نقارب هذا النص الر وائي الذي يعتبر باكورة أعمال الكاتب، تتالت بعده أعمال روائية أخرى هي : " الطائر في العنق " ـ " رائحة الزمن الميت " ـ الجمرة الصدئة " وأخر ما صدر له عن بيت الحكمة، رواية بعنوان " سرير بروكرست"، وذلك من خلال مكونات الخطاب الروائي التالية :
1 ـ تعدد الأصوات
في نص "البرزخ" للكاتب المغربي عمر والقاضي، نجد عدة أصوات نتلقى الأحداث من خلالها :
ـ الصوت الأول هو صوت المؤلف الواقعي .
وهو الذي نجده في الاستهلالات التي تفتتح بها الفصول أو تلك التي تتخلل بعضَها أو تُختتم بها.
ويستعمل الكاتب هذا الصوت كلما أراد التعبير عن الذات الكاتبة المهمومة بهموم شتى تنطلق مما هو ذاتي وحميمي كالطفولة وفضاءاتها الحميمية ، ولعل أوضح مثال على ذلك هو تلك المقاطع المتسربلة بغلائل الشعر التي خص بها " روسادير" (من : ص : 27 ـ 30 ) . يقول محمد برادة" إن لحظات استذكار الماضي المتصل بالطفولة تلفت النظر إلى الإمكانات الكامنة في ذلك العالم القادر على إمدادها بنفحات لتحرير الذات من وطأة الجدية الطنانة للغة الكبار ومقاييسهم المتحجرة " .(1) تنتهي بهموم أخرى يشترك فيها مع السارد ـ المشارك وهي المتمثلة في الانشغال بواقع الإنسان العربي المهزوم ، والتعبير عن آلامه ومعاناته ، وعن آماله وأحلامه المحبطة ، خصوصا المثقف العربي المخدوع الذي آمن بشعارات جوفاء ، وحلم بتغيير العالم بواسطة الكلمات، ولم يكن في حقيقة الأمر إلا بطلا إشكاليا و"ضون كيشوت" معاصراً.نقرأ في بداية الرواية في الاستهلال الأول،( ص : 5)
أقرأ في كتاب الليالي العربية
عن القاتل والمقتول
وأحكي حكاية أبي ذر
للمدن المنسية
وفي نهايتها ، نقرأ المقطع التالي ، ص : 109
يا ويح مراكش
يأتيها فتاها العذري
ولا تقيم عرسها في جامع الفنا
ضون كيشوت أعرني سيفك
أعز به مراكش الدم.
ـ الصوت الثاني : هو صوت السارد ـ المشارك. أو ( الأنا الثانية للمؤلف ) ، وهو سارد مشارك في الحدث الروائي يروي في بعض المقاطع السردية بضمير المتكلم ـ المفرد ، وفي مقاطع أخرى بضمير المتكلم ـ الجمع.
إن السارد ـ المشارك يروي عن أحداث عاشها أو عايشها ، وغالبا ما يشرك هذا السارد أشخاصاً آخرين في القيام بعملية السرد بضمير المتكلم .فكأن السارد يريد أن يبلغنا أن هذه الأحداث المهولة والمتصفة في أغلبها بالقساوة والشراسة ودواعي اليأس والإحباط لم يعشها هو وحده ، بل عاشها جيل كامل هو الجيل الذي ينتمي إليه . "النص هو موال جيلي / جيلك : جيل الحلم الوردي الذي سطع في سماء السبعينيات كشهاب ، ثم خبا كشهاب أيضاً .. نصك الروائي هذا كان موال هذا الجيل وأنشودته" ) ) .)
في النص مقاطع سردية كثيرة يمكن الاستشهاد بها بهذا الخصوص ، سأقتصر هنا على ذكر المثال التالي: " سأرفع طرف معطفي إلى أذني لكي أحميها من لذعك ، مستحيل .. صغاراً كنا نتسلق مراحل العمر: نمتشق سيوفنا الخشبية . تنتظر مجيئه على رأس الدرب." ( )
ـ الصوت الثالث ـ هو صوت السارد ـ الغائب عن الحدث بضمير الغائب ، ونجد ذلك الصوت بشكل واضح في الفصل الثاني ( 11 ، ص : 10ـ 12) المخصص للقاء السارد ـ المشارك مع ناظر الثانوية.
إن المؤلف الواقعي ، يبقى حبيس المقاطع ذات الطابع الشعري التي تفتتح بها الفصول أو تنتهي بها أو تقع بين ثناياها ، يصب فيها لواعج النفس وتحسرها على ماض جميل وذكريات بهيجة ، وذلك بشكل مكثف . أما السارد ـ المشارك، فينفتح على عوالم شاسعة وأزمنة متعددة وأحداث كثيرة جدا وذلك خلال مقاطع سردية تضمها فصول النص الروائي الثلاثة عشر.
إن المؤلف يتيح لسارده حيزاً أكبر من الحرية في التنقل عبر الأمكنة والأزمنة ، تاركا له المجال لخوض مغامرة الحكي.
في النص نجد نوعا من الكشف عن هذه التقنية ( ) المستعملة في عملية السرد السابقة الذكر. نقرأ في ص : 42 : " في الليل في شوارع البيضاء تخرج النفس . تفارق صاحبها ، تتمرد، تفعل ما تشاء . في الليل في شوارع البيضاء، ترجع النفس إلى صاحبها، تتوب، يتقبلها مرحبا ومهنئا بعد أن فعلت ما فعلت".
فما هي إذن هذه الأزمنة وما هي هذه الأمكنة التي يتجول فيها السارد ـ المشارك في نص "البرزخ"؟
2 ـ الزمن الروائي:
تبتدئ الرواية بلحظة توقف الحافلة المفاجئ الذي أحدث رجة عنيفة وجعل الركاب يتصايحون ويصطدمون الواحد بالآخر ، ويسقط بعضهم على الأرض ( أرضية الحافلة) ، وينتبه من كان نائما أو شاردا كالسارد ـ البطل الذي كان غارقاً في ذكرياته البعيدة وهمومه المؤرقة ." توقف الحافلة المفاجئ ردني إلى واقعي " ( ص : 5 (
وتنتهي بمعرفة سبب هذا التوقف المفاجئ الذي امتد من الصفحة الأولى من النص ( ص : 5) إلى الصفحتين الأخيرتين منه، ص : 108 ـ 109.وهو دهسها رجلاً يقطع الطريق.
وبين لحظة التوقف ، ولحظة التعرف ، يروي السارد ـ المشارك أحداثاً كثيرة وقعت في أزمنة متعددة عاشها في مراحل حياته ابتداءً بمرحلة الطفولة إلى مرحلة الكهولة مروراً بمرحلة الشباب بكل زخمه وعنفوانه، ثمة خيط يربط بين اللحظتين على طول صفحات الرواية يذكرنا بأن ما يقع من أحداث ، يُروى بين هاتين اللحظتين ، ويتمثل في الوحدات المعنوية التالية:
ـ " توقفت الحافلة ..الضجيج لم يهدأ بعد ، سواء في الخلف أو الأمام ، كنت ممدداً بين قارتين شرق وغرب. هذا الأرق بحجم العالم ، أبحث عن الهداية بين ركام الموت والميلاد" ( ص : 42 )
ـ " يظهر أن الحافلة لن تتحرك . لا يزال الصراخ على أشده في الأمام (ص: 50 )
ـ " الحافلة لم تتحرك ، الصراخ على أشده في الأمام والوراء" ( ص :68 )
ـ الحافلة ما زالت واقفة . الضجيج في الأمام والخلف " ( ص : 74 )
ـ " الحافلة لو تبرح المكان . الضجيج في الأمام والخلف " (ص : 102 )
إن ما يرويه السارد ـ المشارك من أحداث ووقائع ، هي الفاصل بين اللحظتين المذكورتين ، لقد بلغت تلك الأحداث والوقائع من الهول والشراسة والغرابة درجة يشيب لها الولدان. ولقد شاب لها فعلا أولاد حارة ظهر المهراز زمن الستينيات، الذين كانوا حينذاك أولاداً أغراراً ، قليلي التجربة، يحلمون أحلاماً غرارة ، سرعان ما أصبحت سراباً وواقعاً شديد المرارة ، مشحونا بدواعي اليأس والإحباط . إنها "البرزخ" الحاجز بين لحظتين قصيرتين هما : لحظة البداية ـ الولادة (المتسربلة بالتطلع إلى الآمال والمستقبل وانتظار الوعود الخلَّب) ، وتشير إلى هاته اللحظة العبارتان التاليتان: "في الأمام تعالى صراخ امرأة "ص :5 ،"كان طفلها يتدلى كعنقود ذابل"ص: 5 فهناك صراخ المخاض وهناك طفل يتدلى خارجا إلى هذا العالم.
ولحظة النهاية ـ الموت (المجسدة لانهيار الأحلام وضياع العمر سدى )
" أيها السيدات والسادة. لقد مات الرجل" .ص : 109.
إن زمن البرزخ هو زمن الأحداث ، إنه زمن طويل ممتد ، أليس البرزخ هو ذلك الزمن الطويل الممتد الذي يفصل ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، والذي يقع من وقت الموت إلى البعث؟
إن الراوي ـ المشارك، يرصد أحداثا تمتد إلى الوراء ، إلى ما قبل استقلال الوطن ، كما يروي عن أحداث ما زالت طازجة تنتمي إلى حاضر قريب ( الهجرة السريةـ الجفاف.الخ)، هذا بالإضافة إلى رصده لأحداث تمتد على مدى ثلاثة عقود .
لقد قدم لنا الراوي الأحداث في لحظة زمنية مكثفة (زمن التوقف ـ زمن التعرف). ويرى محمد كامل الخطيب أن "التكثيف المزمن عبر لحظة قصيرة ، وإبراز شخصية محورية واحدة..من ركائز القصة القصيرة عكس الرواية التي يكون مدارها عادة جماعة ما في مرحلة طويلة نسبيا، وذلك هو الفيصل بين القصة القصيرة والرواية وليس عدد الصفحات" ( )
هل الكاتب وهو يكتب نصه الروائي هذا كان مازال واقعا تحت تأثير فن القصة القصيرة الذي أحبه وخاض غمار الكتابة فيه؟
3 ـ الفضاء الروائي :
يمكن أن نصنف الفضاء في "البرزخ" إلى قسمين أساسيين :
أ ـ الفضاء الرمزي :
الحافلة والنفق فضاءان يوحيان بالضيق والانغلاق والشدة.إنهما يشيران إلى جو الأزمة الذي يسود الفضاء الذي يحيا فيه السارد. إنهما ينتميان إلى زمن السرد ـ زمن الحاضر. وما الزمن الحاضر إلا زمن المحنة والأزمات سواء على المستوى المحلي أو العربي.
ب ـ الفضاء الواقعي :
يرتبط الفضاء الواقعي في نص "البرزخ" بمراحل حياة السارد ـ البطل. ويتضح لنا ذلك من
خلال الجدول التالي:
النصوص المراحل الحياتية
الفضاءات
"كنت المدى الأبعد، في طفولة ذهبية"ص:19
"آتيك مع الرفاق ، نحمل حبك على راحتنا.
نوزعه على الأحباب صغارا كنا ليلا، نهارا.
فجرا، نتسلق القطار الذي يسرق الحديد من
جبل وكسان وسيط ولاسار"،ص :19.
مرتع الطفولة والصبا
المرحلة الذهبية
الناظور
مليلية
"آه من فاس ، كلما تذكرتها. تلفت القلب ظهر المهراز نبع فياض أنتج تبراً غالي الثمن .
أدمغة قطعت قبل الأوان" مرتع الشباب وعنفوانه
المرحلة الغضة فاس
حي ظهر المهراز
"ملعونة ومباركة أنت يا دارنا البيضاء"
ص : 44 ـ 6 ـ 9 ـ 35
ملحوظة : تتكرر هذه العبارة في عدة صفحات من النص .
أتون التجربة والضياع
مرحلة النضج والوعي
الدار البيضاء
إن واقعية الفضاء وتمثيله لمراحل حياة السارد ـ البطل لمن شأنه، بتضافره مع عناصر واقعية أخرى كالشخصيات . الأعلام التي يمتلئ بها النص . وذكر بعض الأحداث التاريخية ، أن يضفي على النص الروائي طابعا يؤكد انتماءه إلى "السيرة الروائية كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا ويجعله مرآة صادقة تشهد على فترة مهمة من تاريخ المغرب الحديث عرفت كثيرا من الأحداث الهامة. ويبدو من خلال شواهد كثيرة ، أن البطل في "البرزخ" يمثل جيل الكاتب، ذلك الجيل المخدوع الذي فتح عينيه على شعارات براقة ارتفعت أصداؤها في الوطن العربي ، وفي كثير من بلاد العالم الثالث ، لطالما دغدغت ما كانت تمتلئ به تلك النفوس الغريرة البريئة من أحلام وآمال سرعان ما آلت كلها إلى الضياع والتلاشي.
4 ـ الأسلوب :
تتميز كتابة عمرولقاضي في نص "البرزج" باستعمال أسلوب برقي قائم على جمل قصيرة متوترة ، تخلو من أدوات الربط ، وتتوزع هذه الكتابة الخطابات التالية:
1 ـ خطاب صحافي مباشر. فيه خطابة ومباشرة
2 ـ خطاب فنتازي يمتزج فيه الواقعي بالخيالي
3 ـ خطاب شعري نجده في الاستهلالات وفي النص المخصص لروسادير وفي بعض المقاطع السردية التي يعبر فيها السارد عن أحداث أو فضاءات حميمية.
يبقى أن نقول في الختام : إن نص "البرزج" نص روائي يمتلئ بكثير من عناصر الجدة والتجريب، ولا يخلو من فرادة وتميز ضمن إطار الرواية المغربية المعاصرة.
الهوامش :ـ
1 ـ محمد برادة، لغة الطفولة والحلم ، ط 1 ، الرناط : الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، 1986، ص : 32 ,
ـ ظهر غلاف الرواية : قولة لأحمد بوزفور 2
12 ـ الرواية ، ص : 3
4ــ أحمد اليبوري ، دينامية النص الروائي ، ط 1 ، الرباط: منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1993، ص : 137.
ص : 137
5ـ. محمد كامل الخطيب، الرواية والواقع، بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، 1981، ص:23
* منشور بجريدة " الشمال 2000" الغراء ، عدد يوم السبت 5 يوليوز 2023 .
بقلم : عبدالجبار العلمي
1 ـ تعدد الأصوات
في نص "البرزخ" للكاتب المغربي عمر والقاضي، نجد عدة أصوات نتلقى الأحداث من خلالها :
ـ الصوت الأول هو صوت المؤلف الواقعي .
وهو الذي نجده في الاستهلالات التي تفتتح بها الفصول أو تلك التي تتخلل بعضَها أو تُختتم بها.
ويستعمل الكاتب هذا الصوت كلما أراد التعبير عن الذات الكاتبة المهمومة بهموم شتى تنطلق مما هو ذاتي وحميمي كالطفولة وفضاءاتها الحميمية ، ولعل أوضح مثال على ذلك هو تلك المقاطع المتسربلة بغلائل الشعر التي خص بها " روسادير" (من : ص : 27 ـ 30 ) . يقول محمد برادة" إن لحظات استذكار الماضي المتصل بالطفولة تلفت النظر إلى الإمكانات الكامنة في ذلك العالم القادر على إمدادها بنفحات لتحرير الذات من وطأة الجدية الطنانة للغة الكبار ومقاييسهم المتحجرة " .(1) تنتهي بهموم أخرى يشترك فيها مع السارد ـ المشارك وهي المتمثلة في الانشغال بواقع الإنسان العربي المهزوم ، والتعبير عن آلامه ومعاناته ، وعن آماله وأحلامه المحبطة ، خصوصا المثقف العربي المخدوع الذي آمن بشعارات جوفاء ، وحلم بتغيير العالم بواسطة الكلمات، ولم يكن في حقيقة الأمر إلا بطلا إشكاليا و"ضون كيشوت" معاصراً.نقرأ في بداية الرواية في الاستهلال الأول،( ص : 5)
أقرأ في كتاب الليالي العربية
عن القاتل والمقتول
وأحكي حكاية أبي ذر
للمدن المنسية
وفي نهايتها ، نقرأ المقطع التالي ، ص : 109
يا ويح مراكش
يأتيها فتاها العذري
ولا تقيم عرسها في جامع الفنا
ضون كيشوت أعرني سيفك
أعز به مراكش الدم.
ـ الصوت الثاني : هو صوت السارد ـ المشارك. أو ( الأنا الثانية للمؤلف ) ، وهو سارد مشارك في الحدث الروائي يروي في بعض المقاطع السردية بضمير المتكلم ـ المفرد ، وفي مقاطع أخرى بضمير المتكلم ـ الجمع.
إن السارد ـ المشارك يروي عن أحداث عاشها أو عايشها ، وغالبا ما يشرك هذا السارد أشخاصاً آخرين في القيام بعملية السرد بضمير المتكلم .فكأن السارد يريد أن يبلغنا أن هذه الأحداث المهولة والمتصفة في أغلبها بالقساوة والشراسة ودواعي اليأس والإحباط لم يعشها هو وحده ، بل عاشها جيل كامل هو الجيل الذي ينتمي إليه . "النص هو موال جيلي / جيلك : جيل الحلم الوردي الذي سطع في سماء السبعينيات كشهاب ، ثم خبا كشهاب أيضاً .. نصك الروائي هذا كان موال هذا الجيل وأنشودته" ) ) .)
في النص مقاطع سردية كثيرة يمكن الاستشهاد بها بهذا الخصوص ، سأقتصر هنا على ذكر المثال التالي: " سأرفع طرف معطفي إلى أذني لكي أحميها من لذعك ، مستحيل .. صغاراً كنا نتسلق مراحل العمر: نمتشق سيوفنا الخشبية . تنتظر مجيئه على رأس الدرب." ( )
ـ الصوت الثالث ـ هو صوت السارد ـ الغائب عن الحدث بضمير الغائب ، ونجد ذلك الصوت بشكل واضح في الفصل الثاني ( 11 ، ص : 10ـ 12) المخصص للقاء السارد ـ المشارك مع ناظر الثانوية.
إن المؤلف الواقعي ، يبقى حبيس المقاطع ذات الطابع الشعري التي تفتتح بها الفصول أو تنتهي بها أو تقع بين ثناياها ، يصب فيها لواعج النفس وتحسرها على ماض جميل وذكريات بهيجة ، وذلك بشكل مكثف . أما السارد ـ المشارك، فينفتح على عوالم شاسعة وأزمنة متعددة وأحداث كثيرة جدا وذلك خلال مقاطع سردية تضمها فصول النص الروائي الثلاثة عشر.
إن المؤلف يتيح لسارده حيزاً أكبر من الحرية في التنقل عبر الأمكنة والأزمنة ، تاركا له المجال لخوض مغامرة الحكي.
في النص نجد نوعا من الكشف عن هذه التقنية ( ) المستعملة في عملية السرد السابقة الذكر. نقرأ في ص : 42 : " في الليل في شوارع البيضاء تخرج النفس . تفارق صاحبها ، تتمرد، تفعل ما تشاء . في الليل في شوارع البيضاء، ترجع النفس إلى صاحبها، تتوب، يتقبلها مرحبا ومهنئا بعد أن فعلت ما فعلت".
فما هي إذن هذه الأزمنة وما هي هذه الأمكنة التي يتجول فيها السارد ـ المشارك في نص "البرزخ"؟
2 ـ الزمن الروائي:
تبتدئ الرواية بلحظة توقف الحافلة المفاجئ الذي أحدث رجة عنيفة وجعل الركاب يتصايحون ويصطدمون الواحد بالآخر ، ويسقط بعضهم على الأرض ( أرضية الحافلة) ، وينتبه من كان نائما أو شاردا كالسارد ـ البطل الذي كان غارقاً في ذكرياته البعيدة وهمومه المؤرقة ." توقف الحافلة المفاجئ ردني إلى واقعي " ( ص : 5 (
وتنتهي بمعرفة سبب هذا التوقف المفاجئ الذي امتد من الصفحة الأولى من النص ( ص : 5) إلى الصفحتين الأخيرتين منه، ص : 108 ـ 109.وهو دهسها رجلاً يقطع الطريق.
وبين لحظة التوقف ، ولحظة التعرف ، يروي السارد ـ المشارك أحداثاً كثيرة وقعت في أزمنة متعددة عاشها في مراحل حياته ابتداءً بمرحلة الطفولة إلى مرحلة الكهولة مروراً بمرحلة الشباب بكل زخمه وعنفوانه، ثمة خيط يربط بين اللحظتين على طول صفحات الرواية يذكرنا بأن ما يقع من أحداث ، يُروى بين هاتين اللحظتين ، ويتمثل في الوحدات المعنوية التالية:
ـ " توقفت الحافلة ..الضجيج لم يهدأ بعد ، سواء في الخلف أو الأمام ، كنت ممدداً بين قارتين شرق وغرب. هذا الأرق بحجم العالم ، أبحث عن الهداية بين ركام الموت والميلاد" ( ص : 42 )
ـ " يظهر أن الحافلة لن تتحرك . لا يزال الصراخ على أشده في الأمام (ص: 50 )
ـ " الحافلة لم تتحرك ، الصراخ على أشده في الأمام والوراء" ( ص :68 )
ـ الحافلة ما زالت واقفة . الضجيج في الأمام والخلف " ( ص : 74 )
ـ " الحافلة لو تبرح المكان . الضجيج في الأمام والخلف " (ص : 102 )
إن ما يرويه السارد ـ المشارك من أحداث ووقائع ، هي الفاصل بين اللحظتين المذكورتين ، لقد بلغت تلك الأحداث والوقائع من الهول والشراسة والغرابة درجة يشيب لها الولدان. ولقد شاب لها فعلا أولاد حارة ظهر المهراز زمن الستينيات، الذين كانوا حينذاك أولاداً أغراراً ، قليلي التجربة، يحلمون أحلاماً غرارة ، سرعان ما أصبحت سراباً وواقعاً شديد المرارة ، مشحونا بدواعي اليأس والإحباط . إنها "البرزخ" الحاجز بين لحظتين قصيرتين هما : لحظة البداية ـ الولادة (المتسربلة بالتطلع إلى الآمال والمستقبل وانتظار الوعود الخلَّب) ، وتشير إلى هاته اللحظة العبارتان التاليتان: "في الأمام تعالى صراخ امرأة "ص :5 ،"كان طفلها يتدلى كعنقود ذابل"ص: 5 فهناك صراخ المخاض وهناك طفل يتدلى خارجا إلى هذا العالم.
ولحظة النهاية ـ الموت (المجسدة لانهيار الأحلام وضياع العمر سدى )
" أيها السيدات والسادة. لقد مات الرجل" .ص : 109.
إن زمن البرزخ هو زمن الأحداث ، إنه زمن طويل ممتد ، أليس البرزخ هو ذلك الزمن الطويل الممتد الذي يفصل ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، والذي يقع من وقت الموت إلى البعث؟
إن الراوي ـ المشارك، يرصد أحداثا تمتد إلى الوراء ، إلى ما قبل استقلال الوطن ، كما يروي عن أحداث ما زالت طازجة تنتمي إلى حاضر قريب ( الهجرة السريةـ الجفاف.الخ)، هذا بالإضافة إلى رصده لأحداث تمتد على مدى ثلاثة عقود .
لقد قدم لنا الراوي الأحداث في لحظة زمنية مكثفة (زمن التوقف ـ زمن التعرف). ويرى محمد كامل الخطيب أن "التكثيف المزمن عبر لحظة قصيرة ، وإبراز شخصية محورية واحدة..من ركائز القصة القصيرة عكس الرواية التي يكون مدارها عادة جماعة ما في مرحلة طويلة نسبيا، وذلك هو الفيصل بين القصة القصيرة والرواية وليس عدد الصفحات" ( )
هل الكاتب وهو يكتب نصه الروائي هذا كان مازال واقعا تحت تأثير فن القصة القصيرة الذي أحبه وخاض غمار الكتابة فيه؟
3 ـ الفضاء الروائي :
يمكن أن نصنف الفضاء في "البرزخ" إلى قسمين أساسيين :
أ ـ الفضاء الرمزي :
الحافلة والنفق فضاءان يوحيان بالضيق والانغلاق والشدة.إنهما يشيران إلى جو الأزمة الذي يسود الفضاء الذي يحيا فيه السارد. إنهما ينتميان إلى زمن السرد ـ زمن الحاضر. وما الزمن الحاضر إلا زمن المحنة والأزمات سواء على المستوى المحلي أو العربي.
ب ـ الفضاء الواقعي :
يرتبط الفضاء الواقعي في نص "البرزخ" بمراحل حياة السارد ـ البطل. ويتضح لنا ذلك من
خلال الجدول التالي:
النصوص المراحل الحياتية
الفضاءات
"كنت المدى الأبعد، في طفولة ذهبية"ص:19
"آتيك مع الرفاق ، نحمل حبك على راحتنا.
نوزعه على الأحباب صغارا كنا ليلا، نهارا.
فجرا، نتسلق القطار الذي يسرق الحديد من
جبل وكسان وسيط ولاسار"،ص :19.
مرتع الطفولة والصبا
المرحلة الذهبية
الناظور
مليلية
"آه من فاس ، كلما تذكرتها. تلفت القلب ظهر المهراز نبع فياض أنتج تبراً غالي الثمن .
أدمغة قطعت قبل الأوان" مرتع الشباب وعنفوانه
المرحلة الغضة فاس
حي ظهر المهراز
"ملعونة ومباركة أنت يا دارنا البيضاء"
ص : 44 ـ 6 ـ 9 ـ 35
ملحوظة : تتكرر هذه العبارة في عدة صفحات من النص .
أتون التجربة والضياع
مرحلة النضج والوعي
الدار البيضاء
إن واقعية الفضاء وتمثيله لمراحل حياة السارد ـ البطل لمن شأنه، بتضافره مع عناصر واقعية أخرى كالشخصيات . الأعلام التي يمتلئ بها النص . وذكر بعض الأحداث التاريخية ، أن يضفي على النص الروائي طابعا يؤكد انتماءه إلى "السيرة الروائية كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا ويجعله مرآة صادقة تشهد على فترة مهمة من تاريخ المغرب الحديث عرفت كثيرا من الأحداث الهامة. ويبدو من خلال شواهد كثيرة ، أن البطل في "البرزخ" يمثل جيل الكاتب، ذلك الجيل المخدوع الذي فتح عينيه على شعارات براقة ارتفعت أصداؤها في الوطن العربي ، وفي كثير من بلاد العالم الثالث ، لطالما دغدغت ما كانت تمتلئ به تلك النفوس الغريرة البريئة من أحلام وآمال سرعان ما آلت كلها إلى الضياع والتلاشي.
4 ـ الأسلوب :
تتميز كتابة عمرولقاضي في نص "البرزج" باستعمال أسلوب برقي قائم على جمل قصيرة متوترة ، تخلو من أدوات الربط ، وتتوزع هذه الكتابة الخطابات التالية:
1 ـ خطاب صحافي مباشر. فيه خطابة ومباشرة
2 ـ خطاب فنتازي يمتزج فيه الواقعي بالخيالي
3 ـ خطاب شعري نجده في الاستهلالات وفي النص المخصص لروسادير وفي بعض المقاطع السردية التي يعبر فيها السارد عن أحداث أو فضاءات حميمية.
يبقى أن نقول في الختام : إن نص "البرزج" نص روائي يمتلئ بكثير من عناصر الجدة والتجريب، ولا يخلو من فرادة وتميز ضمن إطار الرواية المغربية المعاصرة.
الهوامش :ـ
1 ـ محمد برادة، لغة الطفولة والحلم ، ط 1 ، الرناط : الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، 1986، ص : 32 ,
ـ ظهر غلاف الرواية : قولة لأحمد بوزفور 2
12 ـ الرواية ، ص : 3
4ــ أحمد اليبوري ، دينامية النص الروائي ، ط 1 ، الرباط: منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1993، ص : 137.
ص : 137
5ـ. محمد كامل الخطيب، الرواية والواقع، بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، 1981، ص:23
* منشور بجريدة " الشمال 2000" الغراء ، عدد يوم السبت 5 يوليوز 2023 .
بقلم : عبدالجبار العلمي