أنا شخصيا، أنتظر الخُطَبَ الملكيةَ بفارغ الصبر وكثير من الاطمئنان. لماذا؟
لأن الخُطبَ الملكيةَ تأتي دائما بالجديد وتزرع الأملَ في النفوس وتجعلها تنعم بقدرٍ ولو ضئيل من التَّفاؤل. وما تحمله هذه الخُطبُ من أمل وتفاؤل نابعٌ من حبِّ ملِك البلاد للوطن وللمواطنين. خطبٌ مختلفةٌ اختلافا جذريا، شكلا ومضمونا، من تلك التي تعوَّدنا على سماعِِها في البرلمان أو من طرف الأحزاب السياسية أو من وزراء السلطة التَّنفيذية.
كل خطاب يتميَّز بحمولة من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية التي لا يمكن فصلُها عن حب الوطن وعن العمل من أجل تطوُّره وازدهارِه. كل خطاب عبارة عن خارطة طريق واضحةَ المعالم لمَن أراد أن يتبناها خدمةً للوطن وللصالح العام. كل خطابٍ يرسم الطريقَ لمَن أراد أن يُخلِصَ في عملة ويتحمَّلَ مسئوليتَِه.
والخُطب التي يوجِّهها ملِكُ البلاد إلى الشعب المغربي كثيرة وتأتي في مناسبات وطنية كعيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب وافتتاح البرلمان… كل هذه الخطب تزف إلى الشعب أخبارا سارة عن فتح أوراش تنموية ضخمة كالتغطية الاجتماعية والصحية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتدبير الماء والطاقات المتجدِّدة… أو تُعلن انطلاقَ بنيات تحتية ضخمة كميناء المتوسط ومينائَي الناظور والداخلة والقطار السريع…
بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرشَ أسلافه المنعَّمين، تمحورَ خطابُ عيد العرش حول "الجِدِّية" le sérieux وما أدراك ما الجِدِّية.
في نظري، هذا الخطابُ يمكن اعتبارُه بمثابة رسالة موجَّهة، بصفة غير مباشِرة للأحزاب السياسية وللسياسيين والمٌنتَخَبين البرلمانيين والمحليين، وبصفة عامة، لجميع المواطنين. وكلُّنا نعلم أن أحزابَنا السياسيةَ تتَّصف بكل شيءٍ إلا بالجدٍِية كما يفرضها الواقعُ ومصلحةُ البلاد.. وجلالة الملك كان قد وجَّه أحدَ خُطبه لهذه الأحزاب السياسية مٌنتقِدا طٌرُقَ عملِها وانحرافَها عن مبادئها وأهدافها في تجاوزٍ صارخٍ للدستور.
ولا داعيَ للقول أن الجِدِّيةَ أصبحت عملةً نادرةً ليس فقط عند الأحزاب السياسية ولكن كذلك عند شريحة عريضة من المواطنين، وخصوصا أولئك الذين طبَّعوا مع الفساد وجعلوا منه مُحرِّكا أسياسيا لحياتهم اليومية. السؤال الذي يطرح نفسَه في هذا الصّدد هو : "كيف للمغرب أن ينموَ وأن يخطوَ خطواتٍ إلى الأمام والجِدِّيةُ مغيَّبةٌ في مشهده السياسي وعند فئة عريضة من المُنتخَبين والمواطنين"؟
الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية : لا يزال في هذا البلد ناسٌ، وعلى رأسِهم ملِك البلاد، يؤمنون إيماناً راسخاً ب"الجِدِّية" كقيمة اجتماعية ترتبط بها تمنيةُ البلاد وتقدُّمها وازدهارُها. الجديةُ هي أساس نجاح البلاد على جميع الأصعِدة. الجدِّيةُ هي أن يقومَ كل أحد منا بالمسئولية المُلقاة على عاتقِه بأحسن وجه. الجدية هي الإخلاص والولاء للوطن والشفافية والصدق والمثابرة والوفاء والمواطنة ونكران الذات والإيثار والنزاهة واحترام الغير والقانون… وكل الصفات والخِصال التي من الواجب أن يتحلَّى بها كل مَن يريد الخيرَ لهذه البلاد.
الجدِّية هي التي جعلت من البلدان الإسكندنافية واليابان وكوريا الجنوبية وكندا والبلدان الغربية وسنغفورة وماليزيا… بلدانا متقدِّمة، مُحترمة ولها مكانةٌ عالية بين الأمم. فهل مغربُنا مختلف بشريا عن هذه البلدان؟ لا، أبدا! البشر هنا وهناك لهم نفس التركيبة البيولوجية ونفس القدرات العقلية. فأين يوجد الاختلاف؟
يوجد الاختلاف في السلوك! عندهم، كل خطوة في الحياة اليومية ترافقها جرعةٌ عالية من الجدِّية. عندنا (لا أُعمِّم)، كثيرة هي جوانب الحياة اليومية التي تغيب أو تُغيَّبُ عنها الجدِّية. ولعلَّ أكثر المُغيِّبين للجدِّية هم الحِرفيون من نجار وكهربائي ورصاص وبَنَّاء… أما في مجال السياسة، فحدِّث ولا حرج!
الأحزاب السياسية بارعة في غياب أو تغيب الجدِّية. البرلمان، جزءٌ كبيرٌ من نقاشاته لَغَطٌ ولغوٌ بدون جدوى. الحكومة تُذِر الرمادَ على العيون بعد كل مجالسها الحكومية، الجماعات الترابية ضربت وتضرب منذ زمان الرقم القياسي في عدم وجود الجدِّية. بل إنها تحاربُها وتتخاصم معها!
وكل الفوضى التي نشاهدها صبحَ مساء في الأماكن العمومية، في الشوارع، في الطرقات، في المرافق العمومية… هي، في الحقيقة، ناتجةٌ عن غياب الجدية. قد لا أبالغ إذا قلتُ "نحن شعبٌ خيَّمت أو طغت على سلوكه، إلا مَن رحم ربي، عدم الجدِّية.
ولهذا، فتمركُزُ خطاب صاحب الجلالة حول "الجدِّية" جاء في محلِّه. أتمنى أن يُشكِّلَ هذا الخطابُ حافزا قويا للأحزاب السياسية وللسياسيين وللمُنتَخَبين وللمُطبِّعين مع الفساد للتَّخلِّي عن الفوضى وعن اللامبالاة وعن العشوائية وعن عدم تقدير العمل وتبخيسه وتسييره حسب الأهواء واللامسئولية وكل ما من شأنه أن يُسيءَ للبلاد ولمصلحتِها العليا…
الجِدِّية هي ما هو متعارف عليه بالدارجة ب"المعقول". بدون "معقول"، لا شيءَ يستقيم في الحياة. ألم يقل الأولون : "ما يْدومْ غِيرْ المعقول".
لأن الخُطبَ الملكيةَ تأتي دائما بالجديد وتزرع الأملَ في النفوس وتجعلها تنعم بقدرٍ ولو ضئيل من التَّفاؤل. وما تحمله هذه الخُطبُ من أمل وتفاؤل نابعٌ من حبِّ ملِك البلاد للوطن وللمواطنين. خطبٌ مختلفةٌ اختلافا جذريا، شكلا ومضمونا، من تلك التي تعوَّدنا على سماعِِها في البرلمان أو من طرف الأحزاب السياسية أو من وزراء السلطة التَّنفيذية.
كل خطاب يتميَّز بحمولة من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية التي لا يمكن فصلُها عن حب الوطن وعن العمل من أجل تطوُّره وازدهارِه. كل خطاب عبارة عن خارطة طريق واضحةَ المعالم لمَن أراد أن يتبناها خدمةً للوطن وللصالح العام. كل خطابٍ يرسم الطريقَ لمَن أراد أن يُخلِصَ في عملة ويتحمَّلَ مسئوليتَِه.
والخُطب التي يوجِّهها ملِكُ البلاد إلى الشعب المغربي كثيرة وتأتي في مناسبات وطنية كعيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب وافتتاح البرلمان… كل هذه الخطب تزف إلى الشعب أخبارا سارة عن فتح أوراش تنموية ضخمة كالتغطية الاجتماعية والصحية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتدبير الماء والطاقات المتجدِّدة… أو تُعلن انطلاقَ بنيات تحتية ضخمة كميناء المتوسط ومينائَي الناظور والداخلة والقطار السريع…
بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرشَ أسلافه المنعَّمين، تمحورَ خطابُ عيد العرش حول "الجِدِّية" le sérieux وما أدراك ما الجِدِّية.
في نظري، هذا الخطابُ يمكن اعتبارُه بمثابة رسالة موجَّهة، بصفة غير مباشِرة للأحزاب السياسية وللسياسيين والمٌنتَخَبين البرلمانيين والمحليين، وبصفة عامة، لجميع المواطنين. وكلُّنا نعلم أن أحزابَنا السياسيةَ تتَّصف بكل شيءٍ إلا بالجدٍِية كما يفرضها الواقعُ ومصلحةُ البلاد.. وجلالة الملك كان قد وجَّه أحدَ خُطبه لهذه الأحزاب السياسية مٌنتقِدا طٌرُقَ عملِها وانحرافَها عن مبادئها وأهدافها في تجاوزٍ صارخٍ للدستور.
ولا داعيَ للقول أن الجِدِّيةَ أصبحت عملةً نادرةً ليس فقط عند الأحزاب السياسية ولكن كذلك عند شريحة عريضة من المواطنين، وخصوصا أولئك الذين طبَّعوا مع الفساد وجعلوا منه مُحرِّكا أسياسيا لحياتهم اليومية. السؤال الذي يطرح نفسَه في هذا الصّدد هو : "كيف للمغرب أن ينموَ وأن يخطوَ خطواتٍ إلى الأمام والجِدِّيةُ مغيَّبةٌ في مشهده السياسي وعند فئة عريضة من المُنتخَبين والمواطنين"؟
الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية : لا يزال في هذا البلد ناسٌ، وعلى رأسِهم ملِك البلاد، يؤمنون إيماناً راسخاً ب"الجِدِّية" كقيمة اجتماعية ترتبط بها تمنيةُ البلاد وتقدُّمها وازدهارُها. الجديةُ هي أساس نجاح البلاد على جميع الأصعِدة. الجدِّيةُ هي أن يقومَ كل أحد منا بالمسئولية المُلقاة على عاتقِه بأحسن وجه. الجدية هي الإخلاص والولاء للوطن والشفافية والصدق والمثابرة والوفاء والمواطنة ونكران الذات والإيثار والنزاهة واحترام الغير والقانون… وكل الصفات والخِصال التي من الواجب أن يتحلَّى بها كل مَن يريد الخيرَ لهذه البلاد.
الجدِّية هي التي جعلت من البلدان الإسكندنافية واليابان وكوريا الجنوبية وكندا والبلدان الغربية وسنغفورة وماليزيا… بلدانا متقدِّمة، مُحترمة ولها مكانةٌ عالية بين الأمم. فهل مغربُنا مختلف بشريا عن هذه البلدان؟ لا، أبدا! البشر هنا وهناك لهم نفس التركيبة البيولوجية ونفس القدرات العقلية. فأين يوجد الاختلاف؟
يوجد الاختلاف في السلوك! عندهم، كل خطوة في الحياة اليومية ترافقها جرعةٌ عالية من الجدِّية. عندنا (لا أُعمِّم)، كثيرة هي جوانب الحياة اليومية التي تغيب أو تُغيَّبُ عنها الجدِّية. ولعلَّ أكثر المُغيِّبين للجدِّية هم الحِرفيون من نجار وكهربائي ورصاص وبَنَّاء… أما في مجال السياسة، فحدِّث ولا حرج!
الأحزاب السياسية بارعة في غياب أو تغيب الجدِّية. البرلمان، جزءٌ كبيرٌ من نقاشاته لَغَطٌ ولغوٌ بدون جدوى. الحكومة تُذِر الرمادَ على العيون بعد كل مجالسها الحكومية، الجماعات الترابية ضربت وتضرب منذ زمان الرقم القياسي في عدم وجود الجدِّية. بل إنها تحاربُها وتتخاصم معها!
وكل الفوضى التي نشاهدها صبحَ مساء في الأماكن العمومية، في الشوارع، في الطرقات، في المرافق العمومية… هي، في الحقيقة، ناتجةٌ عن غياب الجدية. قد لا أبالغ إذا قلتُ "نحن شعبٌ خيَّمت أو طغت على سلوكه، إلا مَن رحم ربي، عدم الجدِّية.
ولهذا، فتمركُزُ خطاب صاحب الجلالة حول "الجدِّية" جاء في محلِّه. أتمنى أن يُشكِّلَ هذا الخطابُ حافزا قويا للأحزاب السياسية وللسياسيين وللمُنتَخَبين وللمُطبِّعين مع الفساد للتَّخلِّي عن الفوضى وعن اللامبالاة وعن العشوائية وعن عدم تقدير العمل وتبخيسه وتسييره حسب الأهواء واللامسئولية وكل ما من شأنه أن يُسيءَ للبلاد ولمصلحتِها العليا…
الجِدِّية هي ما هو متعارف عليه بالدارجة ب"المعقول". بدون "معقول"، لا شيءَ يستقيم في الحياة. ألم يقل الأولون : "ما يْدومْ غِيرْ المعقول".