تنبرج الكلمات على سطح الذّهن، وأستفيق فأجد نفسي ميّتا، أو ميْتًا. لستُ أدري حقيقة الأمر ولكنّني واصلت العيش وكأنّني كذلك. لا أثر لعزاء أو فقدان، ولا أثر لأنّني فعلا ميْتٌ. ولكنّني مازلتُ لم أعِ بعدُ ما يحدث. أنا فقط نظرتُ فوجدت أنّني كذلك، ولم تستطع هذه الفكرة أن تفارقني. كأنّ أرضا ما أطبقتْ عليّ غرْسَهَا وسقتني من رطوبة الأجنّة المفقودة في أنسجة الأفضية المتناثرة بين أقبية القيامة. أنظر حولي فأسمع وأشمّ وأحسّ بندى الأيّام يلتصقُ بجسدي. ربّما أنا فقط بصدد الموت، ولست أحتضر. يقف النّعش بعيدا فلا أراه ولا أستطيع أن أرتديه. ويقف الكفن قريبا ولكنّني لا أستطيع أن ألمسه، وذاك لعمري دليل آخر على وجودي في حيّز الموت لا في إطار الأحياء. لم أجد تفسيرا آخر سوى أنّني سوف أواصل العيش باعتبار أنّني غير موجود.
قد يبدو الأمر لوهلة أولى خيالا، أو تخيّلا، أو خيالا علميّا، أو شعورَ شخص فَقَدَ الرّغبة في الحياة أو أنّه لا يشعر أنّه بخير. ولكنّ الأمر فعلا ليسَ كذلك، إنّ الملموس هو المرئيّ باعتبار اللّامرئيّ يعانق نقيضه. فنحن لا ندري حقيقة الموت فما الّذي يجعل من قولي إنّني ميْت خاطئا؟ لا أتفقّد شيئا ليقيني بحالتي وبوضعيّتي. ولا أقتات على شيء، فأنا على كلّ حال في السّماء الآن، ولكن يبدو أنّها أرضيّة هي الأخرى، أي أنّنا نجانب الموت ولكنّنا لا نراه. ما أثار استغرابي هو أنّني لا أرى بقيّة الموتى في حين أنّه بإمكاني سماع الأحياء ينادون بعضهم البعض، كما بإمكاني سماعهم يتشاجرون حول إحدى الأكل الّتي اعتدت أكلها معهم هناك. كيف يمكنني أن أخبر الأحياء أنّ الأموات يقبعون هنا مباشرة حذوهم، يعيشون طبيعة الحياة نفسها ولكن دون أن يمارسوا الأشياء نفسها. وجدت نفسي ميْتا في فراشي عندما فتحت عينيّ، أي أنّه يمكنني أن أنام مجدّدا هنا وربّما يمكنني أن أنام مجدّدا لأجد نفسي حيّا. ولكنّني لا أستطيع النّوم، فإن نمت سأجد نفسي ميْتا مرّة أخرى، فسيكون الأمر أيسر إن بقيت مستيقظا أنظر حولي للأشياء الّتي حفظت مكانها دون أن أراها. تجنّبت الخروج من غرفتي، فإن قمت بذلك سوف يعرف الجميع أنّني ميْتٌ وحينها قد يكون لي مأتم. المأتم في حقيقة الأمر احتفال معكوس بفقدان القدرة على مسك الأشياء: الولادة تعني قدرة الطّفل الصّغير على مسك يد والديه على سبيل المثال، أمّا البكاء فهو تعرّف على الملمس لا على الهواء. أمّا الموت هنا فيعني انعدام القدرة على المسك، أو ربّما هو انفلات الملمس من الجسد. فيوجد خيط رفيع، أنا الآن أراه، بين الوجودين المقلوبين، متى مسكه شخص ما اقترب من الموت وترك الحياة تلهو به لفقدان القدرة على التّوازن بين البحرين. وحينها فقط يصبح المأتم والعزاء احتفالا، احتفالا بالتّرك وممارسة تلك القدرة. وفي الحقيقة فإنّ هذه القدرة هي قدرة بشريّة عجيبة، فيمارس البشر احتفالا بالخروج من مكان، بطريقة ما يتمّ تقنين الحزن أو الفرح. فقد أترك أمرا ما كي أستطيع أن أمارس الفرح، وقد أترك أمرا ما حزنا ولكن رغبة في تحقيق الفرح والرّاحة. هو الموت كذلك، ترك للقدرة على الحبّ في سبيل القدرة على انعدام القدرة. قد يكون الأمر بالنّسبة إلى الحيّ محزنا، فكيف يمتلك أحدهم القدرة على ألّا يقدر. بالنّسبة لي الآن فيمكنني تفسير الأمر، ولكنّ صعوبة ذلك تكمن في عدم القدرة على إيصال ذلك للأحياء: فألّا تمتلك القدرة على عدمها يعني أنّك ميْتٌ. وكيف يمكنني تفسير ذلك أيضا؟ أن تكون ميْتا هو أن تكون لامرئيّا وغير قادر على التّدخّل فيما تراه، فأنت ترى في نهاية المطاف ولكن هذا كلّ ما في الأمر، دون أن تمتلك القدرة على التّفاعل مع المرئيّ. يكمن الإشكال في الموت أنّك لا تشعر بشيء تجاه هذا الأمر، أي أنّك لا تشعر بالعجز لعدم القدرة. ففي الحياة لا يتعلّق انعدام القدرة بك حصرا، أمّا في الموت فأنت هو انعدام القدرة. في الموت كما في الحياة تكون عاجزا، ولكنّ هذا العجز دائم، أي أنّه عجز لا يتخلّله أمل ولو ضئيل. أنت هنا ميْتٌ تعرف أنّه ليس بمقدورك بعد الآن أن تحرّك شيئا. ولهذا فإنّني لم أحاول أن أغيّر أماكن الأوراق الأخيرة الّتي كنت أخطّها، أو الأغنية الأخيرة الّتي كنت أستمع إليها، أو الكتاب الأخير الّذي كنت بصدد قراءته. وتلك زخرفة أخرى للموت لا تعنيني باعتبار أنّني ميْتٌ، ولكنّها على كلّ حال تعني الأحياء حتّى يكون بمقدورهم خلق أسطورة حول الموت وتحديد الفضاء الّذي سوف يذهب إليه الميْت، أي أنّ من يحكم على الميْت هو الحيّ. أمّا أنا فهنا الآن، ولا أملك قدرة سوى الرّؤية. ولا أدري إن كانت هذه القدرة نعمة أم نقمة، أي ربّما يكون العذاب عن طريق هذه الحاسّة فقط: أن ترى فأنت في جحيم أمّا أن لا ترى فأنت في نعيم. تبقى وإن كنت ميْتا عاجزا عن تحديد هذه الثّنائيّة، فأنت تتمتّع بانعدام القدرة على القدرة.
كلّ ما أتذكّره هو أنّني شعرت بالتّعب وبخدر بسيط يصيبني، ولم أجتهد حتّى أصيب حصّتي من النّوم الخفيف، لا أتذكّر الآن ما كنت أشاهده ولست أدري حقيقة ما أراه الآن باعتبار أنّني لا أدري إن كنت قد غيّرت شيئا أثناء النّوم، فأنا على كلّ حال لا أستطيع أن أجزم بأمر ما ما دمتُ ميْتا. كلّ ما أتذكّره هو أنّني كنت مستيقظا أمّا ما بعدَ ذلك فيشبه مروري بكهف مظلم، وعندما استيقظت لم أعرف كيفيّة تحديد حقيقتي، ولكنّ كلّ ما أعرفه هو أنّني شعرت بالموت.
قد يبدو الأمر لوهلة أولى خيالا، أو تخيّلا، أو خيالا علميّا، أو شعورَ شخص فَقَدَ الرّغبة في الحياة أو أنّه لا يشعر أنّه بخير. ولكنّ الأمر فعلا ليسَ كذلك، إنّ الملموس هو المرئيّ باعتبار اللّامرئيّ يعانق نقيضه. فنحن لا ندري حقيقة الموت فما الّذي يجعل من قولي إنّني ميْت خاطئا؟ لا أتفقّد شيئا ليقيني بحالتي وبوضعيّتي. ولا أقتات على شيء، فأنا على كلّ حال في السّماء الآن، ولكن يبدو أنّها أرضيّة هي الأخرى، أي أنّنا نجانب الموت ولكنّنا لا نراه. ما أثار استغرابي هو أنّني لا أرى بقيّة الموتى في حين أنّه بإمكاني سماع الأحياء ينادون بعضهم البعض، كما بإمكاني سماعهم يتشاجرون حول إحدى الأكل الّتي اعتدت أكلها معهم هناك. كيف يمكنني أن أخبر الأحياء أنّ الأموات يقبعون هنا مباشرة حذوهم، يعيشون طبيعة الحياة نفسها ولكن دون أن يمارسوا الأشياء نفسها. وجدت نفسي ميْتا في فراشي عندما فتحت عينيّ، أي أنّه يمكنني أن أنام مجدّدا هنا وربّما يمكنني أن أنام مجدّدا لأجد نفسي حيّا. ولكنّني لا أستطيع النّوم، فإن نمت سأجد نفسي ميْتا مرّة أخرى، فسيكون الأمر أيسر إن بقيت مستيقظا أنظر حولي للأشياء الّتي حفظت مكانها دون أن أراها. تجنّبت الخروج من غرفتي، فإن قمت بذلك سوف يعرف الجميع أنّني ميْتٌ وحينها قد يكون لي مأتم. المأتم في حقيقة الأمر احتفال معكوس بفقدان القدرة على مسك الأشياء: الولادة تعني قدرة الطّفل الصّغير على مسك يد والديه على سبيل المثال، أمّا البكاء فهو تعرّف على الملمس لا على الهواء. أمّا الموت هنا فيعني انعدام القدرة على المسك، أو ربّما هو انفلات الملمس من الجسد. فيوجد خيط رفيع، أنا الآن أراه، بين الوجودين المقلوبين، متى مسكه شخص ما اقترب من الموت وترك الحياة تلهو به لفقدان القدرة على التّوازن بين البحرين. وحينها فقط يصبح المأتم والعزاء احتفالا، احتفالا بالتّرك وممارسة تلك القدرة. وفي الحقيقة فإنّ هذه القدرة هي قدرة بشريّة عجيبة، فيمارس البشر احتفالا بالخروج من مكان، بطريقة ما يتمّ تقنين الحزن أو الفرح. فقد أترك أمرا ما كي أستطيع أن أمارس الفرح، وقد أترك أمرا ما حزنا ولكن رغبة في تحقيق الفرح والرّاحة. هو الموت كذلك، ترك للقدرة على الحبّ في سبيل القدرة على انعدام القدرة. قد يكون الأمر بالنّسبة إلى الحيّ محزنا، فكيف يمتلك أحدهم القدرة على ألّا يقدر. بالنّسبة لي الآن فيمكنني تفسير الأمر، ولكنّ صعوبة ذلك تكمن في عدم القدرة على إيصال ذلك للأحياء: فألّا تمتلك القدرة على عدمها يعني أنّك ميْتٌ. وكيف يمكنني تفسير ذلك أيضا؟ أن تكون ميْتا هو أن تكون لامرئيّا وغير قادر على التّدخّل فيما تراه، فأنت ترى في نهاية المطاف ولكن هذا كلّ ما في الأمر، دون أن تمتلك القدرة على التّفاعل مع المرئيّ. يكمن الإشكال في الموت أنّك لا تشعر بشيء تجاه هذا الأمر، أي أنّك لا تشعر بالعجز لعدم القدرة. ففي الحياة لا يتعلّق انعدام القدرة بك حصرا، أمّا في الموت فأنت هو انعدام القدرة. في الموت كما في الحياة تكون عاجزا، ولكنّ هذا العجز دائم، أي أنّه عجز لا يتخلّله أمل ولو ضئيل. أنت هنا ميْتٌ تعرف أنّه ليس بمقدورك بعد الآن أن تحرّك شيئا. ولهذا فإنّني لم أحاول أن أغيّر أماكن الأوراق الأخيرة الّتي كنت أخطّها، أو الأغنية الأخيرة الّتي كنت أستمع إليها، أو الكتاب الأخير الّذي كنت بصدد قراءته. وتلك زخرفة أخرى للموت لا تعنيني باعتبار أنّني ميْتٌ، ولكنّها على كلّ حال تعني الأحياء حتّى يكون بمقدورهم خلق أسطورة حول الموت وتحديد الفضاء الّذي سوف يذهب إليه الميْت، أي أنّ من يحكم على الميْت هو الحيّ. أمّا أنا فهنا الآن، ولا أملك قدرة سوى الرّؤية. ولا أدري إن كانت هذه القدرة نعمة أم نقمة، أي ربّما يكون العذاب عن طريق هذه الحاسّة فقط: أن ترى فأنت في جحيم أمّا أن لا ترى فأنت في نعيم. تبقى وإن كنت ميْتا عاجزا عن تحديد هذه الثّنائيّة، فأنت تتمتّع بانعدام القدرة على القدرة.
كلّ ما أتذكّره هو أنّني شعرت بالتّعب وبخدر بسيط يصيبني، ولم أجتهد حتّى أصيب حصّتي من النّوم الخفيف، لا أتذكّر الآن ما كنت أشاهده ولست أدري حقيقة ما أراه الآن باعتبار أنّني لا أدري إن كنت قد غيّرت شيئا أثناء النّوم، فأنا على كلّ حال لا أستطيع أن أجزم بأمر ما ما دمتُ ميْتا. كلّ ما أتذكّره هو أنّني كنت مستيقظا أمّا ما بعدَ ذلك فيشبه مروري بكهف مظلم، وعندما استيقظت لم أعرف كيفيّة تحديد حقيقتي، ولكنّ كلّ ما أعرفه هو أنّني شعرت بالموت.