انتشرت قصة جلال الدين الروميّ وشمس التبريزيّ في الآونةِ الأخيرة بعدما حقق كتاب “قواعد العشق الأربعون” نجاحًا باهرًا، وأخذت أشعار التصوف حيزًا واسعًا في مواقعِ التواصل الاجتماعي حتى باتت ملجأ للمحبين، وتداولها بينهم لما فيها من مشاعر تهيج النفس وصدق العواطف والغزل العذري، على الرغم من جَهل الكثيرين بأن هذه الأشعار كُتبت بحق المعشوق الأوحد الله -جل جلاله-.
وكُل من عرف قصة المتصوف الرومي ولقائه بشيخه التبريزي سيدخل بدوامة من الأسئلة حول ما حدث معهم، وكما هو قائم إلى يومنا هذا من تساؤلات ومواضع شك وخلاف حول قضيتهما.
ولأني متأثرة بفلسفة التصوف وأدبه صرت ألتمس سلوك الصوفية في حياتي اليومية، وبظل ما نعيشه من أزمات وخطابات كراهية ونزعات طائفية، وفقداننا للسلام والأمان صرتُ أشعر بأهمية السلوك الصوفي وضرورته في الحياة الاجتماعية.
وبسبب التخبط الذي يعيشه معظم الناس وضياع معظم الشباب بين تُرهات العلاقات التي على أثرها امتلأت عيادات الأطباء النفسيين، أصبحتُ أُفسر وأُحلل الأمور على أساس ما حدث مع شمس وجلال ونقطة التحول التي من الممكن أن تكون مرجعًا ودليلًا للتائهين.
كوننا نعيش في زمن التواصل الاجتماعي
وبسبب تواصلي مع الشباب وسماع قصص هُيامهم وغرامهم التي لا تنتهي، ثم فجأة تنتهي كل هذه القصص بـ”block”، ويتم تفعيل “خاصية إنهاء المشاعر” معها، أصبتُ بحالة ذهول، على أثرها لا أستطيع مساعدة من يلجأ إليَّ لترميم جراحه بعد أزمة الفراغ التي يمر بها.
ولأن معظم أتباع الطريقة المولولية يعتقدون بأن “في كل زمان شمس وجلال” كنت أحاول فهم الطرفين والناس بصورة عامة على أساس أيٌّ منهم شمس وأيٌّ منهم جلال!
وفي وسط عاصفة فهم العلاقات المنتشرة والمندرجة تحت مسمى الحُب والعِشق سألتُ نفسي، هل كان مولانا الرومي عاشقٌ لشمس أم مُتعلق به؟
فقه التعلق
وبعد بحث طويل لفهم التعلق والحب في علم النفس، والذي بإمكاني أن أُلخص ما توصلت له وما هو شائع، التعلّق “يعني شعورًا غير صحي في العلاقات، فبعضهم يعدّه حبًا شديدًا للطرف الآخر، ولكنه في الأصل لا يعدُّ حبًا، بل اعتماد كلي من قبل أحد طرفي العلاقة على الطرف الآخر من أجل تلبية احتياجاته العاطفية”، وإما الحُبّ “فيعني مجموعة متنوعة من المشاعر الإيجابيَّة والحالات العاطفية والعقلية القوية التأثير، تتراوح هذه المشاعر من أسمى الأخلاق الفاضلة إلى أبسط العادات اليوميَّة الجيدة”.
تركت هذه المفاهيم كلها، وتفكرت في العلاقة التي كانت بينهما، حتى وصلت للحظة الفراق الأول عندما ترك شمس التبريزيّ جلال الدين الروميّ وهاجر إلى دمشق، وباعتقادي ما كان يعانيه الروميّ من ألم الفراق والحنين وخوفه الشديد من فقدان الشعور اللذيذ الذي كان برفقةِ شيخه، هو ما جعلهُ مُصرًا على عودة شمس إلى قونيا على الرغم من إنه كان يعلم بأن عودته ما هي إلا موت محتم عليه.
فتوصلت بأن مولانا الروميّ في بداية الأمر لم يكن بذلك النضج الروحي والعاطفي الذي يجعله ينذر كل شعور لله فقط، وهذا ما جاء شمس التبريزيّ من أجله.
علاقات مزيفة
فيرى شمس بأن الإنسان مظهرٌ ومجلى للعالم الأكبر، ويريد للإنسان أن يعرف نفسه فيقول “ترى الجميع في نفسك موسى وعيسى وإبراهيم ونوحًا وآدم وحواء والخضر وإلياس -عليهم السلام- أنت عالم لا حدود له، فما شأن الأرضين والسماوات؟”. كان بعمله وسلوكه وقوله يريد أن يرسم في الأذهان هوية استثنائية للبشر، ويقول للإنسان إنه لن يستطيع أن يسمو على ذاته وعلى (أناه) ويرى مجلاه، وفي النتيجة يستلهم من داخله، إلا عندما يستبدل بالعقل الجزئي والفكر العشق، لأن العشق أساس الغنى الداخلي، وأداة اتصال الإنسان بالحقيقة الأزلية.
ومولانا الروميّ فهم هذه الرسالة التي يجب أن تُدرس اليوم، بعدما قُتِلَ شيخه وفارقه إلى الأبد، فمن بعد الفراق بدأت حقيقة العشق المطلق لله، وعلى هذا الأساس عندما أنفَكَ الروميّ من التعلق، وتعلق بالله وزهدَ وأخلص الشعور للحقيقة فبدأت حكاية الخلود. فتأسست المولوية وكتبَ “المثنوي” الذي يعدّ مرجعًا للمستشرقين والمتصوفين والحكماء إلى يومنا هذا.
ومن وجهة نظري إن هذا ما نفتقره اليوم هو عدم استيعاب الفيض الذي يمُن الله علينا به، وعدم تجردنا من مخاوفنا واكتفائنا بالله الواحد الأحد، وأدراكنا لحقيقة إن كل إنسان في الطريق ما هو إلا جسر للوصول إلى الحقيقة.
وما نعيشه اليوم ما هو إلا علاقات مزيفة اندرجت تحت مسمى الحب والعشق وفي الواقع هم لا يعرفون شيئًا عن العشق، فالعشق كما يقول الروميّ “هو تلك الشعلة التي عندما اشتعلت أحرقت كل شيء ما عدا المعشوق، وأنت بسبب شوكة واحدة تفر من العشق؟ فماذا تعرف أنت عن العشق ما خلا الاسم؟”.
بوجهة نظري وباعتقادي إن للسلوك الصوفي تأثيرًا عظيمًا في المجتمعات، وقد يكون علاجًا لحل الأزمات والعقد النفسية التي تمارس من قِبل الطرفين.
إن التأثر بالصوفية كافيًا أن يشغل المرء بالتركيز على نفسه، وتطهير فكره واستيعابه للعلاقات الاجتماعية التي بسببها راح ضحيتها آلاف الشباب، وربما هنا تثبت صحة مقولة (الحب هو الداء والدواء).
فما أعظم أمة تُبتلى بداء العشق وتتداوى بالسلام والحُب!
بيار الظاهر
كاتبة ومترجمة عراقية
وكُل من عرف قصة المتصوف الرومي ولقائه بشيخه التبريزي سيدخل بدوامة من الأسئلة حول ما حدث معهم، وكما هو قائم إلى يومنا هذا من تساؤلات ومواضع شك وخلاف حول قضيتهما.
ولأني متأثرة بفلسفة التصوف وأدبه صرت ألتمس سلوك الصوفية في حياتي اليومية، وبظل ما نعيشه من أزمات وخطابات كراهية ونزعات طائفية، وفقداننا للسلام والأمان صرتُ أشعر بأهمية السلوك الصوفي وضرورته في الحياة الاجتماعية.
وبسبب التخبط الذي يعيشه معظم الناس وضياع معظم الشباب بين تُرهات العلاقات التي على أثرها امتلأت عيادات الأطباء النفسيين، أصبحتُ أُفسر وأُحلل الأمور على أساس ما حدث مع شمس وجلال ونقطة التحول التي من الممكن أن تكون مرجعًا ودليلًا للتائهين.
كوننا نعيش في زمن التواصل الاجتماعي
وبسبب تواصلي مع الشباب وسماع قصص هُيامهم وغرامهم التي لا تنتهي، ثم فجأة تنتهي كل هذه القصص بـ”block”، ويتم تفعيل “خاصية إنهاء المشاعر” معها، أصبتُ بحالة ذهول، على أثرها لا أستطيع مساعدة من يلجأ إليَّ لترميم جراحه بعد أزمة الفراغ التي يمر بها.
ولأن معظم أتباع الطريقة المولولية يعتقدون بأن “في كل زمان شمس وجلال” كنت أحاول فهم الطرفين والناس بصورة عامة على أساس أيٌّ منهم شمس وأيٌّ منهم جلال!
وفي وسط عاصفة فهم العلاقات المنتشرة والمندرجة تحت مسمى الحُب والعِشق سألتُ نفسي، هل كان مولانا الرومي عاشقٌ لشمس أم مُتعلق به؟
فقه التعلق
وبعد بحث طويل لفهم التعلق والحب في علم النفس، والذي بإمكاني أن أُلخص ما توصلت له وما هو شائع، التعلّق “يعني شعورًا غير صحي في العلاقات، فبعضهم يعدّه حبًا شديدًا للطرف الآخر، ولكنه في الأصل لا يعدُّ حبًا، بل اعتماد كلي من قبل أحد طرفي العلاقة على الطرف الآخر من أجل تلبية احتياجاته العاطفية”، وإما الحُبّ “فيعني مجموعة متنوعة من المشاعر الإيجابيَّة والحالات العاطفية والعقلية القوية التأثير، تتراوح هذه المشاعر من أسمى الأخلاق الفاضلة إلى أبسط العادات اليوميَّة الجيدة”.
تركت هذه المفاهيم كلها، وتفكرت في العلاقة التي كانت بينهما، حتى وصلت للحظة الفراق الأول عندما ترك شمس التبريزيّ جلال الدين الروميّ وهاجر إلى دمشق، وباعتقادي ما كان يعانيه الروميّ من ألم الفراق والحنين وخوفه الشديد من فقدان الشعور اللذيذ الذي كان برفقةِ شيخه، هو ما جعلهُ مُصرًا على عودة شمس إلى قونيا على الرغم من إنه كان يعلم بأن عودته ما هي إلا موت محتم عليه.
فتوصلت بأن مولانا الروميّ في بداية الأمر لم يكن بذلك النضج الروحي والعاطفي الذي يجعله ينذر كل شعور لله فقط، وهذا ما جاء شمس التبريزيّ من أجله.
علاقات مزيفة
فيرى شمس بأن الإنسان مظهرٌ ومجلى للعالم الأكبر، ويريد للإنسان أن يعرف نفسه فيقول “ترى الجميع في نفسك موسى وعيسى وإبراهيم ونوحًا وآدم وحواء والخضر وإلياس -عليهم السلام- أنت عالم لا حدود له، فما شأن الأرضين والسماوات؟”. كان بعمله وسلوكه وقوله يريد أن يرسم في الأذهان هوية استثنائية للبشر، ويقول للإنسان إنه لن يستطيع أن يسمو على ذاته وعلى (أناه) ويرى مجلاه، وفي النتيجة يستلهم من داخله، إلا عندما يستبدل بالعقل الجزئي والفكر العشق، لأن العشق أساس الغنى الداخلي، وأداة اتصال الإنسان بالحقيقة الأزلية.
ومولانا الروميّ فهم هذه الرسالة التي يجب أن تُدرس اليوم، بعدما قُتِلَ شيخه وفارقه إلى الأبد، فمن بعد الفراق بدأت حقيقة العشق المطلق لله، وعلى هذا الأساس عندما أنفَكَ الروميّ من التعلق، وتعلق بالله وزهدَ وأخلص الشعور للحقيقة فبدأت حكاية الخلود. فتأسست المولوية وكتبَ “المثنوي” الذي يعدّ مرجعًا للمستشرقين والمتصوفين والحكماء إلى يومنا هذا.
ومن وجهة نظري إن هذا ما نفتقره اليوم هو عدم استيعاب الفيض الذي يمُن الله علينا به، وعدم تجردنا من مخاوفنا واكتفائنا بالله الواحد الأحد، وأدراكنا لحقيقة إن كل إنسان في الطريق ما هو إلا جسر للوصول إلى الحقيقة.
وما نعيشه اليوم ما هو إلا علاقات مزيفة اندرجت تحت مسمى الحب والعشق وفي الواقع هم لا يعرفون شيئًا عن العشق، فالعشق كما يقول الروميّ “هو تلك الشعلة التي عندما اشتعلت أحرقت كل شيء ما عدا المعشوق، وأنت بسبب شوكة واحدة تفر من العشق؟ فماذا تعرف أنت عن العشق ما خلا الاسم؟”.
بوجهة نظري وباعتقادي إن للسلوك الصوفي تأثيرًا عظيمًا في المجتمعات، وقد يكون علاجًا لحل الأزمات والعقد النفسية التي تمارس من قِبل الطرفين.
إن التأثر بالصوفية كافيًا أن يشغل المرء بالتركيز على نفسه، وتطهير فكره واستيعابه للعلاقات الاجتماعية التي بسببها راح ضحيتها آلاف الشباب، وربما هنا تثبت صحة مقولة (الحب هو الداء والدواء).
فما أعظم أمة تُبتلى بداء العشق وتتداوى بالسلام والحُب!
بيار الظاهر
كاتبة ومترجمة عراقية