(أعتقد أن قيمة الكاتب موصولة صلة خفية بمقدار ما يستجيشه من روح الثورة. ولعليّ أقترب من صحة التعبير إذا قلت روح المقاومة. إذ لست من الحمق بحيث أتخيل أن كتاب الجناح الأيسر وحدهم هم أصحاب المزية الفنية)
(قلت محتجاً على صاحبي: إن أجمل الآثار الفنية ومنها الآثار التي يكتب لها الشيوع بعد ظهورها كثيراً ما كانت في بداية الأمر مقصورة في عرفان قدرها على فئة جد قليلة. وناولته كتاباً أتفق أن كان معي ساعتئذ قائلاً: إليك فاقرأ. إن بيتهوفن نفسه قد جرى عليه مثل ذلك)
ستدفعون الفنانين بينكم إلى الموافقة. ومن أبى من خيرتهم المنتقاة أن يبتذل فنه ألجأتموه إلى السكوت، فتعود الثقافة التي تزعمون خدمتها وإيضاحها والذود عنها وهي وصمة عار عليكم)
(مهما يكن من جمال العمل الفني في بلاد الجمهوريات الشيوعية الروسية فهو يعيب صاحبه إن لم يكن على النسق المرسوم. إن الجمال عندهم خلة من خلال الموسرين! ومهما يكن من عبقرية الفنان فهو مصدوف عنه عفواً أو قسراً إن يعمل على النسق المرسوم، فكل ما يطلب منهم الموافقة، وهو ضامن بعدها كل ما عدا ذلك)
(إذا أضطر العقل اضطراراً إلى الإذعان لكلمة الأمر فأقل ما هنالك أنه قادر على الإحساس بفقد الحرية. أما إذا سيس العقل من بداية الأمر سياسة توحي إليه أن يذعن قبل أن تأتيه كلمة الأمر فقد بلغ من فقده أن يفقد حتى الشعور بالاستعباد. وإني لأعرف من اجل هذا أن كثيراً من الفتيان الشيوعيين يستغربون ويمنعون في الإنكار إذا قيل لهم أنهم محرمون نعمة الحرية)
(إن خير الوسائل التي يبلغ بها الكاتب مزيته العالمية لهي مواهبه المتفردة كل التفرد. لأن المرء إنما يكون بشراً عريق الإنسانية بفرط ما فيه من الخصال الفردية، فما كان روسي أعرق روسية من مكسيكم جوركي، وما أصغت أسماع العالم إلى كاتب روسي أشد من إصغائها إليه) تلك شذرات من الكتيب اللطيف الطريف الذي كتبه الأديب الفرنسي الكبير (أندريه جيد) بعد عودته من البلاد الروسية، متحريا فيه ما تعود أن يتحراه من الصدق والصراحة والاعتراف بالخطأ والأنفة والإصرار عليه ذهابا مع الغرور والكبرياء. وقد كان من نصراء الدولة الروسية الحديثة وأصحاب الرجاء العظيم في تجاربها ومساعيها، فلما شهد الحقيقة بعينيه لم يخادع نفسه ولم يغالط حسه، وعاد يأسى ويأسف في لهجة منزهة من الضغينة والتشهير، ولكنها تشف عن خيبة الرجاء في كثير من الأمور
فالثقافة هي مقياس الصلاح في كل نظام
أما مقياس الثقافة فهو الابتكار والحرية، أو هو (المزايا الشخصية) التي يعبر عنها الفنان والشاعر والكاتب كما قررنا ذلك واعدنا تقريره مرات، ولا نظنه اليوم في غنى عن التقرير
لا أمل في نظام حكومي أو نظام اجتماعي لا تقترن به ثقافة العلوم وثقافة الفنون
ولا أمل في ثقافة نعرف ما تنتجه قبل أن ينتج، ونستغني عما تصوغه قبل أن نطلع عليه، لأنه لن يعدو ما نعلم وما نظن من موضوع ومن غاية ومن قالب ومن تصوير وتفكير
وقد نسى (جيد) أن الكاتب الروسي في ظل الشيوعية مطالب بشيء غير (الموافقة) واصعب تحصيلا على طالبه من الموافقة! لأنه إذا وافق الروسيين الخاضعين للأمر والوحي والإلهام فمن الواجب أن لا يوافق القراء الغرباء الذين لا يخضعون لأمر ولا يصدرون عن وحي أو الهام. وويل للكاتب الروسي الذي يصاب باستحسان العالم لما يكتب ويبتلى بتقريظ النقاد في بلاد راس المال لما يمثله من شعور ويرمز إليه من آمال ويشابه به الآدميين الموسرين من عواطف وأحلام وأفكار
تلك إذن خيانة، تلك إذن مخالسة وخديعة، تلك إذن مؤامرة بين الكاتب وبين نظام راس المال، ويكفي أن يتشابه الإنسان الشيوعي والإنسان (البورجوازي) في بعض العواطف والأحلام لتثبت دلائل المؤامرة كل الثبوت، أو يثبت شذوذ الكاتب عن خلائق الشيوعيين، لأنه إنسان كسائر الناس!!
ومن أضاحيك القوم أن تصدر رواية لبعض أعلامهم بالإنجليزية والفرنسية والشيكية ولما تصدر بالروسية، ونعني بها رواية (نحن) لمؤلفها الكاتب الروسي النابغ (زمياتين) الذي يدين بالثورة ولكنه يدين بآمال لبني الإنسان وراء آمال الشيوعيين. . . . فيقول الناقدون الحكوميون الحصفاء: وماذا عسى أن تكون تلك الآمال؟ أليس هذا دليلاً على أن الكاتب يخامره شعور كشعور الموسرين الذين فقدوا غنائمهم فهم أبداً في حنين إلى حال وراء هذا الحال؟!
وحقت اللعنة على زمياتين لأنه يحظى بالشهرة والمتابعة بين أناس من الآدميين البورجوازيين. فضاع الرجل في بلاده ولم يغن عنه إعجاب القراء في غيرها، ولم يؤذن له أن يكون إنسانا لأن الإنسانية تشمل الناس جميعاً. أما الشيوعية فلا ينبغي أن تشمل أحداً غير الشيوعيين!. .
ونحسب أن المقاييس كلها عرضة للضلال والحيرة والاشتباه. إلا مقياس الحرية الفنية فهو وحده حسب الباحث من قياس صحيح واف لمراتب الأمم وفضائل المجتمعات ومآثر الحكومات
فلا حرية - حق حرية - حيث تتقيد الثقافة الفنية، ولا استبعاد - حق الاستبعاد - حيث تنطلق الثقافة الفنية من قيودها
وبهذا المقياس الصادق المحكم ننفذ إلى الصميم من وراء الأغشية والظواهر ولا نقصر الحكم على الحرية التي تمثلها الشرائع ودساتير الحكومات
فرب أمة لا تشتمل قوانينها على خرف واحد يحرم الابتكار والحرية، بل تنص القوانين فيها على حرية الرأي وحرية الإبداع والتصوير، ثم يظهر (الأثر الفني) فيها فتضيق به الصدور وتشيح عنه الأبصار وتتلاحق الكوارث على رأس صاحبه، لأنه يقول ما لا يعجب الناس وإن لم يقل ما يخالف القوانين ويناقض الدساتير
تلك أمة من العبيد وإن قيل على الورق إنها أمة من الأحرار. وشر ما فيها إنها مستعبدة مقهورة بغير حراس وغير قيود وغير طغاة، ولو كان استعبادها من حراسها وقيودها وطغاتها لزال الاستعباد حين يزول جميع هؤلاء
ورب أمة تزدحم الأوراق فيها بتحريم هذا وعقوبة ذاك ولا تنقطع فيها مبدعات الجمال وآيات الفنون فترة من الفترات. فارجع إلى مقاييس القوانين كلها تقل لك إنها أمة مغلوبة مسلوبة، وارجع إلى مقياس الفن وحده يقل لك ما هو اصدق واعمق، وهو أن السعة سعة النفوس والأذهان لا سعة الدساتير المسطورة على الأوراق؛ وإن نفساً تتسع للإبداع الحديث وترحب بالرأي الغريب وتستقبل النوازع النفسية والخوالج الفنية بغير حدود ولا أرصاد لهي حرة في غنى عن الإذن لها بالحرية، وهي وشيكة أن تنفض عن كواهلها كل ثقل يحول بينها وبين العمل الطليق
شر الآداب هو أدب الموافقة والمجاراة، لكننا نخطئ إذا حسبنا الحكومات الغاشمة علة هذا الأدب دون سائر العلل التي تفرضه على الكتاب والقراء
فالأدب التجاري أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم. لأن الذي يكتب للرواج يكتب ما يوافق الأذواق ويجاري الأهواء ولا يكتب ما ينبعث من سليقة حرة وقريحة شاعرة، والذنب في ذلك على الأخلاق لا على القوانين
والأدب الضعيف أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم، لأن النفس الضعيفة لن تهتدي إلى القوة ولو أخلى لها الحاكم طريقها. فهي توافق وتجاري عجزا عن الخلاف والانفراد، لا خوفاً من التفكير الطليق والقول الصريح
والأدب الجامد أدب موافقة ومجاراة، لأنه ينافر الحركة ويوافق السكون والركود
والأدب الذليل أدب موافقة ومجاراة، لأن الذليل لا يحسن غير التمليق والازدلاف، ولن يكون الملق إلا بالموافقة ولو كانت غير ماجورة، وبالمجاراة ولو كانت غير مشكورة
وما من عيب تعيله على أدب من الآداب إلا انتهى في قراره إلى أن يكون ضرباً من الموافقة ونقصاً في الحرية والإبداع، فالموافقة لا جديد فيها ولا حاجة إليها ولا دوام لها، وإنما تولع النفوس بالأدب لأنها متغيرة وليست براكدة، ولأنها متطلعة وليست بعمياء، وكيف يتفق التغير والمطابقة؟ وكيف يتمشى التطلع والاستقرار؟
إلا إننا نبادر فنقول إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة، فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص وكل مما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 211
بتاريخ: 19 - 07 - 1937
(قلت محتجاً على صاحبي: إن أجمل الآثار الفنية ومنها الآثار التي يكتب لها الشيوع بعد ظهورها كثيراً ما كانت في بداية الأمر مقصورة في عرفان قدرها على فئة جد قليلة. وناولته كتاباً أتفق أن كان معي ساعتئذ قائلاً: إليك فاقرأ. إن بيتهوفن نفسه قد جرى عليه مثل ذلك)
ستدفعون الفنانين بينكم إلى الموافقة. ومن أبى من خيرتهم المنتقاة أن يبتذل فنه ألجأتموه إلى السكوت، فتعود الثقافة التي تزعمون خدمتها وإيضاحها والذود عنها وهي وصمة عار عليكم)
(مهما يكن من جمال العمل الفني في بلاد الجمهوريات الشيوعية الروسية فهو يعيب صاحبه إن لم يكن على النسق المرسوم. إن الجمال عندهم خلة من خلال الموسرين! ومهما يكن من عبقرية الفنان فهو مصدوف عنه عفواً أو قسراً إن يعمل على النسق المرسوم، فكل ما يطلب منهم الموافقة، وهو ضامن بعدها كل ما عدا ذلك)
(إذا أضطر العقل اضطراراً إلى الإذعان لكلمة الأمر فأقل ما هنالك أنه قادر على الإحساس بفقد الحرية. أما إذا سيس العقل من بداية الأمر سياسة توحي إليه أن يذعن قبل أن تأتيه كلمة الأمر فقد بلغ من فقده أن يفقد حتى الشعور بالاستعباد. وإني لأعرف من اجل هذا أن كثيراً من الفتيان الشيوعيين يستغربون ويمنعون في الإنكار إذا قيل لهم أنهم محرمون نعمة الحرية)
(إن خير الوسائل التي يبلغ بها الكاتب مزيته العالمية لهي مواهبه المتفردة كل التفرد. لأن المرء إنما يكون بشراً عريق الإنسانية بفرط ما فيه من الخصال الفردية، فما كان روسي أعرق روسية من مكسيكم جوركي، وما أصغت أسماع العالم إلى كاتب روسي أشد من إصغائها إليه) تلك شذرات من الكتيب اللطيف الطريف الذي كتبه الأديب الفرنسي الكبير (أندريه جيد) بعد عودته من البلاد الروسية، متحريا فيه ما تعود أن يتحراه من الصدق والصراحة والاعتراف بالخطأ والأنفة والإصرار عليه ذهابا مع الغرور والكبرياء. وقد كان من نصراء الدولة الروسية الحديثة وأصحاب الرجاء العظيم في تجاربها ومساعيها، فلما شهد الحقيقة بعينيه لم يخادع نفسه ولم يغالط حسه، وعاد يأسى ويأسف في لهجة منزهة من الضغينة والتشهير، ولكنها تشف عن خيبة الرجاء في كثير من الأمور
فالثقافة هي مقياس الصلاح في كل نظام
أما مقياس الثقافة فهو الابتكار والحرية، أو هو (المزايا الشخصية) التي يعبر عنها الفنان والشاعر والكاتب كما قررنا ذلك واعدنا تقريره مرات، ولا نظنه اليوم في غنى عن التقرير
لا أمل في نظام حكومي أو نظام اجتماعي لا تقترن به ثقافة العلوم وثقافة الفنون
ولا أمل في ثقافة نعرف ما تنتجه قبل أن ينتج، ونستغني عما تصوغه قبل أن نطلع عليه، لأنه لن يعدو ما نعلم وما نظن من موضوع ومن غاية ومن قالب ومن تصوير وتفكير
وقد نسى (جيد) أن الكاتب الروسي في ظل الشيوعية مطالب بشيء غير (الموافقة) واصعب تحصيلا على طالبه من الموافقة! لأنه إذا وافق الروسيين الخاضعين للأمر والوحي والإلهام فمن الواجب أن لا يوافق القراء الغرباء الذين لا يخضعون لأمر ولا يصدرون عن وحي أو الهام. وويل للكاتب الروسي الذي يصاب باستحسان العالم لما يكتب ويبتلى بتقريظ النقاد في بلاد راس المال لما يمثله من شعور ويرمز إليه من آمال ويشابه به الآدميين الموسرين من عواطف وأحلام وأفكار
تلك إذن خيانة، تلك إذن مخالسة وخديعة، تلك إذن مؤامرة بين الكاتب وبين نظام راس المال، ويكفي أن يتشابه الإنسان الشيوعي والإنسان (البورجوازي) في بعض العواطف والأحلام لتثبت دلائل المؤامرة كل الثبوت، أو يثبت شذوذ الكاتب عن خلائق الشيوعيين، لأنه إنسان كسائر الناس!!
ومن أضاحيك القوم أن تصدر رواية لبعض أعلامهم بالإنجليزية والفرنسية والشيكية ولما تصدر بالروسية، ونعني بها رواية (نحن) لمؤلفها الكاتب الروسي النابغ (زمياتين) الذي يدين بالثورة ولكنه يدين بآمال لبني الإنسان وراء آمال الشيوعيين. . . . فيقول الناقدون الحكوميون الحصفاء: وماذا عسى أن تكون تلك الآمال؟ أليس هذا دليلاً على أن الكاتب يخامره شعور كشعور الموسرين الذين فقدوا غنائمهم فهم أبداً في حنين إلى حال وراء هذا الحال؟!
وحقت اللعنة على زمياتين لأنه يحظى بالشهرة والمتابعة بين أناس من الآدميين البورجوازيين. فضاع الرجل في بلاده ولم يغن عنه إعجاب القراء في غيرها، ولم يؤذن له أن يكون إنسانا لأن الإنسانية تشمل الناس جميعاً. أما الشيوعية فلا ينبغي أن تشمل أحداً غير الشيوعيين!. .
ونحسب أن المقاييس كلها عرضة للضلال والحيرة والاشتباه. إلا مقياس الحرية الفنية فهو وحده حسب الباحث من قياس صحيح واف لمراتب الأمم وفضائل المجتمعات ومآثر الحكومات
فلا حرية - حق حرية - حيث تتقيد الثقافة الفنية، ولا استبعاد - حق الاستبعاد - حيث تنطلق الثقافة الفنية من قيودها
وبهذا المقياس الصادق المحكم ننفذ إلى الصميم من وراء الأغشية والظواهر ولا نقصر الحكم على الحرية التي تمثلها الشرائع ودساتير الحكومات
فرب أمة لا تشتمل قوانينها على خرف واحد يحرم الابتكار والحرية، بل تنص القوانين فيها على حرية الرأي وحرية الإبداع والتصوير، ثم يظهر (الأثر الفني) فيها فتضيق به الصدور وتشيح عنه الأبصار وتتلاحق الكوارث على رأس صاحبه، لأنه يقول ما لا يعجب الناس وإن لم يقل ما يخالف القوانين ويناقض الدساتير
تلك أمة من العبيد وإن قيل على الورق إنها أمة من الأحرار. وشر ما فيها إنها مستعبدة مقهورة بغير حراس وغير قيود وغير طغاة، ولو كان استعبادها من حراسها وقيودها وطغاتها لزال الاستعباد حين يزول جميع هؤلاء
ورب أمة تزدحم الأوراق فيها بتحريم هذا وعقوبة ذاك ولا تنقطع فيها مبدعات الجمال وآيات الفنون فترة من الفترات. فارجع إلى مقاييس القوانين كلها تقل لك إنها أمة مغلوبة مسلوبة، وارجع إلى مقياس الفن وحده يقل لك ما هو اصدق واعمق، وهو أن السعة سعة النفوس والأذهان لا سعة الدساتير المسطورة على الأوراق؛ وإن نفساً تتسع للإبداع الحديث وترحب بالرأي الغريب وتستقبل النوازع النفسية والخوالج الفنية بغير حدود ولا أرصاد لهي حرة في غنى عن الإذن لها بالحرية، وهي وشيكة أن تنفض عن كواهلها كل ثقل يحول بينها وبين العمل الطليق
شر الآداب هو أدب الموافقة والمجاراة، لكننا نخطئ إذا حسبنا الحكومات الغاشمة علة هذا الأدب دون سائر العلل التي تفرضه على الكتاب والقراء
فالأدب التجاري أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم. لأن الذي يكتب للرواج يكتب ما يوافق الأذواق ويجاري الأهواء ولا يكتب ما ينبعث من سليقة حرة وقريحة شاعرة، والذنب في ذلك على الأخلاق لا على القوانين
والأدب الضعيف أدب موافقة ومجاراة وإن لم تفرضه حكومة ولم يطلبه حاكم غاشم، لأن النفس الضعيفة لن تهتدي إلى القوة ولو أخلى لها الحاكم طريقها. فهي توافق وتجاري عجزا عن الخلاف والانفراد، لا خوفاً من التفكير الطليق والقول الصريح
والأدب الجامد أدب موافقة ومجاراة، لأنه ينافر الحركة ويوافق السكون والركود
والأدب الذليل أدب موافقة ومجاراة، لأن الذليل لا يحسن غير التمليق والازدلاف، ولن يكون الملق إلا بالموافقة ولو كانت غير ماجورة، وبالمجاراة ولو كانت غير مشكورة
وما من عيب تعيله على أدب من الآداب إلا انتهى في قراره إلى أن يكون ضرباً من الموافقة ونقصاً في الحرية والإبداع، فالموافقة لا جديد فيها ولا حاجة إليها ولا دوام لها، وإنما تولع النفوس بالأدب لأنها متغيرة وليست براكدة، ولأنها متطلعة وليست بعمياء، وكيف يتفق التغير والمطابقة؟ وكيف يتمشى التطلع والاستقرار؟
إلا إننا نبادر فنقول إن أناساً يتمردون ولا يجيئون بخير مما هو منظور من الأدباء الموافقين المستسلمين، لأن التمرد المصطنع إن هو إلا موافقة مستورة ومجاراة معكوسة، فيه كل ما يؤخذ على التقليد من نقص وكل مما ينعى عليه من وخامة، وذلك ما نعود إلى تفصيله في مقال تال
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 211
بتاريخ: 19 - 07 - 1937