهد نظيفا وخاليا من كل فساد. بمعنى أن القضاءَ، كسلطة مستقلة عن السلطتين التَّشرعية والتَّنفيذية أُنشِأَت لتحميَ المواطنين من كل ظُلم كيفما كان نوعُه، من خلال تطبيق القانون تطبيقا صارما بعيدا عن كل الاعتبارات الاجتماعية.

ما دفعني أن أتطرَّقَ لهذا الموضوع هو الفساد الذي طال مؤخَّرا بعضَ القضاة و وُكلاء الملك الذين تورَّطوا في قضايا سادت فيها الرشوةُ والأحكام الجائرة التي حرمت مواطنين من نيل حقوقهم المشروعة.

وما دفعني أن يكونَ عنوانُ هذه المقالة على شكل سؤال، هو أن هؤلاء القضاة و وٌكلاء الملك الفاسدين ما يهمُّهم ليس تطبيق القانون تطبيقا صارما بدون تمييز. ما يهمٌّهم هو "العرض والطلب". كيف ذلك؟ العرض يتمثَّل في استعداد القاضي الفاسد على تقديم أحكام جائزة وغير عادلة. والطلب يتمثَّل فيما يدفعه المواطنون من رشاوي. وهذا يعني أننا أصبحنا أمام "سوق مزاد" marché aux enchères يكون فيه الامتياز لمَن يدفع أكثر. حينها، ما دام القاضي الفاسد مستعدا لتقديم أحكام غير عادلة، يصبح هناك تطاحُن بين المُدَّعي والمدَّعى عليه، أي الغَلَبَةُ لمَن يدفع أكثر.

أين هو احترام الدستور والمواطنة والإنسانية والأخلاق وأخلاقيات المهنة المتمثِّلة في القَسَم الذي يؤدِّيه القاضي بعد تخرُّجه من التَّكوين؟ وأين هي الديمقراطية التي تتشدَّق بها الأحزاب السياسية صبحَ مساء؟

القضاء كالسياسة، إذا تفشَّى في أحدهما الفساد، اختل كل شيء. وإذا أصابهما الفسادُ معا، وهذا هو الواقع المُر، فلنقل وداعا للعدل والإنصاف والحريات الفردية والجماعية والأمن والأمان والتعايش والتساكن في المجتمع…

وعندما أقول "هذا هو الواقع المُرُّ"، فإنه فعلا واقع مر. وهنا، لا بدَّ أن أذكِّر بأن قضيةَ فساد القضاء التي أشرتُ إليها أعلاه، لم تَطَلْ فقط قضاةً و وُكلام الملك. بل تبيَّن أن الأمرَ يتعلَّق بلوبيات فساد قائمة الذات يربط بين أعضائها تواطؤٌ شديدٌ ضد القانون. وهذا شيءٌ يلاحظه الحادي والبادي أمام المحاكم وفي المقاهي القريبة من هذه المحاكم!

فعلا، عندما نمر أمام المحاكم في أية مدينة من المُدن، إلا ونلاحظ تجمُّعا من البشر. من بين هؤلاء البشر، هناك شريحة مستعدة لتقديم شهادة زورٍ مقابل مبالغ مالية إلى درجة أن شهادة الزُّور أصبحت تجارةً أو مهنةً لها مُمارسوها. كما يوجد بين هذا التَّجمُّع سماسِرة المحامين والقضاة الذين يعرضون خدماتِهم على المدَّعين والمُدَّعى علبهم.

غير أن سماسرة المحامين والقضاة يطبخون صفقاتهم الخطيرة في المقاهي القريبة من المحاكم والتي أصبحت وَكرا من أوكار الفساد. فماذا يمكن استخلاصُه من وضعٍ اجتماعي أصاب الفسادُ، في آنٍ واحدٍ، مشهدَه السياسي ومشهدَه القضائي؟

ما يمكن استخلاصُه من هذا الوضع، أولا وقبل كل شيء، هو أن المواطنَ هو الضحية الأولى والأخيرة لهذا الفساد. كيف ذلك؟

1.في وطنٍ فاسدةٌ فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، يصبح الإفلاتُ من العقاب impunité هو السائد ويضيع الحق في حُكمٍ عادل ومُنصف. بل فلنقل وداعا لدولة الحق والقانون État de droit علما أن الدستورَ يُلحُّ إلحاحا شديدا على مساواة المواطنين أمام القانون.

2.في وطنٍ فاسدةٌ فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، يصبح الجشع cupidité والريعُ rente هما المُسيِّران الحقيقيان للشأن العام، وبالتالي، لا مجالَ للحديث عن فصل السلط لأن الفسادَ، كيفما كان نوعُه، يتواطأ دائما مع الفساد.

3.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، لا مجال للحديث عن حقوق الإنسان التي تُنتَهك انتهاكا صارخا بدون حسيب ولا رقيب.

4.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، تتزعزع ثقةُ المستثمرين، وبالتالي، يُضيِّع الاقتصادُ قيماتٍ مضافةً تنعكس سلبا على حجم الناتج الداخلي الخام Produit Interieur Brut وتضيع معها فرصُ الشغل.

5.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، لا مجال للحديث عن توزيعٍ عادلٍ ومنصِفٍ لثروات البلاد، وبالتالي، يزداد الفقرُ انتشارا وججما.

6.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، يسهل انصهار السلط بعضها في البعض الآخر. حينها، لا حدودَ لتدخلات السلطتين، التشريعية التَّنفيذية، في الشأن القضائي علما أن أساسَ الحكم العادل والمنُنصِف هو استقلالُ القضاء.

7.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، يُجبَر الفقراءُ، من أجل نيل حقوقِهم، على دفع مبالغ مالية كرشاوي ليسوا قادرين على توفيرها، وبالتالي، فأول ضحايا الفساد هم الفقراء.

8.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، عوض أن يكونَ السياسيون والهيآت القضائية هم أول مَن يحارب الفسادَ، فهم أول مَن يساعد على انتشاره وتفشِّيه في المجتمع.

9.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، قد يتعرَّض القضاةُ النزهاء والشرفاء إلى مضايقات قد تصل إلى فصلهم من سلك القضاء أو أضعف الإيمان، إلى نقلهم إلى أماكن بعيدة انتقاما من استقلاليتِهم في إصدار.ار الأحكام.

10.في وطنٍ فاسدة فيه السياسة وفاسد فيه القضاء، لا غرابة أن يبقى ناهِبو وسارِقو المال العام بدون عقاب. وأن يُزجَّ بالأبرياءُ في السجون ويتجوَّل المجرمون في الشوارع بحرية. وأن لا تُعاقبَ الزبونيةُ والمحسوبيةُ والاحتكارُ …
وأغرب ما في الأمر، هو أن البلادَ نالت استقلالَها منذ أكثر من 65 سنة غير أن القضاءَ لم يزل استقلالُه متأرجحا بين أحزاب سياسية غير مستقلة وغياب إرادة سياسية واضحةَ المعالم لمحاربة الفساد بجميع أشكاله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى