مما يُستغرَب له هو أن بعض الجهات التي تتَّخذ من الإسلام دينا، وخصوصا تلك التي اتَّخذت الدينَ من جانبِه المتطرِّف، تعتبِر ما أنتجته التِّكنولوجيا الغربية من وسائل ومُنتجات وآلات وأجهزة… بدعةً لسبب بسيط هو أنها لم تكن موجودةً في عهد الرسول (ص). بل إن أخطرَ تنظيم متطرِّف الذي هو "بوكو حرام" حرَّم قراءةَ الكُتُب خارج القرآن الكريم، وخصوصا تلك التي لها علاقة بالتعليم الغربي. ومن هنا، جاءت تسمية "بوكو حرام" التي تعني "التعليم الغربي حرام".
وهنا، لا تفوتني الفرصةُ لأقولَ إن تنظيمَ "بوكو حرام" والتنظيمات المُشابهة له يتناقض مع نفسِه ومع القرآن الكريم الذي، أول ما حثَّ عليه الرسول محمد (ص) هو القرءاة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ5…" (العلق، 1، 2، 3، 4، 5).
يتناقض مع نفسه لأنه يستعمل ما أنتجه الغرب من أسلحة وعتاد و وسائل نقل وتواصل. وما ينتجه الغربُ ناتج عن تعليمه.
يتناقض مع القرآن الكريم لأنه، كما سبق الذكرّ، أول ما حثَّ عليه اللهُ سبحانه وتعالى رسولَه محمد (ص) هو القرءاة. والقرآن الكريم، في نظر "بوكو حرام"، موجَّهٌ فقط وحصريا للمسلمين وهم فقط المطالبون بقراءته. بينما في الحقيقة هو موجَّه للبشرية جمعاء بشهادة القرآن نفسه. وهو ما يزيد في التَّناقض الذي يقع فيه "بوكو حرام"، علما أن القرآن الكريم يقرأه اليوم العالمُ كله، مسلمون وغير المسلمين بعد ترجمتُه إلى عدة لغات بما فيها لغات التعليم الغربي.
ما يتغاضى عنه "بوكو حرام" وكل التنظيمات المتطرِّفة أن اللهَ سبحانه وتعالى يوجِّه قرآنَه للبشرية جمعاء ومن ضمنها ناس البلدان الغَربية الذين حرَّم "بوكو حرام" تعليمَهم. بل إن هذه البلدان أنشأت هيئات متخصصة في قراءة القرآن ودراسته دراسةً علميةً. وأنا متأكِّد أن هذه الهيئات تدرك معاني القرآن الكريم ومغازيه وتستخلص منه الدروس أحسن بكثير من التنظيمات المتطرفة!
بعد هذه التوضيحات، يتبيَّن بجلاء أن ادِّعاءَ "بوكو حرام" والتنظيمات المشابهة له تركيزَ عملها على التَّعاليم الدينية الإسلامية ادِّعاءٌ خاطئ ومُضلِّل. ما يرتكز عليه عملُ التنظيمات المتطرِّفة هو إيديولوجيا لا تمتُّ بصلةٍ للدين الإسلامي. بل إنها إيديولوجيا تجعل من هذه التنظيمات بِنياتِ حاملةً لمشروع اجتماعي يتمثَّل في إعادة الخلافة كما كانت في السابق إلى أرض الواقع علما أن هذا المشروع يتنكَّر لكل تطوُّر فكري، علمي، تكنولوجي، اجتماعي… ويعتمد فقط وحصريا على ما قاله وأسسه السلف. مشروع يتم فرضُه على الناس، وإن اقتضى الحالُ، بالعنف والتنكيل والقتل. مشروع يتبنَّى إبادةَ غير المسلمين بتناقض صارخ مع ما أمر به اللهُ سبحانه وتعالى في سورة الحجرات الآية رقم 13: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". لتعارفوا عن طريق التَّصاهر والتبادل والتعاون والتعايش…
فما هو التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تجحده التنظيمات المتطرِّفة وتعتبِره بِدعة يجب التَّنكُّر لها؟
المقصود بالتقدم العلمي والتكنولوجي هو كل ما ينتجه عقل الإنسان من أفكار ومعلومات ونظريات و وسائل ومنتجات وأساليب فيها نفعٌ أو منفعةٌ للبلاد والعباد. فيها منفعةٌ للبلاد تعني أن التقدم العلمي والتِّكنولوجي يمكِّن هذه البلاد من الانتقال من وضعٍ حسنٍ إلى وضعٍ أحسن منه على جميع المستويات. فيها منفعةٌ للعباد تعني أن الناسَ بستفيدون، في حياتهم اليومية، من هذا التقدم وكذلك على جميع المستويات.
وبعبارة أخرى، التقدم العلمي والتكنولوجي هو الوسيلة الحضارية التي تمكِّن البلدانَ من تسلُّقِ درجات الرُّقيِّ اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا. تسلُّق الدرجات اجتماعيا يعني ضمان كرامة العيش للناس. وتسلُّق الدرجات اقتصاديا يعني أن يكونَ الاقتصاد منتِجا للقيمات المضافة وأن يساهمَ في تحسين كرامة العيش. وتسلُّق الدرجات ثقافيا يعني توفُّرَ الناس على مستوى ملائم من التعليم والوعي الوطني والسياسي.
والتقدم العلمي والتكنولوجي، إذا كان يصبُّ كله في منفعة البلاد والعباد، فهو نِعمةٌ من نِعَم الله. أما إذا صبَّ، ولو جزء منه، في إلحاق الأدى والضرر بالبلاد والعباد، فإن النِّعمةَ تنقلب إلى نِقمة.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، ما أريد أن ألِحَّ عليه هو أنه لا شيءَ في القرآن الكريم يتناقض مع التقدم العلمي والتكنولوجي ومع تطور الفكر ومع تطور التركيبات البشرية اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا ما دام هذا التقدم يأتي بالمنفعة للبلاد والعباد. وما اعتبرته وتعتبِره "بوكو حرام" والتنظيمات المشابهة له بدعةً غيرُ صحيح. أولا، لأن البدعةَ تنطبق فقط على العبادات. ثانيا، كل ما فيه منفعةٌ للناس لا تنطبق عليه البِدعةُ. وإذا لم تكن فيه منفعة للبلاد والعباد، فهو مخالفٌ للقانون والشرع والأعراف والأخلاق والأخلاقيات. والتقدم العلمي والتكنولوجي له منافع كثيرة علما أن هذا التقدم لطَّف ما هو شاق وقصَّر المسافات والوقت…
بل بالعكس، القرآن الكريم يحثُّ البشرَ على إعمار الأرض بكل ما فيه خيرٌ للبشر مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (هود، 61). صحيح أن كلامَ الله، في َهذه الآية، موجَّهٌ لقوم نبي الله صالح، أي قوم ثمود. لكن قومَ ثمود بشرٌ أنشأهم اللهُ من الأرض من خلال آدم عليه السلام. وكل البشر منحدرون من آدم وكلهم مطالبون بإعمار الأرض.
وإعمار الأرض في عهد قوم ثمود ليس هو إعمارُها في الوقت الراهن علما أن إعمارَ الأرض مصدرُه العقل والفكر والمعرفة التي يُنتِجها هذا الفكرُ. والفكرُ أو النمط الفكري الذي كان سائدا في عهد قوم ثمود ليس هو النمط الفكري السائد عند بشر المعمورة حاليا. لقد قطع الفكر البشري، منذ الازمنة الغابرة إلى يومنا هذا، أشواطا هائلة، باهرة ومُبهِرة من الرقي والنمو والازدهار.
ومرةً أخرى، أقول وأكرِّر القولَ أنه لا شيءَ في القرآن الكريم يتناقض مع ازدهار العقل البشري وتطوُّر نمط تفكيره. بل بالعكس، القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ من آياته يحث على هذين الازدهار والتَّطوُّر، في غالب الأحيان بصفة غير مباشرة.
وفي هذا الصدد، فكم هي عديدة الآيات التي يتوجَّه فيها سبحانه وتعالى إلى الناس من ذوي الألباب، أي من ذوي العقول النَّيِّرة والمستنيرة ليدعوَهم للتَّأمُّل والتَّمعُّن في آياته. وكم هي عديدة آياتُ القرآن الكريم التي تنتهي بأفعال من قبيل : "يتفكَّرون"، "يتذكَّرون"، "يعقلون"، "أولي النُّهى"... أليست هذه الأفعالُ نداء من الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يستعملَ عقلَه من أجل التفكُّر والتَّذكُّر والتَّعقُّل إزاء آياته الكريمة؟ وكم هي عديدة الآيات التي التي تتطلَّب من قارئها أن يتوقَّف، بالعقل، عندها ويتأمَّل في معناها ومغزاها. وفيما يلي، سأكتفي بآيةٍ واحدة كمثال. هي كالتالي :
"لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (غافر، 57).
ما يُثيرُ الانتباهَ في هذه الآية هو عبارة "وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". وهذا يعني أن هناك من الناس مَن يُدرك أن خلقَ الناس هيِّنٌ على الله من خلقِه السماوات والأرض. ومَن يدرك هذا؟ بالطبع هم أولو الألباب والعقول النَّيرة من المفكرين والباحثين والعلماء (العلم بمفهومه الشامل وليس بمفهوم الفقهاء المقتصر على العلوم الدينية) والفيزيائيبن والفلكيين والمؤرخين والانثروبولوجيين… وفعل "يعلمون" مُصاغٌ بصيغة المضارع، أي لا يعلمون في الحاضر والمستقبل. وعبارة "أكثر الناس" تفيدنا بأن هناك من الناس مَن يُدرك في الحاضر وسيُدرك في .المستقبل. والنمط الفكري الذي هو موجود في الحاضر ليس هو النمط الفكري الذي سيتشكَّل في المستقبل! أليست هذه إشارةٌ لتطوُّر العقل البشري؟
أليست كل التوضيحات السابقة تكذيبٌ قاطعٌ لما يدَّعيه "بوكو حرام" والتَّنظيمات المشابهة له بأنهم يستلهمون عملَهم من التَّعاليم الإسلامية؟ أليست هذه التوضيحات تُبيِّن أن ادِّعاءًهم هذا كذبٌ وتضليلٌ بينما هم، في الخقيقة، يحملون مشروعا خطيرا يريدون من خلالِه بسطَِ نفوذهم على الغير عند وصولهم إلى السلطة. وخطورة مشروعهم تكمن في كونهم يرفضون العقول النيِّرة التي تفكِّر وتُبدع وتبتكر. إنهم يريدون العقول الجامدة والطَّيِّعة التي لا تعرف سبيلا إلى قول "لا" ولا تعرف سبيلا إلى النقاش والنقد البنَّاء. عقول تعتمد فقط وحصريا على ما تقوله النصوصُ التي خلَّفها السلفُ. عقول تستجيب على الفور لما يقوله سادةُ وأمراءُ التنظيمات.
إنه، بكل بساطة، استبدادٌ مقنَّعٌ ومغلَّفٌ باعتباراتٍ دينية لا تمتُّ بصلة للإسلام!
وهنا، لا تفوتني الفرصةُ لأقولَ إن تنظيمَ "بوكو حرام" والتنظيمات المُشابهة له يتناقض مع نفسِه ومع القرآن الكريم الذي، أول ما حثَّ عليه الرسول محمد (ص) هو القرءاة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ5…" (العلق، 1، 2، 3، 4، 5).
يتناقض مع نفسه لأنه يستعمل ما أنتجه الغرب من أسلحة وعتاد و وسائل نقل وتواصل. وما ينتجه الغربُ ناتج عن تعليمه.
يتناقض مع القرآن الكريم لأنه، كما سبق الذكرّ، أول ما حثَّ عليه اللهُ سبحانه وتعالى رسولَه محمد (ص) هو القرءاة. والقرآن الكريم، في نظر "بوكو حرام"، موجَّهٌ فقط وحصريا للمسلمين وهم فقط المطالبون بقراءته. بينما في الحقيقة هو موجَّه للبشرية جمعاء بشهادة القرآن نفسه. وهو ما يزيد في التَّناقض الذي يقع فيه "بوكو حرام"، علما أن القرآن الكريم يقرأه اليوم العالمُ كله، مسلمون وغير المسلمين بعد ترجمتُه إلى عدة لغات بما فيها لغات التعليم الغربي.
ما يتغاضى عنه "بوكو حرام" وكل التنظيمات المتطرِّفة أن اللهَ سبحانه وتعالى يوجِّه قرآنَه للبشرية جمعاء ومن ضمنها ناس البلدان الغَربية الذين حرَّم "بوكو حرام" تعليمَهم. بل إن هذه البلدان أنشأت هيئات متخصصة في قراءة القرآن ودراسته دراسةً علميةً. وأنا متأكِّد أن هذه الهيئات تدرك معاني القرآن الكريم ومغازيه وتستخلص منه الدروس أحسن بكثير من التنظيمات المتطرفة!
بعد هذه التوضيحات، يتبيَّن بجلاء أن ادِّعاءَ "بوكو حرام" والتنظيمات المشابهة له تركيزَ عملها على التَّعاليم الدينية الإسلامية ادِّعاءٌ خاطئ ومُضلِّل. ما يرتكز عليه عملُ التنظيمات المتطرِّفة هو إيديولوجيا لا تمتُّ بصلةٍ للدين الإسلامي. بل إنها إيديولوجيا تجعل من هذه التنظيمات بِنياتِ حاملةً لمشروع اجتماعي يتمثَّل في إعادة الخلافة كما كانت في السابق إلى أرض الواقع علما أن هذا المشروع يتنكَّر لكل تطوُّر فكري، علمي، تكنولوجي، اجتماعي… ويعتمد فقط وحصريا على ما قاله وأسسه السلف. مشروع يتم فرضُه على الناس، وإن اقتضى الحالُ، بالعنف والتنكيل والقتل. مشروع يتبنَّى إبادةَ غير المسلمين بتناقض صارخ مع ما أمر به اللهُ سبحانه وتعالى في سورة الحجرات الآية رقم 13: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". لتعارفوا عن طريق التَّصاهر والتبادل والتعاون والتعايش…
فما هو التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تجحده التنظيمات المتطرِّفة وتعتبِره بِدعة يجب التَّنكُّر لها؟
المقصود بالتقدم العلمي والتكنولوجي هو كل ما ينتجه عقل الإنسان من أفكار ومعلومات ونظريات و وسائل ومنتجات وأساليب فيها نفعٌ أو منفعةٌ للبلاد والعباد. فيها منفعةٌ للبلاد تعني أن التقدم العلمي والتِّكنولوجي يمكِّن هذه البلاد من الانتقال من وضعٍ حسنٍ إلى وضعٍ أحسن منه على جميع المستويات. فيها منفعةٌ للعباد تعني أن الناسَ بستفيدون، في حياتهم اليومية، من هذا التقدم وكذلك على جميع المستويات.
وبعبارة أخرى، التقدم العلمي والتكنولوجي هو الوسيلة الحضارية التي تمكِّن البلدانَ من تسلُّقِ درجات الرُّقيِّ اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا. تسلُّق الدرجات اجتماعيا يعني ضمان كرامة العيش للناس. وتسلُّق الدرجات اقتصاديا يعني أن يكونَ الاقتصاد منتِجا للقيمات المضافة وأن يساهمَ في تحسين كرامة العيش. وتسلُّق الدرجات ثقافيا يعني توفُّرَ الناس على مستوى ملائم من التعليم والوعي الوطني والسياسي.
والتقدم العلمي والتكنولوجي، إذا كان يصبُّ كله في منفعة البلاد والعباد، فهو نِعمةٌ من نِعَم الله. أما إذا صبَّ، ولو جزء منه، في إلحاق الأدى والضرر بالبلاد والعباد، فإن النِّعمةَ تنقلب إلى نِقمة.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، ما أريد أن ألِحَّ عليه هو أنه لا شيءَ في القرآن الكريم يتناقض مع التقدم العلمي والتكنولوجي ومع تطور الفكر ومع تطور التركيبات البشرية اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا ما دام هذا التقدم يأتي بالمنفعة للبلاد والعباد. وما اعتبرته وتعتبِره "بوكو حرام" والتنظيمات المشابهة له بدعةً غيرُ صحيح. أولا، لأن البدعةَ تنطبق فقط على العبادات. ثانيا، كل ما فيه منفعةٌ للناس لا تنطبق عليه البِدعةُ. وإذا لم تكن فيه منفعة للبلاد والعباد، فهو مخالفٌ للقانون والشرع والأعراف والأخلاق والأخلاقيات. والتقدم العلمي والتكنولوجي له منافع كثيرة علما أن هذا التقدم لطَّف ما هو شاق وقصَّر المسافات والوقت…
بل بالعكس، القرآن الكريم يحثُّ البشرَ على إعمار الأرض بكل ما فيه خيرٌ للبشر مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (هود، 61). صحيح أن كلامَ الله، في َهذه الآية، موجَّهٌ لقوم نبي الله صالح، أي قوم ثمود. لكن قومَ ثمود بشرٌ أنشأهم اللهُ من الأرض من خلال آدم عليه السلام. وكل البشر منحدرون من آدم وكلهم مطالبون بإعمار الأرض.
وإعمار الأرض في عهد قوم ثمود ليس هو إعمارُها في الوقت الراهن علما أن إعمارَ الأرض مصدرُه العقل والفكر والمعرفة التي يُنتِجها هذا الفكرُ. والفكرُ أو النمط الفكري الذي كان سائدا في عهد قوم ثمود ليس هو النمط الفكري السائد عند بشر المعمورة حاليا. لقد قطع الفكر البشري، منذ الازمنة الغابرة إلى يومنا هذا، أشواطا هائلة، باهرة ومُبهِرة من الرقي والنمو والازدهار.
ومرةً أخرى، أقول وأكرِّر القولَ أنه لا شيءَ في القرآن الكريم يتناقض مع ازدهار العقل البشري وتطوُّر نمط تفكيره. بل بالعكس، القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ من آياته يحث على هذين الازدهار والتَّطوُّر، في غالب الأحيان بصفة غير مباشرة.
وفي هذا الصدد، فكم هي عديدة الآيات التي يتوجَّه فيها سبحانه وتعالى إلى الناس من ذوي الألباب، أي من ذوي العقول النَّيِّرة والمستنيرة ليدعوَهم للتَّأمُّل والتَّمعُّن في آياته. وكم هي عديدة آياتُ القرآن الكريم التي تنتهي بأفعال من قبيل : "يتفكَّرون"، "يتذكَّرون"، "يعقلون"، "أولي النُّهى"... أليست هذه الأفعالُ نداء من الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يستعملَ عقلَه من أجل التفكُّر والتَّذكُّر والتَّعقُّل إزاء آياته الكريمة؟ وكم هي عديدة الآيات التي التي تتطلَّب من قارئها أن يتوقَّف، بالعقل، عندها ويتأمَّل في معناها ومغزاها. وفيما يلي، سأكتفي بآيةٍ واحدة كمثال. هي كالتالي :
"لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (غافر، 57).
ما يُثيرُ الانتباهَ في هذه الآية هو عبارة "وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". وهذا يعني أن هناك من الناس مَن يُدرك أن خلقَ الناس هيِّنٌ على الله من خلقِه السماوات والأرض. ومَن يدرك هذا؟ بالطبع هم أولو الألباب والعقول النَّيرة من المفكرين والباحثين والعلماء (العلم بمفهومه الشامل وليس بمفهوم الفقهاء المقتصر على العلوم الدينية) والفيزيائيبن والفلكيين والمؤرخين والانثروبولوجيين… وفعل "يعلمون" مُصاغٌ بصيغة المضارع، أي لا يعلمون في الحاضر والمستقبل. وعبارة "أكثر الناس" تفيدنا بأن هناك من الناس مَن يُدرك في الحاضر وسيُدرك في .المستقبل. والنمط الفكري الذي هو موجود في الحاضر ليس هو النمط الفكري الذي سيتشكَّل في المستقبل! أليست هذه إشارةٌ لتطوُّر العقل البشري؟
أليست كل التوضيحات السابقة تكذيبٌ قاطعٌ لما يدَّعيه "بوكو حرام" والتَّنظيمات المشابهة له بأنهم يستلهمون عملَهم من التَّعاليم الإسلامية؟ أليست هذه التوضيحات تُبيِّن أن ادِّعاءًهم هذا كذبٌ وتضليلٌ بينما هم، في الخقيقة، يحملون مشروعا خطيرا يريدون من خلالِه بسطَِ نفوذهم على الغير عند وصولهم إلى السلطة. وخطورة مشروعهم تكمن في كونهم يرفضون العقول النيِّرة التي تفكِّر وتُبدع وتبتكر. إنهم يريدون العقول الجامدة والطَّيِّعة التي لا تعرف سبيلا إلى قول "لا" ولا تعرف سبيلا إلى النقاش والنقد البنَّاء. عقول تعتمد فقط وحصريا على ما تقوله النصوصُ التي خلَّفها السلفُ. عقول تستجيب على الفور لما يقوله سادةُ وأمراءُ التنظيمات.
إنه، بكل بساطة، استبدادٌ مقنَّعٌ ومغلَّفٌ باعتباراتٍ دينية لا تمتُّ بصلة للإسلام!