د. أحمد الحطاب - هل فعلا نولي لآيات القرآن الكريم ما يكفي من التَّدبُّر والتَّمعُّن؟

شيءٌ جميل أن يحفظَ الناسُ القرآنَ الكريمَ عن ظهر قلب واستظهاره وتلاوته. لكن الحِفظَ بدون تدبُّر آياتِه والتَّمعُّن فيها شيء غير كافي. لماذا؟ لأن القرآن الكريم، أولا وقبل كل شيء، أنزله اللهُ سبحانه وتعالى على نبيِّه ورسوله محمد (ص) لهداية الناس إلى الطريق المستقيم. والطريق المستقيم فيه ما هو عبادة وفيه ما هو معاملات. وهذا يستدعي تدبُّرَ آيات القرآن للعمل بما تنص عليه عبادةً ومعاملاتٍ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29) أو مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر، 18).

وهنا، يجب أن لا يُفهمَ من كلامي أنني ضد مَن يحفظ القرآن الكريمَ دون تدبُّر آياته. لا أبدا! لأن مَن يحفظ القرآنَ يساهم في نشره وتداوله بين الناس. وكيفما كان الحالُ، فمَن يحفظ القرآنَ لنشره بين الناس خيرٌ مِن مَن يحفظه للمتاجرة به عن طريق الرقيا المزيفة أو عن طريق تلاوته على القبور أو عن طريق استعماله لتخدير عقول الناس ومنعها من التفكير.

وعليه، فقارئ القرآن الكريم وحافِظُه، كي ينتفعَ به وينفعَ به الناسَ، فأول ما هو مُطالبٌ به، هو فَهم آياتِه وإدراك معانيها. وفَهم آيات القرآن الكريم هو بمثابة تعبيد الطريق نحو تَدبُّر هذه الآيات.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، من المفيد توضيح مفهومي "تدبُّر" و"تمعُّن". هذان المفهومان كل واحد منهما مرادف للآخر ولهما نفس المعنى. فعندما نقول :"فلانٌ تمعَّن أو يتمعَّن في أمرٍ ما"، فهذا معناه أنه تفكَّرَ فيه ملياً وتأمَّلَ فيه بعُمق وتركيز. وعندما نقول "فلانٌ تدبَّرَ أمرا ما أو تدبَّرَ في الأمر"، فالمقصود كذلك هو التأمُّل في هذا الأمر للإحاطة بجميع جوانبه. في كلتي الحالتين، يتلخَّص الأمرُ في إعمال العقل للوقوف على الحقائق التي يقبلها هذا العقل. للوقوف على الحقائق وكذلك لتجنُّب الذاتية subjectivité وكل ما يميل إلى الأهواء caprices والجهل ignorance والكِبر arrogance والتَّعصُّب intolérance والخرافة mythe والشعودة charlatanisme…

وحتى أبيِّن أن قارئَ القرآن الكريم، من الأفضل أن يوليَ ما يكفي من التَّدبُّر والتَّمعُّن لهذا القرآن، سأكتفي بالاستشهاد بآية واحدة يقول فيها سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ…" (البقرة، 29).

فيما يلي، سآخذ هذه الآيةَ بالتَّحليل العقلاني وحسب ما يفرضُه المنطِق. وهنا، أريد أن أُنبِّه القارئَ أن ما سأتقدَّم به من تحليل عبارة عن مجهود شخصي أتحمَّل مسئوليةَ ما قد يترتَّب عنه من ردود فعل. ثم أظن أنه من حق كل باحثٍ أن يفهمَ آيات القرآن الكريم حسب قناعاته العقلية، الفكرية والثقافية، وبالأخص، حسب ما تُمليه عليه ظروف الوسط الذي يعيش فيه، ما دام القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان.

قد يقول قائلٌ إن تفسيرَ آيات القرآن الكريم له مدارسُه ورُوَّادُه وفقهاءه وعلماءه. نعم وبكل تأكيد، وهذا شيءٌ مفروغٌ منه. وليعلَمَ الجميع أنني، قبل أن أنشرَ أيَّةَ مقالة حول القرآن الكريم، أول شيءٍ أقوم به، هو الاطِّلاع على ما تقوله هذه المدارس التي يتزعَّمها مثلا ابن كثير والقرطبي والطبري والبغوي والسعدي والطنطاوي… غير أن ما يجب الانتباهَ إليه هو أن ما يقوله هؤلاء المفسِّرون هو تفسيرٌ نسبي مادام صادرا عن بشر تتحكَّم في حياتهم ظروف الزمان والمكان. فهل يستطيع البشرُ أن يعيشوا خارجَ الزمان والمكان؟ لا، أبدا! والدليل على ذلك أن التَّفاسير التي تقدمها هذه المدارس قد تتأثَّر بظروف الزمان والمكان، بالتالي، قد تختلف من مدرسة إلى أخرى.

كما يجب أن لا يغيبَ عن الأذهان أن ما يتم تفسيرُه هو كلام الله. وكلام الله كلامٌ مطلقٌ، أي كلام مستقل عن الزمان والمكان. والعقل البشري ليس له القدرة على اختراق ما هو مطلق، وبالتالي، تفسير كلام الله، لا يمكن أن يكونَ إلا نسبيا. والتفسير النسبي، إذا كان صالِحا لمكان وزمان معيَّنين، قد لا يكون صالحا جزئيا أو كليا لمكان وزمان مختلفين.

نص الآية : "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ…" (البقرة، 29).

"هُوَ الَّذِي"، أي اللهُ سبحانه وتعالى، "خَلَقَ لَكُم"، أي أوجدَ لكم. وما يُثير الانتباهَ، في هذه الآية، هي كلمة "لكم". فمَن المُخاطَبُ؟

المخاطب هنا هم الناسَ جميعا أو بني آدم أو البَشَر أو الإنسان. فحينما يقول سبحانه وتعالى "خَلَقَ لَكُم"، فالمقصود هو "خَلَقَ" للبشرية جمعاء. لماذا ألِحُّ على هذا الأمر؟

لأن كثيرا من الناس المسلمين يعتقدون اعتقادا راسخا أن القرآن الكريمَ موجُّه حصريا للمسلمين وللمسلمين فقط. وهذا خطأٌ لأن القرآن الكريم كان ولا يزال دعوةً للدخول في الدين الذي أنزله اللهُ على رسوله محمد (ص). وما دام هذا القرآنُ دعوةً للناس للدخول في دين الله، فهو موجَّه للبشرية جمعاء، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبإ، 28).

في هذه الآية، كلام الله موجَّه لرسوله ونبيه محمد (ص) قائلا له أنتَ مُرسلُ للناس جميعا، أي للبشرية جمعاء. ثم إن اللهَ سبحانه وتعالى لم يقُل "خلقَ لكم أيها اليهود أو النصارى أو المسلمون. بل قال "لكم" لتشملَ جميع الناس. بل لا يُعقَلُ أن يُسخِّرَ اللهُ الخيرات لفئاتٍ من عباده دون فئاتٍ أخرى وهو الذي قال : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا… (هود، 6). في هذه الآية، الدابة لا تقتصر فقط على ما هو حيوان بل تشمل كذلك الإنسانَ.

"خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا"، أي أوجد لكم أو سخَّر لكم، أي للبشر جميعا، كلَّ ما هو موجود في/على/فوق سطح الأرض. وفي هذا الحزء من الآية، حرفُ "ما" يعني كلَّ الأشياء المادية والمعنوية. وما هو مُسخَّرٌ للبشر هو سطح الأرض وما فوقه من جو وبحر. في سطح الأرض، يوجَد كل ما هو في حاجة إليه الإنسانُ من معادن minerais وصخور roches وفِلِّزات métaux وماء وحيوانات ونباتات… والحياة ممكنة فقط على وفوق سطح الأرض برا وماءً وجوّاً وكذلك في جزءٍ رقيق من هذا السطح الذي هو التربة.

"ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ". ما فهِمتُه أنا شخصيا من عبارة "ثُمَّ اسْتَوَىٰ"، هو أن اللهَ سبحانه وتعالى، بعد الانتهاء من خلقِ ما في الأرض، انشغل بالسماء، فجعل منها سبع سموات. غير أن اللهَ سبحانه وتعالى لم يقل ما هي هذه السموات ولم يدخل في تفاصيلها. لكنَّه، سبحانه وتعالى، قال "فَسَوَّاهُنَّ"، أي فخلقهن بالحق والدقة والتَّدقيق والجكمة والعدل…، أي، في نهاية المطاف، بما يعود بالنفع على البشر وجميع المخلوقات مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا…" (ص، 27). وهذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى، عندما يخلق شيئا، فإنه يحدِّد له غايةً من الغايات.

ولهذا، فإن كل متمعِّنٍ وكلَّ متدبِّرٍ في آيات القرآن الكريم، من المفروض، أن يطرحَ على نفسِه العديدَ من الأسئلة قد تكون مدخلا لإجراء أبحاث علمية تقود إلى فهم الكون وإدراك كيفية اشتغاله.

فبالنسبة للآية التي هي موضوع هذه المقالة، أي:"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ…" (البقرة، 29)، الأسئلة التي يمكن طرحُها هي كالتالي :

1.ما الذي خلقَ اللهُ سبحانه وتعالى أوَّلا، هل الأرض أم السماء؟
2.لماذا قال اللهُ سبحانه وتعالى سبعَ سماوات وليس أكثرَ أو أقلَّ من ذلك؟

وبالنسبة للآية رقم 27 من سورة ص، أي : "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا…"، فالأسئلة التي يمكن طرحُها هي كالتالي:

1.إذا كان خلقُ السماء والأرض ليس باطلا، فهذا يعني أن خلقَهما له غايةٌ أو غايات. فما هي هذه الغاية أو الغايات؟
2.لماذا اللهُ سبحانه وتعالى، في بعض الآيات، يُشِير للسماء في صيغة المفرد، بينما في آيات أخرى، يّشير إلى السماوات في صيغة الجمع؟

فإذا استطاع العلمُ الحديثُ أن يُعطيَ أجوبةً عن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة التي، من المفروض، أن يطرحَها المُتمعِّنُ والمتدبِّر في آيات القرآن الكريم، وقد استطاع فعلا العلمُ الحديثُ أن يأتيَ بأجوبة للبعض من هذه الأسئلة، فإن هذا العلمَ الحديثَ يصِيغ نظرياتٍ تفسِّر، مرحليا أو مؤقَّتا، ما تطرحه هذه الأسئلة في انتظار تفسير جديد آخر يُسايِر معطيات الزمان والمكان وهكذا إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن/ما عليها.

وما أختم به هذه المقالة هو : إذا كان القرآن الكريم ليس كتابَ علوم، بالمفهوم الدنيوي، فإن التَّدبُّرَ والتَّمعُّنَ في آياتِه يطرحان عدَّةَ أسئلة قد تكون منطلقا للعديد من الأبحاث العلمية التي، بكل أسف وحسرة، يقوم بها غير المسلمين!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى