وأمضى عدي فترة من الزمن في سورية وخاصة في دمشق حيث يقال إنه نظم فيها أول قصيدة. ولما مات أبوه حينئذ هجر مقامه في الحيرة واهتم بالصيد والقنص وسائر فنون اللهو والتسلية. وكان يزور (المدائن) بين فترة وأخرى ليشرف على أعمال التحرير، وفي فترة زيارته للحيرة علق فؤاده هند ابنة النعمان التي كانت تبلغ من العمر وقتئذ إحدى عشر سنة. وإن القصة التي يرويها الأغاني لفي غاية الغرابة حتى لا يمكن التجاوز عنها؛ وتتلخص في أن هنداً كانت أجمل نساء أهلها وزمانها، خرجت في خميس الفصح تتقرب في البيعة في أيام المنذر، ودخلها عدي يتقرب، وكانت عبلة الجسم فرآها عدي وهي غافلة وتأملها ولم يقل لها جواريها ذلك، وإنما قبلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية، كانت قد أحبت عدياً فلم تدر كيف تجيء له، فلما رأت هند عدياً ينظر إليها شق عليها ذلك وسبت جواريها، ولكنها وقعت في نفس عدي، فلبث حولاً لا يخبر بذلك أحداً حتى أخبرت مارية هنداً ببيعة دومة وما فيها من الرواهب وحسن بنائها، فسالت أمها الإذن فأذنت لها، وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فاخذ معه جماعة من فتيان الحيرة ودخلوا البيعة، فلما رأته ماريا قالت لهند: (انظري إلى هذا الفتى فهو أحسن من كل ما ترين من السرج وغيرها) فقالت هند: (ومن هو؟) فقالت: هو عدى ابن زيد، ثم حرضتها على الاقتراب منه وسألتها أن تكلمه، ثم انصرفتا وقد تبعته هند بنفسها وانصرف بمثل حالها، ثم عرضت له في الغد فقال لها: (لا تسأليني شيئاً إلا أعطيتك إياه) فعرفته إنها تهواه وحاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند وعاهدته على ذلك، وبادرت إلى النعمان فأخبرته خبرها وذكرت إنها شغفت به، وأنه إن لم يزوجها إياه افتضحت في أمره أو ماتت. فقال لها: (ويلك وكيف أبدأه بذلك؟). فقالت: (هو أرغب في ذلك من أن تبدأه)، وأتت عديا فأخبرته الخبر وقالت (أدعه فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه فأنه غير رادك) قال: (أخشى أن يغضبه ذلك) قالت: (م قلت لك هذا حتى فرغت منه معه) فصنع عدي طعاماً، ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام فلما أخذا منه الشراب خطبها إلى النعمان، فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام
وعند موت المنذر الرابع أيد عدي حق النعمان الذي كان من قبل تلميذه ثم غدا حماه، في عرش الحيرة، ولقد تكللت الخدعة التي مثلها في هذا الحادث بالنجاح التام، ولكنها كلفته حياته
فعزم على الأخذ بالثأر أتباع (أسود ابن المنذر) إذ فشل صاحبهم في نيل العرش، ولكن مكائدهم أثارت شكوك النعمان ضد صانع العرش له. فألقى عديا في غياهب السجن حيث ظل يرسف في القيد ردحاً طويلاً حتى قتله النعمان حينما توسط كسرى ابرويز في إطلاق سراحه
وترك عدي غلاماً يدعى زيداً أشار كسرى ابرويز بان يخلف أباه في إدارة التحرير العربي في الديوان الملكي بالمدائن، ولما تصالح مع النعمان لم ينس ثأره القديم ولكنه أخذ يتحين الفرصة ويتأهب لها؛ وكان ملوك الفرس ذوي دراية بمحاسن النساء فإذا أرادوا امرأة بعثوا من يذيع طلبتهم وما يتوفر فيها من محاسن جثمانية وخلقية، ولكنهم لم يكونوا قد فكروا حتى ذلك الحين في نساء بلاد العرب ظناً منهم بأنها خالية من أية امرأة جميلة حوت من الصفات ما طلبوه، فوجد زيد إذ ذاك الفرصة سانحة، فجاء كسرى وقال له: (رأيت أيها الملك أنككتبت في نسوة، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله كثير فأبعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية) فبعث معه رجلا جليداً، ثم دخلا الحيرة ثم وصف للنعمان طلبة الملك، فقال لزيد والرسول يسمع: (أما في عين السواد ما تبلغون به حاجتكم؟) فقال الرسول لزيد: (ما العين؟) قال: (البقر) ثم رجعا إلى كسرى فقال لهما: (أين الذي كنت خبرتني به؟) فقال له الرسول: (قال النعمان أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟) فعرف الغضب في وجهه، ثم بعث إليه كسرى فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن، ثم أمر بقتله فقتل ووطأته الفيلة
وإن الشواهد المنقولة إلينا لتظهر النعمان الثالث حاكما مستبداً زير نساء مولعاً بالخمر والغناء، كما كان مشجعاً لكثير من الشعراء وخاصة النابغة الذبياني الذي فر هاربا من الحيرة لفرية كاذبة. وإن هذه القصة وأخرى اتهم فيها الشاعر المنخل لتلقيان شعاعا نستطيع على هديه أن نتعرف حياة النعمان الخاصة، فلقد تزوج امرأة أبيه المتجردة أجمل نساء عصرها، وبينما كان هو يوليها كل حبه كانت هي تحب غيره. وقد اتهم فيها النابغة لنظمه قصيدة يصف فيها محاسن الملكة ويذكر فيها نواحي خاصة دقيقة، ولكن الحقيقة هي إنها كانت والمنخل اليشكري يتبادلان الحب ويجرعان كؤوس الهوى، وقد فاجأهما النعمان ذات يوم على غير ما يهوى؛ ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد يرى المنخل. ومن هنا نشأ المثل القائل (حتى يعود المنخل) وبالرغم مما يقال من أن كثيراً من ملوك الحيرة كانوا مسيحيين فان الشك يحتك في الصدور عما إذا كان أحدهم - سوى النعمان الثالث - يستحق هذا اللقب؛ وكان اللخميون بعكس غالبية رعيتهم عريقين في الوثنية. أما تعاليم النعمان فقد هيأته للنصرانية، كما أن هدايته - كما تؤكد القصة - كانت على يد رائده عدي ابن زيد
يذكر النسابة المسلمون أن الغساسنة - سواء المقيمون منهم في المدينة أو من جرى العرف بتسميتهم بغساسنة الشام - من ولد عمرو ابن عامر المزيقيا الذي كان قد باع أملاكه في اليمن وهاجر على رأس جمع غفير من سكانه قبيل انفجار سد مأرب؛ ويعتبر ابنه جفنة عادة مؤسس الأسرة، أما عن تاريخهم البدائي فالثابت منه ضئيل جداً لا يبل ظمأ الباحث. ومما يذكر عنهم أنهم دفعوا الجزية للضجاعمة وهي أسرة من نسل صليح الذي كان حاكما على حدود سورية تحت رعاية الروم. وتبع ذلك صراع عنيف خرج منه الغساسنة ولواء النصر يرفرف فوق رؤسهم. ومنذ ذلك الحين نراهم قد استقروا في هذه الأقاليم كممثلي السلطة الرومانية ذوي ألقاب رسمية كأشراف وقواد، تلك الألقاب التي أبدلوها هم والعرب الذين حولهم بكلمة (ملك) كما هي العادة الشرقية. (وأول من ملك الشام من آل جفنة الحرث ابن عمرو بن محرق، وسمي محرقا لأنه أول من حرق العرب في ديارهم ويكنى أبا شمر؛ ثم ملك بعده الحرث بن أبي شمر وهو الحرث الأعرج وأمه ماريه ذات القرطين، وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأبعدهم مغاراً، وأشدهم مكيدة وكان قد غزا خيبر فسبى من أهلها ثم أعتقهم، وكان قد سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف فوجه إليهم مائة رجل فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه وقتلوا من معه في الرواق وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض، وحملت الخيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم وكانت له بنت يقال لها حليمة كانت تطيب أولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل (ما يوم حليمة بسر)
(يتبع)
حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 185
بتاريخ: 18 - 01 - 1937
وعند موت المنذر الرابع أيد عدي حق النعمان الذي كان من قبل تلميذه ثم غدا حماه، في عرش الحيرة، ولقد تكللت الخدعة التي مثلها في هذا الحادث بالنجاح التام، ولكنها كلفته حياته
فعزم على الأخذ بالثأر أتباع (أسود ابن المنذر) إذ فشل صاحبهم في نيل العرش، ولكن مكائدهم أثارت شكوك النعمان ضد صانع العرش له. فألقى عديا في غياهب السجن حيث ظل يرسف في القيد ردحاً طويلاً حتى قتله النعمان حينما توسط كسرى ابرويز في إطلاق سراحه
وترك عدي غلاماً يدعى زيداً أشار كسرى ابرويز بان يخلف أباه في إدارة التحرير العربي في الديوان الملكي بالمدائن، ولما تصالح مع النعمان لم ينس ثأره القديم ولكنه أخذ يتحين الفرصة ويتأهب لها؛ وكان ملوك الفرس ذوي دراية بمحاسن النساء فإذا أرادوا امرأة بعثوا من يذيع طلبتهم وما يتوفر فيها من محاسن جثمانية وخلقية، ولكنهم لم يكونوا قد فكروا حتى ذلك الحين في نساء بلاد العرب ظناً منهم بأنها خالية من أية امرأة جميلة حوت من الصفات ما طلبوه، فوجد زيد إذ ذاك الفرصة سانحة، فجاء كسرى وقال له: (رأيت أيها الملك أنككتبت في نسوة، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله كثير فأبعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية) فبعث معه رجلا جليداً، ثم دخلا الحيرة ثم وصف للنعمان طلبة الملك، فقال لزيد والرسول يسمع: (أما في عين السواد ما تبلغون به حاجتكم؟) فقال الرسول لزيد: (ما العين؟) قال: (البقر) ثم رجعا إلى كسرى فقال لهما: (أين الذي كنت خبرتني به؟) فقال له الرسول: (قال النعمان أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟) فعرف الغضب في وجهه، ثم بعث إليه كسرى فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن، ثم أمر بقتله فقتل ووطأته الفيلة
وإن الشواهد المنقولة إلينا لتظهر النعمان الثالث حاكما مستبداً زير نساء مولعاً بالخمر والغناء، كما كان مشجعاً لكثير من الشعراء وخاصة النابغة الذبياني الذي فر هاربا من الحيرة لفرية كاذبة. وإن هذه القصة وأخرى اتهم فيها الشاعر المنخل لتلقيان شعاعا نستطيع على هديه أن نتعرف حياة النعمان الخاصة، فلقد تزوج امرأة أبيه المتجردة أجمل نساء عصرها، وبينما كان هو يوليها كل حبه كانت هي تحب غيره. وقد اتهم فيها النابغة لنظمه قصيدة يصف فيها محاسن الملكة ويذكر فيها نواحي خاصة دقيقة، ولكن الحقيقة هي إنها كانت والمنخل اليشكري يتبادلان الحب ويجرعان كؤوس الهوى، وقد فاجأهما النعمان ذات يوم على غير ما يهوى؛ ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد يرى المنخل. ومن هنا نشأ المثل القائل (حتى يعود المنخل) وبالرغم مما يقال من أن كثيراً من ملوك الحيرة كانوا مسيحيين فان الشك يحتك في الصدور عما إذا كان أحدهم - سوى النعمان الثالث - يستحق هذا اللقب؛ وكان اللخميون بعكس غالبية رعيتهم عريقين في الوثنية. أما تعاليم النعمان فقد هيأته للنصرانية، كما أن هدايته - كما تؤكد القصة - كانت على يد رائده عدي ابن زيد
يذكر النسابة المسلمون أن الغساسنة - سواء المقيمون منهم في المدينة أو من جرى العرف بتسميتهم بغساسنة الشام - من ولد عمرو ابن عامر المزيقيا الذي كان قد باع أملاكه في اليمن وهاجر على رأس جمع غفير من سكانه قبيل انفجار سد مأرب؛ ويعتبر ابنه جفنة عادة مؤسس الأسرة، أما عن تاريخهم البدائي فالثابت منه ضئيل جداً لا يبل ظمأ الباحث. ومما يذكر عنهم أنهم دفعوا الجزية للضجاعمة وهي أسرة من نسل صليح الذي كان حاكما على حدود سورية تحت رعاية الروم. وتبع ذلك صراع عنيف خرج منه الغساسنة ولواء النصر يرفرف فوق رؤسهم. ومنذ ذلك الحين نراهم قد استقروا في هذه الأقاليم كممثلي السلطة الرومانية ذوي ألقاب رسمية كأشراف وقواد، تلك الألقاب التي أبدلوها هم والعرب الذين حولهم بكلمة (ملك) كما هي العادة الشرقية. (وأول من ملك الشام من آل جفنة الحرث ابن عمرو بن محرق، وسمي محرقا لأنه أول من حرق العرب في ديارهم ويكنى أبا شمر؛ ثم ملك بعده الحرث بن أبي شمر وهو الحرث الأعرج وأمه ماريه ذات القرطين، وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأبعدهم مغاراً، وأشدهم مكيدة وكان قد غزا خيبر فسبى من أهلها ثم أعتقهم، وكان قد سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف فوجه إليهم مائة رجل فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه وقتلوا من معه في الرواق وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض، وحملت الخيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم وكانت له بنت يقال لها حليمة كانت تطيب أولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل (ما يوم حليمة بسر)
(يتبع)
حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 185
بتاريخ: 18 - 01 - 1937