(مهداة إلى الأستاذ فخري أبو السعود)
يقف من يتعمق في دراسة الأدبيين العربي والإنجليزي على ظاهرة غريبة حرية باهتمام من يعنون بدراسة الآداب الإفرنجية، أعني بها التماثل الظاهر بين ما يرد في كلا الأدبين من قصص وحكم وآراء فلسفية: وهو تماثل يحمل المرء على الاعتقاد الجازم بأن أحد هذين الأدبين قد أقتبس من الآخر، أو تأثر به تأثراً بعيداً
وفي روايات شكسبير خاصة من القصص والحكم والكنايات والإشارات ما يثبت أن مؤلف هذه الروايات الخالدة كان ملماً بعض الإلمام بالأدب العربي، وخاصة القديم منه، ولا نقول العكس لأن هذه القصص المتشابهة وردت في الآداب العربية قبل الإنكليزية بعهد طويل.
وأنني لا أرى مبرر للزعم بأن شكسبير نقل حكمه وآراءه الفلسفية عن الأدب العربي، إذ أن الشاعر في كل آن ومكان وفي أية حالة أو ظرف من ظروف الحياة، لا يخرج عن كونه أنساناً يتألم ويحس بما يحس به غيره من الشعراء عند الأمم الأخرى، وإن اختلفوا لغة وجنساً، فالحياة والطبيعة البشرية، اللتان هما المصدران الرئيسيان واللتان يستمد منهما الشاعر المخلد وحيه، إنما هما ثابتتان لا تتغيران أصلاً في كل بيئة وزمان، فشكسبير والمتنبي، وبيرون وعمر بن أبي ربيعة، وشلي وموسيه، ودانتي وأبو العلاء، جميعهم حلقوا في سماء الشعر، واختلجت في صدورهم أحاسيس وأخيلة وفكر متماثلة بعض التماثل في المعنى، وإن كانت تختلف بما ألبسته هذه المعاني الرائعة من أثواب قشيبة منمقة. لهذا ترى العباقرة في كل باب وفن يتجردون من السفاسف البشرية التافهة والهنات السخيفة التي يتمسك بأذيالها فئة الجهال، كالفروق الدينية الجنسية واللغوية، إذ يتسامى العباقرة عن كل تعصب ذميم ممقوت وينضوون تحت لواء مملكة واحدة هي فوق هذه الممالك التي تظهر متباينة الألوان على المخططات الجغرافية
ولعل هذا القول يصدق على التشابه الظاهر بين الحكم والآراء الفلسفية الواردة في شكسبير والأدب العربي، أكثر منه على الخرافات والقصص العامية
فهذه تتداولها الألسن من قطر إلى قطر وتتناقلها الأجيال من عهد إلى عهد؛ ولا حرج على الأديب المنتج من تضمين أدبه قصة عامية تلقاها عن أمة أخرى بالرواية أو المطالعة. وللعالم والأديب الكبير بيزا قنصل رومانيا السابق في فلسطين. أبحاث شيقة حول موضوع شكسبير والخرافات الشرقية، وقد سرد في محاضرة له قيمة سماها:
(شكسبير والقصص العامية الشرقية) طائفة من القصص والخرافات التي كانت تدور على ألسنة العوام والفلاحين في الشرق، وحين رجع الصليبيون إلى أوربا نقلوا معهم الشيء الكثير منها، فانتشرت تلك القصص بين الخاصة والعامة في الأوساط الأوربية، فكان شكسبير أحد أولئك الذين ذكروا هذه القصص في منتوجاتهم الأدبية، وأنا لا أدري إلى أي حد تبلغ هذه النظرية من الصحة، بيد أنني وقفت على قصص عديدة في روايات شكسبير، ذكرتني بأخرى في الأدب العربي، شبيهة بها بعض الشبه.
ولا أخال أحداً طالع رواية مكبث ولا يذكر لأول وهلة قصة زرقاء اليمامة، فشكسبير قد ضمن هذه الرواية فكرة الغاب المتحرك، إذ حينما عبأ مكدوف جيشه العظيم منتقماً لوالده المغدور به، ومستعيدا ملكه المغتصب من مكبث القائد الطاغية العنيد، بعث مكبث من يستطلع أمر العدو، فاعتلى أحد جنده ربوة عالية تشرف على جيش عدوه. وبدلاً من أن يرى جيشاً لجباً، رأى غاباً كثيفاً يتحرك نحوه رويداً رويداً، فعاد الرسول وأخبر مولاه بما رأى، فأيقن مكبث أنه لا محالة هالك، إذ بذاك تتحقق نبوة الساحرات الثلاث اللاتي ظهرن له في أول عهده، وتنبأن له باعتلاء العرش، وأنه لن يلقى حتفه حتى يرى غاب برنام يتحرك نحو مقاطعة دنسنان وما كان غاب برنام الذي شاهده جندي الطليعة يتحرك إلا جيش مكدوف متستراً بأشجار اقتطعها وحمل كل جندي منهم شجرة يسير تحتها متخفياً ليتمكنوا بذلك من مفاجأة العدو، والإيقاع به على حين غرة، وهكذا أسفرت المعركة عن انهزام مكبث ولقاء حتفه على يد الابن الثائر.
وصاحب الأغاني يذكر كيف كانت زرقاء اليمامة ترى الجيش من مسير ثلاثين ميلا، وكيف أن قوماً آخرين غزوا قبيلتها، فلما قربوا من مسافة منظرها، قالوا (كيف لكم الوصول مع الزرقاء)، فأجمعوا على اقتلاع أشجار تستر كل منها فارساً إذا حملها، ففعلوا ذلك وساروا، فأشرفت الزرقاء كعادتها، فأجابت قومها وقد سألوها (ما ترى) قائلة: (أرى شجراً يسير) فقالوا: (كذبت أو كذبتك عينك) واستهانوا بقولها، فلما أصبحوا، صبحهم القوم، فاكتسحوهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقيل أخذوا الزرقاء فقلعوا عينيها
وقصة أخرى يشير إليها المستشرق الإنكليزي الشهير نيكلسون في كتابه في سياق البحث عن الحياة العامية في القسم الجنوبي من جزيرة العرب ولقد وردت هذه القصة في قصيدة (أسعد كامل أو أبو كرب) التي أطلق عليها نيكلسون أسم (قصيدة الساحرات الثلاثة) ذلك لما بينها وبين خرافة الساحرات الثلاثة. اللواتي يمثلن ذلك الدور المدهش في رواية مكبث، من تشاكل وتشابه عظيمين، والقصيدة كما سترى، موضوعة في قالب أقرب إلى العامية منه إلى الفصحى. وقد نقلها فون كريمر المستشرق الألماني إلى الألمانية مودعاً إياها كتابه وكذلك نقلها نيكلسون إلى الإنكليزية في كتابه المذكور
وفي هذه القصيدة يخاطب أسعد أبنه حسناً ويوصيه بالبطولة، ويسرد له في سياق الحديث قصة الساحرات الثلاث كيف صادفنه غلاماً، فمزجت له الكبرى أولاً دواء، وأعطته فشرب، وقدمت له الوسطى ضبياً برياً امتطاه وذلله، ثم جاءت الصغرى تمرّضه فتجنّبها، ولما أيقن في هذه الجرأة النادرة والقدرة على مقارعة الخطوب، تنبّأن له بعهد سعيد ومستقبل باهر، يتنسم فيه ذرى المجد، وهكذا تمت النبوة فقد أصبح أسعد، على ما جاء في القصيدة، قائد جيش مجر، ثم ملكا تهابه الأعداء.
وأنت تذكر أن مكبث كان في أول عهده قائداً مغواراً في عسكر الملك دانكين ولما عاد هو وبنكو مظفَّرين لقيا في طريقهما، ثلاث عجائز شمط، دأبهنَّ القيام بأعمال سحرية خارقة، ولهن القدرة على قراءة المستقبل، ومعرفة الغيب فتنبأن أن سيكون مكبث مبدئياً من الشرفاء، ثم يعتلي العرش، وبعد ذلك بقليل تحقق القسم الأول من النبوءة، فقد اختار الملك القائد مكبث ليكون شريفاً، ثم تعلم كيف سوّلت لمكبث نفسه التطلع إلى الملك، فدعا الملك (دنكن) إلى وليمة وقضى عليه ليلاً، ثم نصب نفسه ملكاً على الشعب
ومن يدرس ما جاء على لسان هؤلاء الساحرات في رواية مكبث من أقوال دقيقة معقدة ويقابل ذلك بحديث الساحرات في العقيدة العربية يلقي تشابهاً يدعو إلى الإعجاب الشديد، فساحرات مكبث من شأنهن طبخ الأدواء ومزجها واستعمالها في جميع أعمالهن السحرية، وشبيه بذلك ما جاء عن ساحرة أسعد الكبرى، فقد ورد أنها
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
ثم إن الضبع الذي قدمته الساحرة الوسطى لأسعد هو من مطايا ساحرات أسعد؛ وفي رواية مكبث تشير إحدى الساحرات إلى اتخاذ زوجها النمر مطية تحمله إلى حلب العربية ولا أدري ما الذي حدا بشكسبير إلى ذكر حلب البلدة السورية العربية، ولو لم يكن بين هاتين الخرافتين من علاقة وثيقة وسبب متين
أما وقد بسطنا بعض وجوه الشبه بين الخرافتين، فمن المستحسن الإتيان بقصيدة أسعد بكاملها ليتسنى بذلك مقابلتها مع الخرافة الشكسبيرية بالتفصيل والتدقيق
الدهر يأتيك بالعجائب و ... الأيام والدهر فيه معتبر
بينا ترى الشمل فيه مجتمعا ... فرقة في صروفه القدر
لا ينفع المرء فيه حيلته ... فيما سيلقاه لا ولا الحذر
أتى زعيم بقصة (عجب) ... عندي لمن (يسترد هذا) الخبر
يأتي بتصديقها الليالي و ... الأيام إن المقدور ينتظر
يكون في (الأسد) مرة رجل ... (ثم) له في ملوكه الخطر
مولده في قرى ظواهر هم ... دان بتلك التي اسمها (خمر)
يقهر أصحابه على حدث ... السن (ويحقرهم) فيحتقر
حتى إذا أمكنته صولته ... وليس يدري ما شأنه البشر
أصبح في هيوم على وجل ... وأهله غافلون ما شعروا
رأوا غلاماً بالأمس عندهم ... أزرى لديهم بجهله الصغر
أن يفقدوه لا در درهم ... لو علموا العلم فيه لافتخروا
حتى إذا أدركته روعته ... بين ثلاث وثلاثة صخروا
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
فقال هاتي إليّ أشربها ... فقالت له ذر فقال لا أذر
فناولته فما تورع عن ... حصاة حتى أماده السكر
فنهنهته الوسطى فنازلها ... كأنه الليث هاجه (الزعر)
قالت له هذه مراكبنا ... فاركب فشَّر المراكب الحمر
فقال حقاً صدقت ثم سما ... فوق ضبيع قد زانه القمر
فدق منه جنباً فغادره ... فيه جراح منها به أثر
ثم أتته الصغرى تمرضه ... فوق الحشايا ودمعه درر
فمال عنها بمضجع ضجر ... لا يتساوى الوطاء والزعر
كان إذ ذاك بعد صرعته ... من شدة الجهل تحته (الإبر)
فقلن لما رأين جرأته ... أسعد أنت الذي لك الظفر
في كل ما توجهه بوجهها ... وأنت يشقى بحربك البشر
وأنت للسيف والسنان وفي ... الأبدان تبدو كأنها الشمر
(وإن) أنت المهريق (كل) دم ... إذا ترامى (بشخصك) السفر
فارشد ولا تستكن في (خمر) ... ورد ظفاراً فإنها الظفر
فلست تلتذ عيشة أبداً ... وللأعادي عين ولا أثر
نحن من الجن يا أبا كرب ... يا تبع الخير هاجناً (الذعر)
فما بلوناه فيك من تلف ... عن عمد عين وأنت مصطبر
ثم أتى أهله فأخبرهم ... بكل ما قد رأى فما اعتبروا
فسار عنهم من بعد تاسعة ... إلى ظفار وشأنه (الفكر)
فحلَّ فيها والدهر يرفعه ... في عظم الشأن وهو يشتمر
حتى أتته من المدينة تش ... كو الظلم شمطاء قومها غدروا
(أدت) إليه منهم ظلامتها ... ترجو به ثأرها وتنتصر
فأعمل الرأي في الذي طلبت ... (فكان) كل بذاك يأتمر
فعبأ الجيش ثم سار به ... مثل الدبا في البلاد ينتشر
قد ملأ الخافقين عسكره ... كأنه الليل حين يعتكر
تعمم أعداءه (كتائبه) ... وليس يبقى فيهم ولا يذر
حتى مضى منه (لثانية) ... وفاز بالنصر ثم ينتصر
إنا وجدنا هذا يكون معاً ... في علنا والمليك مقتدر
فالحمد لله والبقاء له ... كل إلى ذي الجلال مفتقر
(السلط - شرق الأردن)
جريس القوقس ب. ع
مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة السلط التجهيزية
مجلة الرسالة - العدد 207
بتاريخ: 21 - 06 - 1937
يقف من يتعمق في دراسة الأدبيين العربي والإنجليزي على ظاهرة غريبة حرية باهتمام من يعنون بدراسة الآداب الإفرنجية، أعني بها التماثل الظاهر بين ما يرد في كلا الأدبين من قصص وحكم وآراء فلسفية: وهو تماثل يحمل المرء على الاعتقاد الجازم بأن أحد هذين الأدبين قد أقتبس من الآخر، أو تأثر به تأثراً بعيداً
وفي روايات شكسبير خاصة من القصص والحكم والكنايات والإشارات ما يثبت أن مؤلف هذه الروايات الخالدة كان ملماً بعض الإلمام بالأدب العربي، وخاصة القديم منه، ولا نقول العكس لأن هذه القصص المتشابهة وردت في الآداب العربية قبل الإنكليزية بعهد طويل.
وأنني لا أرى مبرر للزعم بأن شكسبير نقل حكمه وآراءه الفلسفية عن الأدب العربي، إذ أن الشاعر في كل آن ومكان وفي أية حالة أو ظرف من ظروف الحياة، لا يخرج عن كونه أنساناً يتألم ويحس بما يحس به غيره من الشعراء عند الأمم الأخرى، وإن اختلفوا لغة وجنساً، فالحياة والطبيعة البشرية، اللتان هما المصدران الرئيسيان واللتان يستمد منهما الشاعر المخلد وحيه، إنما هما ثابتتان لا تتغيران أصلاً في كل بيئة وزمان، فشكسبير والمتنبي، وبيرون وعمر بن أبي ربيعة، وشلي وموسيه، ودانتي وأبو العلاء، جميعهم حلقوا في سماء الشعر، واختلجت في صدورهم أحاسيس وأخيلة وفكر متماثلة بعض التماثل في المعنى، وإن كانت تختلف بما ألبسته هذه المعاني الرائعة من أثواب قشيبة منمقة. لهذا ترى العباقرة في كل باب وفن يتجردون من السفاسف البشرية التافهة والهنات السخيفة التي يتمسك بأذيالها فئة الجهال، كالفروق الدينية الجنسية واللغوية، إذ يتسامى العباقرة عن كل تعصب ذميم ممقوت وينضوون تحت لواء مملكة واحدة هي فوق هذه الممالك التي تظهر متباينة الألوان على المخططات الجغرافية
ولعل هذا القول يصدق على التشابه الظاهر بين الحكم والآراء الفلسفية الواردة في شكسبير والأدب العربي، أكثر منه على الخرافات والقصص العامية
فهذه تتداولها الألسن من قطر إلى قطر وتتناقلها الأجيال من عهد إلى عهد؛ ولا حرج على الأديب المنتج من تضمين أدبه قصة عامية تلقاها عن أمة أخرى بالرواية أو المطالعة. وللعالم والأديب الكبير بيزا قنصل رومانيا السابق في فلسطين. أبحاث شيقة حول موضوع شكسبير والخرافات الشرقية، وقد سرد في محاضرة له قيمة سماها:
(شكسبير والقصص العامية الشرقية) طائفة من القصص والخرافات التي كانت تدور على ألسنة العوام والفلاحين في الشرق، وحين رجع الصليبيون إلى أوربا نقلوا معهم الشيء الكثير منها، فانتشرت تلك القصص بين الخاصة والعامة في الأوساط الأوربية، فكان شكسبير أحد أولئك الذين ذكروا هذه القصص في منتوجاتهم الأدبية، وأنا لا أدري إلى أي حد تبلغ هذه النظرية من الصحة، بيد أنني وقفت على قصص عديدة في روايات شكسبير، ذكرتني بأخرى في الأدب العربي، شبيهة بها بعض الشبه.
ولا أخال أحداً طالع رواية مكبث ولا يذكر لأول وهلة قصة زرقاء اليمامة، فشكسبير قد ضمن هذه الرواية فكرة الغاب المتحرك، إذ حينما عبأ مكدوف جيشه العظيم منتقماً لوالده المغدور به، ومستعيدا ملكه المغتصب من مكبث القائد الطاغية العنيد، بعث مكبث من يستطلع أمر العدو، فاعتلى أحد جنده ربوة عالية تشرف على جيش عدوه. وبدلاً من أن يرى جيشاً لجباً، رأى غاباً كثيفاً يتحرك نحوه رويداً رويداً، فعاد الرسول وأخبر مولاه بما رأى، فأيقن مكبث أنه لا محالة هالك، إذ بذاك تتحقق نبوة الساحرات الثلاث اللاتي ظهرن له في أول عهده، وتنبأن له باعتلاء العرش، وأنه لن يلقى حتفه حتى يرى غاب برنام يتحرك نحو مقاطعة دنسنان وما كان غاب برنام الذي شاهده جندي الطليعة يتحرك إلا جيش مكدوف متستراً بأشجار اقتطعها وحمل كل جندي منهم شجرة يسير تحتها متخفياً ليتمكنوا بذلك من مفاجأة العدو، والإيقاع به على حين غرة، وهكذا أسفرت المعركة عن انهزام مكبث ولقاء حتفه على يد الابن الثائر.
وصاحب الأغاني يذكر كيف كانت زرقاء اليمامة ترى الجيش من مسير ثلاثين ميلا، وكيف أن قوماً آخرين غزوا قبيلتها، فلما قربوا من مسافة منظرها، قالوا (كيف لكم الوصول مع الزرقاء)، فأجمعوا على اقتلاع أشجار تستر كل منها فارساً إذا حملها، ففعلوا ذلك وساروا، فأشرفت الزرقاء كعادتها، فأجابت قومها وقد سألوها (ما ترى) قائلة: (أرى شجراً يسير) فقالوا: (كذبت أو كذبتك عينك) واستهانوا بقولها، فلما أصبحوا، صبحهم القوم، فاكتسحوهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقيل أخذوا الزرقاء فقلعوا عينيها
وقصة أخرى يشير إليها المستشرق الإنكليزي الشهير نيكلسون في كتابه في سياق البحث عن الحياة العامية في القسم الجنوبي من جزيرة العرب ولقد وردت هذه القصة في قصيدة (أسعد كامل أو أبو كرب) التي أطلق عليها نيكلسون أسم (قصيدة الساحرات الثلاثة) ذلك لما بينها وبين خرافة الساحرات الثلاثة. اللواتي يمثلن ذلك الدور المدهش في رواية مكبث، من تشاكل وتشابه عظيمين، والقصيدة كما سترى، موضوعة في قالب أقرب إلى العامية منه إلى الفصحى. وقد نقلها فون كريمر المستشرق الألماني إلى الألمانية مودعاً إياها كتابه وكذلك نقلها نيكلسون إلى الإنكليزية في كتابه المذكور
وفي هذه القصيدة يخاطب أسعد أبنه حسناً ويوصيه بالبطولة، ويسرد له في سياق الحديث قصة الساحرات الثلاث كيف صادفنه غلاماً، فمزجت له الكبرى أولاً دواء، وأعطته فشرب، وقدمت له الوسطى ضبياً برياً امتطاه وذلله، ثم جاءت الصغرى تمرّضه فتجنّبها، ولما أيقن في هذه الجرأة النادرة والقدرة على مقارعة الخطوب، تنبّأن له بعهد سعيد ومستقبل باهر، يتنسم فيه ذرى المجد، وهكذا تمت النبوة فقد أصبح أسعد، على ما جاء في القصيدة، قائد جيش مجر، ثم ملكا تهابه الأعداء.
وأنت تذكر أن مكبث كان في أول عهده قائداً مغواراً في عسكر الملك دانكين ولما عاد هو وبنكو مظفَّرين لقيا في طريقهما، ثلاث عجائز شمط، دأبهنَّ القيام بأعمال سحرية خارقة، ولهن القدرة على قراءة المستقبل، ومعرفة الغيب فتنبأن أن سيكون مكبث مبدئياً من الشرفاء، ثم يعتلي العرش، وبعد ذلك بقليل تحقق القسم الأول من النبوءة، فقد اختار الملك القائد مكبث ليكون شريفاً، ثم تعلم كيف سوّلت لمكبث نفسه التطلع إلى الملك، فدعا الملك (دنكن) إلى وليمة وقضى عليه ليلاً، ثم نصب نفسه ملكاً على الشعب
ومن يدرس ما جاء على لسان هؤلاء الساحرات في رواية مكبث من أقوال دقيقة معقدة ويقابل ذلك بحديث الساحرات في العقيدة العربية يلقي تشابهاً يدعو إلى الإعجاب الشديد، فساحرات مكبث من شأنهن طبخ الأدواء ومزجها واستعمالها في جميع أعمالهن السحرية، وشبيه بذلك ما جاء عن ساحرة أسعد الكبرى، فقد ورد أنها
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
ثم إن الضبع الذي قدمته الساحرة الوسطى لأسعد هو من مطايا ساحرات أسعد؛ وفي رواية مكبث تشير إحدى الساحرات إلى اتخاذ زوجها النمر مطية تحمله إلى حلب العربية ولا أدري ما الذي حدا بشكسبير إلى ذكر حلب البلدة السورية العربية، ولو لم يكن بين هاتين الخرافتين من علاقة وثيقة وسبب متين
أما وقد بسطنا بعض وجوه الشبه بين الخرافتين، فمن المستحسن الإتيان بقصيدة أسعد بكاملها ليتسنى بذلك مقابلتها مع الخرافة الشكسبيرية بالتفصيل والتدقيق
الدهر يأتيك بالعجائب و ... الأيام والدهر فيه معتبر
بينا ترى الشمل فيه مجتمعا ... فرقة في صروفه القدر
لا ينفع المرء فيه حيلته ... فيما سيلقاه لا ولا الحذر
أتى زعيم بقصة (عجب) ... عندي لمن (يسترد هذا) الخبر
يأتي بتصديقها الليالي و ... الأيام إن المقدور ينتظر
يكون في (الأسد) مرة رجل ... (ثم) له في ملوكه الخطر
مولده في قرى ظواهر هم ... دان بتلك التي اسمها (خمر)
يقهر أصحابه على حدث ... السن (ويحقرهم) فيحتقر
حتى إذا أمكنته صولته ... وليس يدري ما شأنه البشر
أصبح في هيوم على وجل ... وأهله غافلون ما شعروا
رأوا غلاماً بالأمس عندهم ... أزرى لديهم بجهله الصغر
أن يفقدوه لا در درهم ... لو علموا العلم فيه لافتخروا
حتى إذا أدركته روعته ... بين ثلاث وثلاثة صخروا
جاءت إليه الكبرى بأسقية ... شتى وفي بعضها دم كدر
فقال هاتي إليّ أشربها ... فقالت له ذر فقال لا أذر
فناولته فما تورع عن ... حصاة حتى أماده السكر
فنهنهته الوسطى فنازلها ... كأنه الليث هاجه (الزعر)
قالت له هذه مراكبنا ... فاركب فشَّر المراكب الحمر
فقال حقاً صدقت ثم سما ... فوق ضبيع قد زانه القمر
فدق منه جنباً فغادره ... فيه جراح منها به أثر
ثم أتته الصغرى تمرضه ... فوق الحشايا ودمعه درر
فمال عنها بمضجع ضجر ... لا يتساوى الوطاء والزعر
كان إذ ذاك بعد صرعته ... من شدة الجهل تحته (الإبر)
فقلن لما رأين جرأته ... أسعد أنت الذي لك الظفر
في كل ما توجهه بوجهها ... وأنت يشقى بحربك البشر
وأنت للسيف والسنان وفي ... الأبدان تبدو كأنها الشمر
(وإن) أنت المهريق (كل) دم ... إذا ترامى (بشخصك) السفر
فارشد ولا تستكن في (خمر) ... ورد ظفاراً فإنها الظفر
فلست تلتذ عيشة أبداً ... وللأعادي عين ولا أثر
نحن من الجن يا أبا كرب ... يا تبع الخير هاجناً (الذعر)
فما بلوناه فيك من تلف ... عن عمد عين وأنت مصطبر
ثم أتى أهله فأخبرهم ... بكل ما قد رأى فما اعتبروا
فسار عنهم من بعد تاسعة ... إلى ظفار وشأنه (الفكر)
فحلَّ فيها والدهر يرفعه ... في عظم الشأن وهو يشتمر
حتى أتته من المدينة تش ... كو الظلم شمطاء قومها غدروا
(أدت) إليه منهم ظلامتها ... ترجو به ثأرها وتنتصر
فأعمل الرأي في الذي طلبت ... (فكان) كل بذاك يأتمر
فعبأ الجيش ثم سار به ... مثل الدبا في البلاد ينتشر
قد ملأ الخافقين عسكره ... كأنه الليل حين يعتكر
تعمم أعداءه (كتائبه) ... وليس يبقى فيهم ولا يذر
حتى مضى منه (لثانية) ... وفاز بالنصر ثم ينتصر
إنا وجدنا هذا يكون معاً ... في علنا والمليك مقتدر
فالحمد لله والبقاء له ... كل إلى ذي الجلال مفتقر
(السلط - شرق الأردن)
جريس القوقس ب. ع
مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة السلط التجهيزية
مجلة الرسالة - العدد 207
بتاريخ: 21 - 06 - 1937