د. أحمد الحطاب - خطاب سياسي وخطاب ديني لا يختلفان من حيث التَّوجُّه العام

عندما أقول : "لا يختلفان من حيث التَّوجُّه العام"، فالأمرُ يتعلَّق بوجود تشابه بين هذين النوعين من الخطاب. وعندما أتحدَّث عن الخطابين السياسي والديني، المقصود هو الخطاب المتداول الذي نسمعه من أفواه قيادات الأحزاب السياسية أو، بصفة عامة، من أفواه السياسيين، داخلَ قبَّة البرلمان وكذلك من أفواه الائمة يوم الجمعة على الخصوص..

وهنا، لا بدَّ من توضيح من الأهمية بمكان. سواءً تعلَّق الأمرُ بالخطاب السياسي أو الخطاب الديني، فإن هذا الخطابَ صادر عن بشرٍ. وكل ما هو صادرُ عن بشر، فهو نسبي، أي ليس ثابتا على الدوام. بل إنه قابل للنقاش ما دام هذا الخطابُ عبارة عن تفسير لأفكار أو لأشياء أو لأوضاع أو لسلوك أو لأحداث أو لأعمال… فكل شخصٍ يفسِّر الأفكارَ والأشياء والأوضاع والسلوك والأحداث والأعمال… إنطلاقا من خلفيةٍ فكريةٍ وثقافية خاصة به. كما أن هناك توضيحا آخر لا بدَّ منه. الدين ليس هو التَّديُّن. الدين له توابثٌ وله أركانُ وفرائضُ غير قابلة للنقاش لأنها من وحي الله لرسوله ونبيه محمد (ص). إما أن يُؤْمِنَ بها الفردُ وإما أن لا يُؤْمِنَ بها. أما التَّديُّن، فهو الطريقة الخاصة بكل شخص لتطبيق الدين على أرض الواقع. وهذه الطريقة قابلة للنقاش ما دامت تختلف من شخص لآخر.

فيما يلي، سأركِّز على وجه تشابه واحد بين الخطاب السياسي والخطاب الديني. يتمثَّل هذا التَّشابه في كون الخطابين يتطرقان للعموميات ويتركان الأمورَ التي تهمُّ الناسَ في حياتِهم اليومية جانبا. الخطاب السياسي، وخصوصا ذلك الذي تدور أطوارُه داخلَ قبَّة البرلمان، يضيع في متاهات بعيدة كل البعد عن انشغالات المواطنين. والخطاب الديني، وخصوصا ذلك الذي نسمعه يومَ الجمعة، يكاد ينحصر في العبادات ولا يُعطي للمعاملات التي تهمُّ الناسَ في حياتهم اليومية، حقَّها من الاهتمام.

وهنا، لا يجب أن يُفهَمَ من كلامي أن النقاشات التي تدور داخل قبَّة البرلمان، بغرفتيه، ليست مفيدة. لا أبدا! إنها مفيدة على أكثر من صعيد. لكن، غالبا ما يطغى عليها التراشقُ والتنابزُ بالألقاب والتَّعايُرُ واللجوءُ إلى تصفية الحسابات بين الأحزاب السياسة وبين السياسيين المنتمين للاغلبة وأولئك الذين ينتمون للمعارضة. إن هذا النوع من الخطاب السياسي لا يُسمن ولا يُغني من جوع. لماذا؟ لأنه بعيد كل البُعد عن هموم المواطنين اليومية التي لها علاقة بالحصول على لقمة العيش في زمان ظروفُه قاسية وصعبة تتطلَّب من السياسيين أن يتسلَّحوا بجرأة، غير معهودة، عالية واستثنائية. فكم من الوقت يضيع في نقاشات عقيمة لا تفيد إلا مَن يتبنَّاها. وهي ليست فقط مضيعةٌ للوقت، بل إنها نوعٌ من الهروب إلى الأمام لتفادي الخوض في المشكلات الحقيقية التي يعاني منها المواطنون منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا. وإلا فَليقُل لنا البرلمانيون لماذا لا يزالوا يناقشون قضايا يُفتَرَضُ أنهم قد وجدوا لها حلولا منذ زمان مثل الفقر، الفوارق الاجتماعية، الأمية، توزيع عادل للثروة، التنمية البشرية، النهوض بالعالم القروي، الاقتصاد غير المهيكل، جودة التعليم، محاربة الفساد، العلاقة بين مٌخرَجات الاقتصاد وكرامة العيش… إلى حد الآن، النقاشات البرلمانية تبقى مهووسةً بالعموميات، عقيمة وغير ناجعة. فهل وجد البرلمانيون حلولا لغلاء المعيشة بينما هذه الحلول ممكنة. غلاء المعيشة لا يزال مستمرا، بل إنه يتفاقم! وكل ما دار حوله من نقاش داخلَ البرلمان، ليس إلا ذرُّ الرماد على العيون!

ولا يجب كذلك أن يُفهَمَ من كلامي أن خُطَبَ صلاة الجمعة ليست مهمة. لا أبدا! إنها مهمة ما دامت تصب في الوعظ والإرشاد وتقوية الإيمان والتَّقرُّب من الله… لكن الدينَ عبادات ومعاملات. وإن كانت العبادات عبارة عن أمور تدور بين خالقٍ ومخلوق، فالمعاملات تنظِّم العلاقات بين الناس. فلماذا لا تركِّز خُطبُ الجمعة على هذه العلاقات؟ فلماذا لا تتطرَّق هذه الخُطب إلى الفقر وإلى كيفية التَّصدِّي له؟ ولماذا لا يتطرَّق الأئمة إلى آفة الأمية وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية على الناس؟ ولماذا لا تتطرَّق خٌطب الجمعة للفساد الذي نخر البلاد والعباد وأفسد المعاملات بين الناس؟ ولماذا لا تتطرق خُطب الجمعة للريع الذي خرَّبَ ويُخرِّب اقتصاد البلاد ويحرم كثيرا من الناس من أرزاقهم. ولماذا لا تتطرق خُطب الجمعة إلى إعمار الأرض وعن مدى تلاءم هذا الإعمار مع صون هذه الأخيرة والمحافظة عليها؟… قد يقول قائل إن المساجد أُسِّست لعبادة الله والتَّقرُّب منه. هذا شيءٌ لا غبارَ عليه ولا نقاشَ فيه. لكن، إذا رجعنا شيئا ما إلى الوراء، وبالضبط إلى عهد الرسول (ص)، فسنلاحظ أن المسجدَ كان فعلا مكان عبادة الله والتَّقرُّب منه، لكن كان، في نفس الوقت، هو المكان الذي كانت تُصاغ وتُدار فيه سياسة الأمة الإسلامية وتُتَّخذ فيه القرارات بمختلف أنواعها. كما كان مقرا للقضاء ومكانا لتربية الأطفال ومكانا لإيواء عابري السبيل ومداواة المرضى… أليست هذه الأمور كلها أمورٌ تخص الحياة اليومية للناس؟

وهنا، لا بد من توضيح. يجب أن لا يُفهمَ من كلامي أني أدعو لعودة المساجد إلى ما كانت تقوم به من أدوار. لا أبدا! لأن لكل زمان ظروفه الاجتماعية والسياسية ولكل زمان مؤسساتُه الاجتماعية والسياسية والثقافية. لكن، على الأقل، أن يكون الخطابُ الديني شاملاً وموجَّها للمؤسسات التي أصبحت اليوم تقوم بالأدوار التي كان يقوم بها المسجدُ في الماضي، وخصوصا أن هذه المؤسسات، لما اقتحمتها الأحزابُ السياسيةُ، أصبحت منخورةً بالفساد.

ثم ألم يقل سبحانه وتعالى : "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران، 104). وهو ما أكَّده الرسول محمد (ص) في أحد أحاديثِه : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

وحتى الخطاب المتعلِّق بالعبادات تتخلَّلُه جرعةٌ كبيرةٌ من التَّخويف والترهيب والتَّهديد والوعيد والتَّوعُّد. فلا نسمع إلا جهنم والنار والسعير والجحيم… بينما هذه الأخيرة، في آيات القرآن الكريم، تكون دائما مقترنةً بالكفر والشِّرك وعبادة الأصنام… علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لطيف ورؤوف بعباده مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ" (الشورى، 19) أو مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ" (آل عمران، 108). "للعالمين"، أي لكل الناس!

فمتى سيستقيمان (يعني أن يؤديا دورَهما كاملا) الخطابان السياسي والديني؟ الأول أن يخرجَ من العموميات، والثاني أن يجمعَ بين العبادات والمعاملات!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى