وأنا أقرأ رواية الأميركي (ديان ديللي) «فتاة نابلس» ٢٠٢٢ لم يغب غسان كنفاني عن ذهني، سواء في كتابه «في الأدب الصهيوني» ١٩٦٦ أو في روايته «رجال في الشمس» ١٩٦٣. الكتاب الأول لأنه توقف فيه أمام العربي في الأدب الصهيوني والثاني لأنه كتب فيه عن الفلسطيني الذي يهرب من المواجهة ويبحث عن حل فردي لمشكلته بعيداً عن فلسطين وتكون النتيجة الموت.
مقابل الصهيوني المتعالي المتفوق والعربي السلبي المتخلف نقرأ عن الأميركي السوبرمان والمتميز والفلسطيني البائس؛ في الإنجاز والتعليم وطرق التدريس، ولهذا فإن الفلسطيني النبيه لا يطمح إلا إلى مغادرة مدينته بحثاً عن تحقيق ذاته في الوول ستريت في أميركا.
إن حياته في نابلس ودراسته في جامعتها مضيعة للوقت ليس أكثر. هذا ما يقتنع به أمير الشاب النابلسي ولهذا يغادر مدينته بحثاً عن المال والحياة الفضلى غير البائسة، تماماً كما فعل شخوص رواية كنفاني.
لم يحقق الفلسطيني في رواية «رجال في الشمس» ما طمح إلى تحقيقه ومات في الخزان وألقى السائق الفلسطيني أبو الخيزران جثث الثلاثة في مكب النفايات، ولم يصل أمير إلى نيويورك ومات في الفندق في دبي مقتولاً، وكان لا بد من إغلاق الملف.
لقد كان سمكة صغيرة، كما قال رجل المخابرات الإيراني، لا يعني للأميركي شيئاً وكذلك للإيراني، بل إنه لم يعن لفتاة نابلس عائشة الدجاني أي شيء، فهذه التي حصلت على مكافأتها من الإيرانيين جراء الخدمة التي قدمتها لهم انتهى بها المقام في أحد بارات لندن لتعيش حياتها الشخصية بحرية بعيداً عن مدينتها نابلس المحافظة.
في إمعان النظر في شخصية عائشة في رواية «فتاة نابلس» وشخصية أبو الخيزران في رواية «رجال في الشمس» نجد تشابهاً كبيراً، فكلتا الشخصيتين لا ضمير لها ولا أدنى انتماء للوطن، علما أن أبا الخيزران توصل إلى ذلك، فقد كان في شبابه محارباً. تحصل كلتا الشخصيتين على المال لتواصل حياتها، ولو كان ذلك على جثث الآخرين.
في لندن عندما تلتقي عائشة بالإنجليزي (شارلي بريدج) يسألها إن كانت تعرف شاباً اسمه أمير كان درسه في جامعة نابلس، فتنكر معرفتها. لقد صار أمير لها نسياً منسياً.
السؤال الذي أثاره غسان كنفاني على لسان أبو الخيزران:
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لم يغب أيضاً عن ذاكرتي، على الرغم من أن (ديللي) لم يثره على لسان الشخصية الفلسطينية، فهو أصلاً لا يعنيه، فما يعنيه كما أرى هو فتاة نابلس أكثر؛ الفتاة التي وصفت بالذكاء واختيرت عنواناً للرواية. لقد ربحت المال واستقرت في لندن لتحقق حلمها.
لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ سؤال سأله أبو الخيزران وذهب دارسون كثر لرواية غسان أنه سؤاله هو نفسه يريد أن يحرض الفلسطينيين على الثورة والقتال من أجل العودة إلى فلسطين، لا الابتعاد عنها والبحث عن جنة في مكان آخر. هذا السؤال يدفعني دائماً إلى إثارة سؤال آخر:
- هل ستختلف النتيجة إن دققنا جدران الخزان؟
مرة أجرت معي فضائية فلسطينية مقابلة لأتحدث فيها عن كتابي «أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات» وكانت تتبنى خيار المقاومة، وسئلت عن رأيي: هل أنا مع خيار أوسلو أم مع خيار المقاومة؟ فأجبت:
لا أعرف حقاً، ولكني حين أمعن النظر فيما وصلت إليه أوسلو وما حققته المقاومة أرى أننا لم ننجز في الحالتين، فلم تقم الدولة الفلسطينية ولم يتوقف الاستيطان ولم يعد اللاجئون.
ولكن إجابتي عن السؤال تعيدني إلى سؤال آخر هو:
- أيهما أفضل الموت بشرف أم الموت الطبيعي الذي حذرنا منه غسان كنفاني؟
هل المقارنة بين رواية كنفاني ورواية (ديللي) مشروعة؟
ما يهمني أكثر حقاً هو أن النهاية التي آل إليها الفلسطيني في الرواية التي كتبت بعد ستين عاماً من كتابة الرواية الأولى هي النهاية نفسها. إن مصير الفلسطيني فيهما هو الموت في المنفى أو العيش على مآسي الآخرين أيضاً في المنفى.
هنا أتوقف أمام رواية سامية عيسى «حليب التين» ٢٠١١، لتبيان ما آل إليه الفلسطيني الذي دق جدران الخزان في لبنان في فترة صعود الثورة الفلسطينية.
يستشهد الفلسطيني مخلفاً وراءه زوجته الشابة وأطفاله منها وأمه، وبعد خروج المقاومة من بيروت في ١٩٨٢ تسوء ظروف الفلسطينيين هناك، فتضطر زوجة الشهيد للسفر إلى دبي للعمل في صالون نسائي كان مجرد واجهة، فيقودها عملها إلى التفريط بجسدها مجبرة حتى ترسل المال إلى والدة زوجها وإلى أطفالها، ويستقر بهم جميعهم المقام في دولة اسكندنافية، وهكذا لم يعدهم العمل الفدائي - دق جدران الخزان - إلى فلسطين، وبدلاً من أن يقربهم منها أبعدهم عنها أكثر وأكثر.
في ١٩٧٢استشهد كنفاني بتفجير سيارته، وفي ١٩٨١ اغتيل ماجد أبو شرار في فندق في روما، وفي ١٩٨٤ مات معين بسيسو في فندق في لندن، واللافت أن الثلاثة واصلوا قرع جدران الخزان منذ بواكير شبابهم. حالة الفلسطيني، على ما يبدو، حالة سيزيفية.
في النقد البنيوي غالباً ما يبحث البنيويون وهم يدرسون الأعمال الأدبية عن الصلة بينها، لا الصلة بين أجزاء العمل الأدبي الواحد وحسب، بل عن الصلة بين نصوص العصر، وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك.
عادل الأسطة
2023-07-23
مقابل الصهيوني المتعالي المتفوق والعربي السلبي المتخلف نقرأ عن الأميركي السوبرمان والمتميز والفلسطيني البائس؛ في الإنجاز والتعليم وطرق التدريس، ولهذا فإن الفلسطيني النبيه لا يطمح إلا إلى مغادرة مدينته بحثاً عن تحقيق ذاته في الوول ستريت في أميركا.
إن حياته في نابلس ودراسته في جامعتها مضيعة للوقت ليس أكثر. هذا ما يقتنع به أمير الشاب النابلسي ولهذا يغادر مدينته بحثاً عن المال والحياة الفضلى غير البائسة، تماماً كما فعل شخوص رواية كنفاني.
لم يحقق الفلسطيني في رواية «رجال في الشمس» ما طمح إلى تحقيقه ومات في الخزان وألقى السائق الفلسطيني أبو الخيزران جثث الثلاثة في مكب النفايات، ولم يصل أمير إلى نيويورك ومات في الفندق في دبي مقتولاً، وكان لا بد من إغلاق الملف.
لقد كان سمكة صغيرة، كما قال رجل المخابرات الإيراني، لا يعني للأميركي شيئاً وكذلك للإيراني، بل إنه لم يعن لفتاة نابلس عائشة الدجاني أي شيء، فهذه التي حصلت على مكافأتها من الإيرانيين جراء الخدمة التي قدمتها لهم انتهى بها المقام في أحد بارات لندن لتعيش حياتها الشخصية بحرية بعيداً عن مدينتها نابلس المحافظة.
في إمعان النظر في شخصية عائشة في رواية «فتاة نابلس» وشخصية أبو الخيزران في رواية «رجال في الشمس» نجد تشابهاً كبيراً، فكلتا الشخصيتين لا ضمير لها ولا أدنى انتماء للوطن، علما أن أبا الخيزران توصل إلى ذلك، فقد كان في شبابه محارباً. تحصل كلتا الشخصيتين على المال لتواصل حياتها، ولو كان ذلك على جثث الآخرين.
في لندن عندما تلتقي عائشة بالإنجليزي (شارلي بريدج) يسألها إن كانت تعرف شاباً اسمه أمير كان درسه في جامعة نابلس، فتنكر معرفتها. لقد صار أمير لها نسياً منسياً.
السؤال الذي أثاره غسان كنفاني على لسان أبو الخيزران:
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لم يغب أيضاً عن ذاكرتي، على الرغم من أن (ديللي) لم يثره على لسان الشخصية الفلسطينية، فهو أصلاً لا يعنيه، فما يعنيه كما أرى هو فتاة نابلس أكثر؛ الفتاة التي وصفت بالذكاء واختيرت عنواناً للرواية. لقد ربحت المال واستقرت في لندن لتحقق حلمها.
لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ سؤال سأله أبو الخيزران وذهب دارسون كثر لرواية غسان أنه سؤاله هو نفسه يريد أن يحرض الفلسطينيين على الثورة والقتال من أجل العودة إلى فلسطين، لا الابتعاد عنها والبحث عن جنة في مكان آخر. هذا السؤال يدفعني دائماً إلى إثارة سؤال آخر:
- هل ستختلف النتيجة إن دققنا جدران الخزان؟
مرة أجرت معي فضائية فلسطينية مقابلة لأتحدث فيها عن كتابي «أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات» وكانت تتبنى خيار المقاومة، وسئلت عن رأيي: هل أنا مع خيار أوسلو أم مع خيار المقاومة؟ فأجبت:
لا أعرف حقاً، ولكني حين أمعن النظر فيما وصلت إليه أوسلو وما حققته المقاومة أرى أننا لم ننجز في الحالتين، فلم تقم الدولة الفلسطينية ولم يتوقف الاستيطان ولم يعد اللاجئون.
ولكن إجابتي عن السؤال تعيدني إلى سؤال آخر هو:
- أيهما أفضل الموت بشرف أم الموت الطبيعي الذي حذرنا منه غسان كنفاني؟
هل المقارنة بين رواية كنفاني ورواية (ديللي) مشروعة؟
ما يهمني أكثر حقاً هو أن النهاية التي آل إليها الفلسطيني في الرواية التي كتبت بعد ستين عاماً من كتابة الرواية الأولى هي النهاية نفسها. إن مصير الفلسطيني فيهما هو الموت في المنفى أو العيش على مآسي الآخرين أيضاً في المنفى.
هنا أتوقف أمام رواية سامية عيسى «حليب التين» ٢٠١١، لتبيان ما آل إليه الفلسطيني الذي دق جدران الخزان في لبنان في فترة صعود الثورة الفلسطينية.
يستشهد الفلسطيني مخلفاً وراءه زوجته الشابة وأطفاله منها وأمه، وبعد خروج المقاومة من بيروت في ١٩٨٢ تسوء ظروف الفلسطينيين هناك، فتضطر زوجة الشهيد للسفر إلى دبي للعمل في صالون نسائي كان مجرد واجهة، فيقودها عملها إلى التفريط بجسدها مجبرة حتى ترسل المال إلى والدة زوجها وإلى أطفالها، ويستقر بهم جميعهم المقام في دولة اسكندنافية، وهكذا لم يعدهم العمل الفدائي - دق جدران الخزان - إلى فلسطين، وبدلاً من أن يقربهم منها أبعدهم عنها أكثر وأكثر.
في ١٩٧٢استشهد كنفاني بتفجير سيارته، وفي ١٩٨١ اغتيل ماجد أبو شرار في فندق في روما، وفي ١٩٨٤ مات معين بسيسو في فندق في لندن، واللافت أن الثلاثة واصلوا قرع جدران الخزان منذ بواكير شبابهم. حالة الفلسطيني، على ما يبدو، حالة سيزيفية.
في النقد البنيوي غالباً ما يبحث البنيويون وهم يدرسون الأعمال الأدبية عن الصلة بينها، لا الصلة بين أجزاء العمل الأدبي الواحد وحسب، بل عن الصلة بين نصوص العصر، وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك.
عادل الأسطة
2023-07-23