هل حقا وفعلا كان هناك خلافا بين الأستاذ الدكتور طه حسين وبين تلميذه البكر الدكتور محمد مندور؟
نعم كان هناك خلافا لكن مثل هذا الخلاف لم يكن ابدا خلافا على التوجهات العامة للحركة الفكرية والثقافية، بل خلافا عن شيء أخر متعلق بالاختيارات الشخصية للتلميذ، خلافا حول كيف يرى التلميذ نفسه ودورة وكيف يطمح لتطوير قدراته.
طه حسين والتطور الاجتماعي
فطه حسين يلتحق بالجامعة المصرية عند تأسيسها سنة 1908 ، في نفس الوقت الذي يستمر على المداومة على دروسه الأزهرية متململا من تخلف دراستها ، وهى نفسها اللحظة التاريخية التي كانت فيه الحركة الوطنية المصرية تتطور محاولة الخروج من أسر الارتباط الفكري بالدولة العثمانية بعد أن انتكست بهزيمة ثورة 1882 ، لحظة شهدت البدايات الأولى لتأسيس الرأسمالية المصرية الحديثة ، لحظة بدايات تأسيس التيارات الثقافية المصرية الحديثة على يد حزب كبار الملاك ، حزب الأمة ، وليس على أيدى الحزب الوطني المتمرد على الاحتلال الأجنبي والاعلى نفوذا بين الجماهير الشعبية ، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد .
ويكون الصدام الأول بين الجامعة والأزهر، بين التيارات الفكرية الحديثة والتيار التقليدي الرتيب، فالجامعة تمنحه شهادة الدكتوراه عن ذكرى أبى العلاء والأزهر يتهمه بالكفر والزندقة ويرفض منحه شهادة العالمية ولا يلقى التأييد إلا من جريدة السياسة التي يقف على رأسها أحمد لطفي السيد الملقب بأستاذ الأجيال.
وتكشف لحظة الصدام الثانية حول كتاب " في الشعر الجاهلي " في منتصف العشرينات مستوى نضج وتطور النهوض الرأسمالي وتبني القيم الاجتماعية والثقافية الحديثة، فالحزب الشعبي الأول، حزب الوفد، يقود الثورة ويصل الى السلطة بتأسيس ما اصطلح على تسميته بحكومة الشعب الأولى، يتخذ موقفا سلبيا من طه حسين وكتابه وهو نفس موقفها من كتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق.
ولا يبقى العميد إلا أياما معدودة عميدا لكلية الآداب عام 1928 ويضطر الى الاستقالة تحت ضغط الوفديين الذين لم يستطيعوا التفرقة بين الدور الأدبي والفكري الرائد للعميد وارتباطاته السياسية مع حزب الأحرار الدستوريين، خليفة حزب الأمة القديم، في نفس الوقت الذي كان العقاد الكاتب الأول لحزب الوفد.
ومنذ تلك اللحظة الفارقة تبدأ في التشكل ملامح مفارقة طه حسين للارتباط الفكري مع حزب الأحرار الدستوريين، ليس لأن طه حسين كان يتجنب الصدام مع التيارات الأكثر شعبية، فحياة طه حسين هي سلسلة متتابعة من الصدامات الفكرية، ولكن لأسباب أخرى متعلقة بتطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي جعلت هذه التيارات يزداد اقترابها منه وليس العكس، الأمر الذي ساهم في اقترابه منها.
وعندما عين عميدا لكلية الآداب عام 1930 أثناء حكومة الأحرار الدستوريين، حكومة القبضة الحديدية لمحمد محمود، يضطر الى الاستقالة ويحال الى التقاعد عام 1932 أثناء حكومة إسماعيل صدقي الاستبدادية احتجاجا للاستخدام السياسي للجامعة بمنح الجامعة للدكتوراه الفخرية للبعض ومن ضمنهم عبد العزيز فهمي أحد أقطاب حزب الأحرار الدستوريين.
ونزداد مفارقته للأحرار الدستوريين وصداماته معهم أثناء توليهم رئاسة الوزراء ويتزايد اقتراب الحركة الوطنية منة ويصدر كتابه مستقبل الثقافة في مصر مشكلا جانبا هاما من برنامج الحركة الوطنية المصرية ويعين عام 1942 عميدا لجامعة الإسكندرية وسط ترحيب عام من الحركة الوطنية، ويخرج كبار تلاميذه الى الحياة العامة دفاعا عن العدل والحرية والديمقراطية والعقل والحداثة والاستقلال الوطني.
ويتم التلاحم بينة وبين الحزب الشعبي الأول عندما تطلبه وزيرا للمعارف في حكومة الوفد سنة 1950 وسط اعتراض القصر بدعوى انه شيوعي ، ويا لها من تهمة مثيرة للسخرية برغم ديمومة استخدامها الى الآن على أيدى بصاصين أنظمة الحكم الرشيدة التي تداولت على بلادنا ، ولكنه يصر على ضرورة توسيع مجانية التعليم وسط معارضة بعض تيارات الوفد الأكثر يمينية وارتباطا بكبار ملاك الأرض ، وتنتهى المساومة بتوسيع مجانية التعليم إلى المستوى الثانوي مع وعد بإكماله إلى المستوى الجامعي ، ويضطر القصر على الموافقة ويمنحه رتبة الباشوية التي كان قد نالها شعبيا منذ زمان بعيد .
لقد رحب طه حسين بحركة يوليو 1952، وكان هو أول من اسماها ثورة في إدراك صحيح بأنها تشكل البداية الثانية الكبيرة للتطور الاجتماعي المصري، وبرغم ترحيبه بها وحسن العلاقة مع النظام الجديد ورئاسته لمجمع اللغة العربية، إلا أنه يتعرض للفصل من جديد من جريدة الجمهورية عام 1964 بدعوى الجمع بين وظيفتين، فصلا لم يكن قصرا علية، بل امتد ليشمل أبرز تلاميذه، محمد مندور، وآخرون، وهي علامة فارقة لنظام الحكم الوطني الدكتاتوري المعادي للديمقراطية.
محمد مندور وزمانه
ولكن الابن البكر المتمرد لطه حسين لم يكن أسعد حظا من أستاذة، فلاقى الأمرين وهو يشتبك مع الحياة العامة، وإذا كان طه حسين قد تعرض للمتاعب نتيجة لجهوده الفكرية والأدبية نتيجة لضعف التطور الاجتماعي واختلاط القيم ما بين الحركة الشعبية التي كانت تخرج من القديم والقيم الاجتماعية والثقافية الأكثر حداثة التي كان يتبناها تيار فكرى من أبناء كبار ملاك الأرض، لكن صاحبنا مندور أصبح على رأس تيار فكرى وثقافي وسياسي جديد.
فعندما يدخل الى الجامعة سنة 1925 محملا بالفخر بالاشتراك في ثورة 1919 طفلا صغيرا ويظل يتذكر مفتخرا، طوال عمرة، كيف مسح حذاءه الملطخ بتراب المدن الإقليمية في ظهر الحكمدار الإنجليزي الجالس يتابع فض المظاهرات، فيلتحق بالسنة الإعدادية المؤهلة للالتحاق بأي من كليتي الآداب والحقوق.
ويكتشف طه حسين موهبته ويستدعيه طالبا منه الالتحاق بالآداب، فيرفض الفلاح لأنه يريد الحقوق، بحثا عن النفوذ الاجتماعي، وينتهي النقاش بالسماح له بالالتحاق بالاثنين، لكن هذا الفلاح العنيد والمتمرد لا يكتفى بذلك، بل يلتحق بقسمين بالآداب، قسم العربي وقسم الاجتماع!
ويتخرج من الكليتين، الآداب وترتيبه الأول والحقوق من الأوائل، وتقرر الجامعة إرساله الى فرنسا لنيل درجة الدكتوراة من السوربون، لكن الخطة الدراسية يتم تحديدها بواسطة طه حسين وهي تتجاوز كثيرا متطلبات السوربون للسماح بدراسة الدكتوراة، خطة دراسية تشمل الحصول على ليسانس الآداب ودبلوم عالي في اليونانية ودبلوم عالي في اللاتينية، وهي متطلبات لم تطبق إلا على بعثة واحدة هي بعثة مندور.
لكن الفلاح المتمرد كان له برنامجه الخاص المتجاوز للبرنامج الرسمي برغم عدم رضاه عن دراسة اللاتينية التي كان يعتقد أنها لغة ميتة ولا جدوى من دراستها، فيحصل على دبلوم عالي في القانون والاقتصاد ودبلوم عالي في تاريخ العمارة ودبلوم في بحور الشعر العربي وبالطبع يحصل على ليسانس الآداب وشهادة اليوناني ولا يحصل على شهادة اللاتيني، لكنة يداوم على حضور محاضرات كبار الأساتذة في مختلف التخصصات ويبقى في فرنسا تسع سنوات كاملة وسط تصاعد غضب طه حسين عليه معتقدا انه يلعب!
وتقوم الحرب العالمية الثانية ويعود مندور دون الدكتوراه ويزداد غضب طه حسين علية و يشتبك اشتباكه الأول مع الأوضاع البالية بالجامعة ، فكلف بتدريس الترجمة من اللغة الإنجليزية بتدخل مباشر من الأستاذ الكبير أحمد أمين الذي كان عميدا لكلية آداب جامعة فؤاد الأول ( القاهرة) بحثا له عن وظيفة ، ثم ينجح العميد في تكليفه بتدريس الترجمة من اللغة الفرنسية ، برغم أنه كان أعلى كفاءة ومقدرة من العديد من الأساتذة الأجانب الذين لم يكونوا حاصلين على شهادة الدكتوراه ، التي لم يكن يحملها العميد نفسه برغم قيمته وقامته.
وعندما يقترح عليه البعض التقدم بدراسته العلمية لبحور الشعر العربي التي حصل على الدبلوم العالي من جامعة السوربون عنها، للحصول على الدكتوراة، يرفض ذلك لاعتقاده أن هذه الدراسة تتجاوز الإمكانيات العلمية في الجامعة وبديلا عن ذلك يقرر التقدم للحصول على الدكتوراة بدراسته التي أعدها تحت أشراف أستاذة أحمد أمين بعنوان " النقد المنهجي عند العرب".
وبرغم رفض طه حسين حضور مناقشة الدكتوراة مع أحمد أمين وأمين الخولى فانة ينالها بامتياز وتصبح هذه الرسالة من أهم الكتب النقدية المرجعية الى زماننا هذا، في نفس الوقت الذي كان يكتب فيها في مجلتي الثقافة والرسالة ويتبنى منهجا جديدا والذي يتضح في كتابه " في الميزان الجديد" الذي يشكل تجميعا لهذه المقالات.
ولكن هذه التوجهات الجديدة في الأدب لا تلقى نفس العداء الحاد التي لاقاها طه حسين حين أصدر كتابة " الشعر الجاهلي" أو على عبد الرازق حين أصدر كتابه " الإسلام وأصول الحكم " لأسباب متعلقة بطبيعة هذه التوجهات الأدبية وبانتقاء الأسباب السياسية المباشرة، مثل ما حدث مع كتاب على عبد الرازق، ولكن قبل هذا لأن التطور الاجتماعي والثقافي كان قد قطع أشواطا إضافية وأصبحت الحركة الشعبية السياسية والاجتماعية أكثر نضجا واقترابا من القيم الفكرية والاجتماعية للمجتمعات الحديثة.
ويعين في جامعة الإسكندرية التي كان عميدها طه حسين الذى يرفض الاعتراف بشهادته، فيقرر الحالم الكبير الاستقالة من الجامعة ويخرج بعدته الثقافية والفكرية الكاملة الى الصحافة الحزبية ويتلقى الترحيب الشعبي ويصبح المفكر الأول للتيار الشعبي الجديد، تيار الديمقراطية الثورية، الذي تشكل متجاوزا الأحزاب التقليدية رغم عدم وجود شكل تنظيمي له وبرغم انتماء أفراده للعديد من الأحزاب القديمة أم للتنظيمات اليسارية السرية.
وبرغم أن الصحافة الحزبية التي كان يعمل بها كانت تنتمي لحزب الوفد، فإن بعض توجهات قيادة الحزب لم تكن ترحب بهذا التيار وتوجهاته نتيجة لزيادة نفوذ كبار ملاك الأرض، إلا أن قائد الحزب، الواسع النفوذ، مصطفى النحاس، كان يدرك الأهمية الحاسمة لدور الديمقراطية الثورية والتيار الجديد، الذي تشكل داخل الحزب تحت مسمى الطليعة الوفدية، في استعادة الحزب لنفوذه الجماهيري الذي فقد بعضه بعد توقيع اتفاقية 1936 ثم قبوله الحكم في أعقاب تدخل قوات الاحتلال عام 1942، فيقدم دعمة للطليعة وكتابها.
ويصبح الطابع العام لنشاطه هو الكتابات السياسية والاقتصادية برغم استمرار نشاطه الأدبي وسط تأييد شعبي حار وصدامات كبيرة مع حكومات الأقليات في أوضاع استمرار الاحتلال وتحالف بعض قطاعات الرأسمالية المصرية معه.
وإذا كان التيار الفكري والثقافي التنويري والأكثر حداثة قد أذاد اقترابه من الحركة الوطنية مع تطورها ونضجها، فإن وليدها الجديد، تيار الديمقراطية الثورية، كان يتطور نفوذه الجماهيري بشكل سريع بحيث كانت تتشكل ملامح حركة وطنية أكثر ثورية اجتماعيا وثقافيا، فالأمر تجاوز التلاقي السابق والتدريجي الى الاندماج والتأثير المتعاظم في قيادة الحركة الوطنية.
لقد كانت انتخابات مجلس النواب عام 1950 برهانا واضحا على تعاظم تأثير تيار الديمقراطية الثورية فيدخل كبار ممثلية، للمرة الأولى، لعضوية مجلس النواب ويصبح أبرزهم، محمد مندور، رئيسا (أو وكيلا) للجنة التعليم، في نفس الوقت الذي كان طه حسين وزيرا للتعليم بالمجانية الجديدة.
لقد كانت السنوات الأخيرة قبل 1952 تعبيرا واضحا عن أزمة النمو الرأسمالي والاحتلال الأجنبي ، فحركه شعبية ناهضه يتزايد داخلها نفوذ التيارات الراديكالية وعلى راسها تيار الديمقراطية الثورية ، تطرح أفقا صداميا يتجاوز الاحلام المقيدة للرأسمالية المصرية ويتجاوزاها اجتماعيا ، فينطلق الكفاح المسلح ضد الاحتلال ويتعاظم النشاط العمالي النقابي ويصبح على وشك تشكيل اتحاد عام للعمال بديلا عن الاتحاد الأول للعمال الذي حطمته حكومة الشعب الأولى عام 1924 ، ويتزايد نفوذ التيارات اليسارية وتستعيد جانبا كبيرا من قدراتها التنظيمية في نفس الوقت الذى يتزايد فيه نفوذ وعنف التيارات الدينية السلفية وعلى رأسها الإخوان المسلمون ، أنها لحظة أزمة اجتماعية عامة تطرح آفاقا مفتوحة للتغيير القادم ويلعب فيها شكل الحكم الملكي أدوارا سلبية .
ووسط هذه الازمة المحتدمة والنشاط الجماهيري العارم والكفاح المسلح في خط القناة والمظاهرات الشعبية الكبيرة التي تنادى بالتحالف مع الاتحاد السوفيتي، يحرق قلب القاهرة التجاري وتقال حكومة الوفد بعد أن أعلنت حالة الطوارئ، أزمة تعكس تحلل وانهيار النظام القديم والاحتمالات المفتوحة لنظام جديد يصيب الطبقات والقوى الممثلة للنظام القديم بالفزع، نفس الفزع الذي يصيب قوى الاحتلال والقوى العظمى الجديدة التي انبثقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية.
يأتي الانقلاب العسكري، وهي تسمية دقيقة للحظة الانقلاب، رغم أن تطورات الصراع الاجتماعي والدولي قادته إلى تجاوز هذه التسمية ليتحول الى تغيير اجتماعي كبير يعيد تشكيل وتكوين الطبقات الاجتماعية وإعادة صياغة العلاقات الإقليمية والدولية، ولا تتأخر السلطة الجديدة في إقرار قانون الإصلاح الزراعي، وهو قانون خجول من زاوية علاقته بالنمو الرأسمالي، فالنمور الرأسمالي الراديكالي يتطلب إلغاء ملكية الأرض وهو ما طبقته القيادة الصينية بقيادة صن يات صن في الثورة الصينية في العشرة سنوات الثانية من القرن العشرين.
ويصدر الديمقراطي الثوري كتابة السياسي الأول، في سبتمبر 1952، بعنوان الديمقراطية السياسة مقدما برنامجا سياسيا للحركة الوطنية مختلفا مع تأييد طه حسين للانقلاب والتي كان أول من أسماها ثورة.
وليس هنا مجال تتبع المسار السياسي والاجتماعي الذي قاد، عبر فترات زمنية ، إلى تبلور هوية النظام الجديد ، ولكن هذا النظام يحتفظ ، دائما ، بشكل الحكم الذى تبلور واصبح لا يتسع للحركات الشعبية والنقابية المستقلة ولا لأبرز ممثليها ، فيعلن تنازل محمد مندور عن الترشح في انتخابات مجلس نواب 1957 برغم رفضه التنازل وفوز مرشح النظام بالعضوية بالتزكية ، ويجبر الديمقراطي الثوري على الاكتفاء بدورة الأدبي التنويري حيث يقف مدافعا عن الشعر الجديد وداعما للكتاب الجدد في المسرح والأدب القصصي محتضنا لهم ويخوض معارك فكرية كبرى في مواجهة بعض من أبرز الممثلين للتوجهات التي عجزت عن التطور وعن مسايرة العصر أو التي تتبنى توجهات تتجاوب مع بعض توجهات الدولة الغير متجانسة ، الأمر الذي جعل لويس عوض يتغنى بدورة حين يصف وقوفه في الخط الأمامي بصدرة العريض يتلقى الطعنات نيابة عنهم جميعا.
وبرغم أنه كان يؤيد التوجهات الجديدة في التصنيع والتعليم والسياسات الدولية، إلا أنه ينجوا من حملة اعتقالات 1959 بتدخل مباشر من أحد تلاميذه من ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار، الأمر الذي لا يجده لويس عوض أو أحمد رشدي صالح الذين يذهبوا الى المعتقل ليكسروا الحجارة، رغم عدم انتمائهم التنظيمي أو الفكري للمنظمات اليسارية.
ويستمر في جهده الأدبي الرائد، ولكنه يستمر يحلم بدور أوسع في الحياة العامة ويقدم طلبا للسماح له بالترشح في انتخابات 1963 لمجلس النواب يرفض طلبة بدعوى الاحتفاظ به لمهام أخرى!
ويبدو أن هذه المهام الأخرى هي فصلة من جريدة الجمهورية نهاية عام 1964 بدعوى عدم الجمع بين وظيفتين وهو نفس ما ينال أبرز ممثلي النهضة الأدبية الحديثة، أستاذه طه حسين، الذي يفصل هو الأخر.
مندور وطه والزمان العجيب
نعم إنه الزمان العجيب فانت لا تستطيع أن تصيغ حياة ابنائك كي يصبحوا مثلك، بل تستطيع فقط أن ترشد من اختياراتهم لكنك ستفشل إذا كنت تطمح لإعادة إنتاج نفسك ، فمحمد مندور هو طه حسين لكن في زمانه هو وليس في زمان طه حسين ، إنه الامتداد الموضوعي للأستاذ الكبير ، لذلك فهو ليس سهير القلماوي أو شوقي ضيف بل هو محمد مندور المتمرد والمستقل والذى يحتفظ ، دائما ، بتقديره للأستاذ الكبير الذى خرج من عباءته ، فهذا الشبل من ذاك الأسد.
نعم كان هناك خلافا لكن مثل هذا الخلاف لم يكن ابدا خلافا على التوجهات العامة للحركة الفكرية والثقافية، بل خلافا عن شيء أخر متعلق بالاختيارات الشخصية للتلميذ، خلافا حول كيف يرى التلميذ نفسه ودورة وكيف يطمح لتطوير قدراته.
طه حسين والتطور الاجتماعي
فطه حسين يلتحق بالجامعة المصرية عند تأسيسها سنة 1908 ، في نفس الوقت الذي يستمر على المداومة على دروسه الأزهرية متململا من تخلف دراستها ، وهى نفسها اللحظة التاريخية التي كانت فيه الحركة الوطنية المصرية تتطور محاولة الخروج من أسر الارتباط الفكري بالدولة العثمانية بعد أن انتكست بهزيمة ثورة 1882 ، لحظة شهدت البدايات الأولى لتأسيس الرأسمالية المصرية الحديثة ، لحظة بدايات تأسيس التيارات الثقافية المصرية الحديثة على يد حزب كبار الملاك ، حزب الأمة ، وليس على أيدى الحزب الوطني المتمرد على الاحتلال الأجنبي والاعلى نفوذا بين الجماهير الشعبية ، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد .
ويكون الصدام الأول بين الجامعة والأزهر، بين التيارات الفكرية الحديثة والتيار التقليدي الرتيب، فالجامعة تمنحه شهادة الدكتوراه عن ذكرى أبى العلاء والأزهر يتهمه بالكفر والزندقة ويرفض منحه شهادة العالمية ولا يلقى التأييد إلا من جريدة السياسة التي يقف على رأسها أحمد لطفي السيد الملقب بأستاذ الأجيال.
وتكشف لحظة الصدام الثانية حول كتاب " في الشعر الجاهلي " في منتصف العشرينات مستوى نضج وتطور النهوض الرأسمالي وتبني القيم الاجتماعية والثقافية الحديثة، فالحزب الشعبي الأول، حزب الوفد، يقود الثورة ويصل الى السلطة بتأسيس ما اصطلح على تسميته بحكومة الشعب الأولى، يتخذ موقفا سلبيا من طه حسين وكتابه وهو نفس موقفها من كتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق.
ولا يبقى العميد إلا أياما معدودة عميدا لكلية الآداب عام 1928 ويضطر الى الاستقالة تحت ضغط الوفديين الذين لم يستطيعوا التفرقة بين الدور الأدبي والفكري الرائد للعميد وارتباطاته السياسية مع حزب الأحرار الدستوريين، خليفة حزب الأمة القديم، في نفس الوقت الذي كان العقاد الكاتب الأول لحزب الوفد.
ومنذ تلك اللحظة الفارقة تبدأ في التشكل ملامح مفارقة طه حسين للارتباط الفكري مع حزب الأحرار الدستوريين، ليس لأن طه حسين كان يتجنب الصدام مع التيارات الأكثر شعبية، فحياة طه حسين هي سلسلة متتابعة من الصدامات الفكرية، ولكن لأسباب أخرى متعلقة بتطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي جعلت هذه التيارات يزداد اقترابها منه وليس العكس، الأمر الذي ساهم في اقترابه منها.
وعندما عين عميدا لكلية الآداب عام 1930 أثناء حكومة الأحرار الدستوريين، حكومة القبضة الحديدية لمحمد محمود، يضطر الى الاستقالة ويحال الى التقاعد عام 1932 أثناء حكومة إسماعيل صدقي الاستبدادية احتجاجا للاستخدام السياسي للجامعة بمنح الجامعة للدكتوراه الفخرية للبعض ومن ضمنهم عبد العزيز فهمي أحد أقطاب حزب الأحرار الدستوريين.
ونزداد مفارقته للأحرار الدستوريين وصداماته معهم أثناء توليهم رئاسة الوزراء ويتزايد اقتراب الحركة الوطنية منة ويصدر كتابه مستقبل الثقافة في مصر مشكلا جانبا هاما من برنامج الحركة الوطنية المصرية ويعين عام 1942 عميدا لجامعة الإسكندرية وسط ترحيب عام من الحركة الوطنية، ويخرج كبار تلاميذه الى الحياة العامة دفاعا عن العدل والحرية والديمقراطية والعقل والحداثة والاستقلال الوطني.
ويتم التلاحم بينة وبين الحزب الشعبي الأول عندما تطلبه وزيرا للمعارف في حكومة الوفد سنة 1950 وسط اعتراض القصر بدعوى انه شيوعي ، ويا لها من تهمة مثيرة للسخرية برغم ديمومة استخدامها الى الآن على أيدى بصاصين أنظمة الحكم الرشيدة التي تداولت على بلادنا ، ولكنه يصر على ضرورة توسيع مجانية التعليم وسط معارضة بعض تيارات الوفد الأكثر يمينية وارتباطا بكبار ملاك الأرض ، وتنتهى المساومة بتوسيع مجانية التعليم إلى المستوى الثانوي مع وعد بإكماله إلى المستوى الجامعي ، ويضطر القصر على الموافقة ويمنحه رتبة الباشوية التي كان قد نالها شعبيا منذ زمان بعيد .
لقد رحب طه حسين بحركة يوليو 1952، وكان هو أول من اسماها ثورة في إدراك صحيح بأنها تشكل البداية الثانية الكبيرة للتطور الاجتماعي المصري، وبرغم ترحيبه بها وحسن العلاقة مع النظام الجديد ورئاسته لمجمع اللغة العربية، إلا أنه يتعرض للفصل من جديد من جريدة الجمهورية عام 1964 بدعوى الجمع بين وظيفتين، فصلا لم يكن قصرا علية، بل امتد ليشمل أبرز تلاميذه، محمد مندور، وآخرون، وهي علامة فارقة لنظام الحكم الوطني الدكتاتوري المعادي للديمقراطية.
محمد مندور وزمانه
ولكن الابن البكر المتمرد لطه حسين لم يكن أسعد حظا من أستاذة، فلاقى الأمرين وهو يشتبك مع الحياة العامة، وإذا كان طه حسين قد تعرض للمتاعب نتيجة لجهوده الفكرية والأدبية نتيجة لضعف التطور الاجتماعي واختلاط القيم ما بين الحركة الشعبية التي كانت تخرج من القديم والقيم الاجتماعية والثقافية الأكثر حداثة التي كان يتبناها تيار فكرى من أبناء كبار ملاك الأرض، لكن صاحبنا مندور أصبح على رأس تيار فكرى وثقافي وسياسي جديد.
فعندما يدخل الى الجامعة سنة 1925 محملا بالفخر بالاشتراك في ثورة 1919 طفلا صغيرا ويظل يتذكر مفتخرا، طوال عمرة، كيف مسح حذاءه الملطخ بتراب المدن الإقليمية في ظهر الحكمدار الإنجليزي الجالس يتابع فض المظاهرات، فيلتحق بالسنة الإعدادية المؤهلة للالتحاق بأي من كليتي الآداب والحقوق.
ويكتشف طه حسين موهبته ويستدعيه طالبا منه الالتحاق بالآداب، فيرفض الفلاح لأنه يريد الحقوق، بحثا عن النفوذ الاجتماعي، وينتهي النقاش بالسماح له بالالتحاق بالاثنين، لكن هذا الفلاح العنيد والمتمرد لا يكتفى بذلك، بل يلتحق بقسمين بالآداب، قسم العربي وقسم الاجتماع!
ويتخرج من الكليتين، الآداب وترتيبه الأول والحقوق من الأوائل، وتقرر الجامعة إرساله الى فرنسا لنيل درجة الدكتوراة من السوربون، لكن الخطة الدراسية يتم تحديدها بواسطة طه حسين وهي تتجاوز كثيرا متطلبات السوربون للسماح بدراسة الدكتوراة، خطة دراسية تشمل الحصول على ليسانس الآداب ودبلوم عالي في اليونانية ودبلوم عالي في اللاتينية، وهي متطلبات لم تطبق إلا على بعثة واحدة هي بعثة مندور.
لكن الفلاح المتمرد كان له برنامجه الخاص المتجاوز للبرنامج الرسمي برغم عدم رضاه عن دراسة اللاتينية التي كان يعتقد أنها لغة ميتة ولا جدوى من دراستها، فيحصل على دبلوم عالي في القانون والاقتصاد ودبلوم عالي في تاريخ العمارة ودبلوم في بحور الشعر العربي وبالطبع يحصل على ليسانس الآداب وشهادة اليوناني ولا يحصل على شهادة اللاتيني، لكنة يداوم على حضور محاضرات كبار الأساتذة في مختلف التخصصات ويبقى في فرنسا تسع سنوات كاملة وسط تصاعد غضب طه حسين عليه معتقدا انه يلعب!
وتقوم الحرب العالمية الثانية ويعود مندور دون الدكتوراه ويزداد غضب طه حسين علية و يشتبك اشتباكه الأول مع الأوضاع البالية بالجامعة ، فكلف بتدريس الترجمة من اللغة الإنجليزية بتدخل مباشر من الأستاذ الكبير أحمد أمين الذي كان عميدا لكلية آداب جامعة فؤاد الأول ( القاهرة) بحثا له عن وظيفة ، ثم ينجح العميد في تكليفه بتدريس الترجمة من اللغة الفرنسية ، برغم أنه كان أعلى كفاءة ومقدرة من العديد من الأساتذة الأجانب الذين لم يكونوا حاصلين على شهادة الدكتوراه ، التي لم يكن يحملها العميد نفسه برغم قيمته وقامته.
وعندما يقترح عليه البعض التقدم بدراسته العلمية لبحور الشعر العربي التي حصل على الدبلوم العالي من جامعة السوربون عنها، للحصول على الدكتوراة، يرفض ذلك لاعتقاده أن هذه الدراسة تتجاوز الإمكانيات العلمية في الجامعة وبديلا عن ذلك يقرر التقدم للحصول على الدكتوراة بدراسته التي أعدها تحت أشراف أستاذة أحمد أمين بعنوان " النقد المنهجي عند العرب".
وبرغم رفض طه حسين حضور مناقشة الدكتوراة مع أحمد أمين وأمين الخولى فانة ينالها بامتياز وتصبح هذه الرسالة من أهم الكتب النقدية المرجعية الى زماننا هذا، في نفس الوقت الذي كان يكتب فيها في مجلتي الثقافة والرسالة ويتبنى منهجا جديدا والذي يتضح في كتابه " في الميزان الجديد" الذي يشكل تجميعا لهذه المقالات.
ولكن هذه التوجهات الجديدة في الأدب لا تلقى نفس العداء الحاد التي لاقاها طه حسين حين أصدر كتابة " الشعر الجاهلي" أو على عبد الرازق حين أصدر كتابه " الإسلام وأصول الحكم " لأسباب متعلقة بطبيعة هذه التوجهات الأدبية وبانتقاء الأسباب السياسية المباشرة، مثل ما حدث مع كتاب على عبد الرازق، ولكن قبل هذا لأن التطور الاجتماعي والثقافي كان قد قطع أشواطا إضافية وأصبحت الحركة الشعبية السياسية والاجتماعية أكثر نضجا واقترابا من القيم الفكرية والاجتماعية للمجتمعات الحديثة.
ويعين في جامعة الإسكندرية التي كان عميدها طه حسين الذى يرفض الاعتراف بشهادته، فيقرر الحالم الكبير الاستقالة من الجامعة ويخرج بعدته الثقافية والفكرية الكاملة الى الصحافة الحزبية ويتلقى الترحيب الشعبي ويصبح المفكر الأول للتيار الشعبي الجديد، تيار الديمقراطية الثورية، الذي تشكل متجاوزا الأحزاب التقليدية رغم عدم وجود شكل تنظيمي له وبرغم انتماء أفراده للعديد من الأحزاب القديمة أم للتنظيمات اليسارية السرية.
وبرغم أن الصحافة الحزبية التي كان يعمل بها كانت تنتمي لحزب الوفد، فإن بعض توجهات قيادة الحزب لم تكن ترحب بهذا التيار وتوجهاته نتيجة لزيادة نفوذ كبار ملاك الأرض، إلا أن قائد الحزب، الواسع النفوذ، مصطفى النحاس، كان يدرك الأهمية الحاسمة لدور الديمقراطية الثورية والتيار الجديد، الذي تشكل داخل الحزب تحت مسمى الطليعة الوفدية، في استعادة الحزب لنفوذه الجماهيري الذي فقد بعضه بعد توقيع اتفاقية 1936 ثم قبوله الحكم في أعقاب تدخل قوات الاحتلال عام 1942، فيقدم دعمة للطليعة وكتابها.
ويصبح الطابع العام لنشاطه هو الكتابات السياسية والاقتصادية برغم استمرار نشاطه الأدبي وسط تأييد شعبي حار وصدامات كبيرة مع حكومات الأقليات في أوضاع استمرار الاحتلال وتحالف بعض قطاعات الرأسمالية المصرية معه.
وإذا كان التيار الفكري والثقافي التنويري والأكثر حداثة قد أذاد اقترابه من الحركة الوطنية مع تطورها ونضجها، فإن وليدها الجديد، تيار الديمقراطية الثورية، كان يتطور نفوذه الجماهيري بشكل سريع بحيث كانت تتشكل ملامح حركة وطنية أكثر ثورية اجتماعيا وثقافيا، فالأمر تجاوز التلاقي السابق والتدريجي الى الاندماج والتأثير المتعاظم في قيادة الحركة الوطنية.
لقد كانت انتخابات مجلس النواب عام 1950 برهانا واضحا على تعاظم تأثير تيار الديمقراطية الثورية فيدخل كبار ممثلية، للمرة الأولى، لعضوية مجلس النواب ويصبح أبرزهم، محمد مندور، رئيسا (أو وكيلا) للجنة التعليم، في نفس الوقت الذي كان طه حسين وزيرا للتعليم بالمجانية الجديدة.
لقد كانت السنوات الأخيرة قبل 1952 تعبيرا واضحا عن أزمة النمو الرأسمالي والاحتلال الأجنبي ، فحركه شعبية ناهضه يتزايد داخلها نفوذ التيارات الراديكالية وعلى راسها تيار الديمقراطية الثورية ، تطرح أفقا صداميا يتجاوز الاحلام المقيدة للرأسمالية المصرية ويتجاوزاها اجتماعيا ، فينطلق الكفاح المسلح ضد الاحتلال ويتعاظم النشاط العمالي النقابي ويصبح على وشك تشكيل اتحاد عام للعمال بديلا عن الاتحاد الأول للعمال الذي حطمته حكومة الشعب الأولى عام 1924 ، ويتزايد نفوذ التيارات اليسارية وتستعيد جانبا كبيرا من قدراتها التنظيمية في نفس الوقت الذى يتزايد فيه نفوذ وعنف التيارات الدينية السلفية وعلى رأسها الإخوان المسلمون ، أنها لحظة أزمة اجتماعية عامة تطرح آفاقا مفتوحة للتغيير القادم ويلعب فيها شكل الحكم الملكي أدوارا سلبية .
ووسط هذه الازمة المحتدمة والنشاط الجماهيري العارم والكفاح المسلح في خط القناة والمظاهرات الشعبية الكبيرة التي تنادى بالتحالف مع الاتحاد السوفيتي، يحرق قلب القاهرة التجاري وتقال حكومة الوفد بعد أن أعلنت حالة الطوارئ، أزمة تعكس تحلل وانهيار النظام القديم والاحتمالات المفتوحة لنظام جديد يصيب الطبقات والقوى الممثلة للنظام القديم بالفزع، نفس الفزع الذي يصيب قوى الاحتلال والقوى العظمى الجديدة التي انبثقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية.
يأتي الانقلاب العسكري، وهي تسمية دقيقة للحظة الانقلاب، رغم أن تطورات الصراع الاجتماعي والدولي قادته إلى تجاوز هذه التسمية ليتحول الى تغيير اجتماعي كبير يعيد تشكيل وتكوين الطبقات الاجتماعية وإعادة صياغة العلاقات الإقليمية والدولية، ولا تتأخر السلطة الجديدة في إقرار قانون الإصلاح الزراعي، وهو قانون خجول من زاوية علاقته بالنمو الرأسمالي، فالنمور الرأسمالي الراديكالي يتطلب إلغاء ملكية الأرض وهو ما طبقته القيادة الصينية بقيادة صن يات صن في الثورة الصينية في العشرة سنوات الثانية من القرن العشرين.
ويصدر الديمقراطي الثوري كتابة السياسي الأول، في سبتمبر 1952، بعنوان الديمقراطية السياسة مقدما برنامجا سياسيا للحركة الوطنية مختلفا مع تأييد طه حسين للانقلاب والتي كان أول من أسماها ثورة.
وليس هنا مجال تتبع المسار السياسي والاجتماعي الذي قاد، عبر فترات زمنية ، إلى تبلور هوية النظام الجديد ، ولكن هذا النظام يحتفظ ، دائما ، بشكل الحكم الذى تبلور واصبح لا يتسع للحركات الشعبية والنقابية المستقلة ولا لأبرز ممثليها ، فيعلن تنازل محمد مندور عن الترشح في انتخابات مجلس نواب 1957 برغم رفضه التنازل وفوز مرشح النظام بالعضوية بالتزكية ، ويجبر الديمقراطي الثوري على الاكتفاء بدورة الأدبي التنويري حيث يقف مدافعا عن الشعر الجديد وداعما للكتاب الجدد في المسرح والأدب القصصي محتضنا لهم ويخوض معارك فكرية كبرى في مواجهة بعض من أبرز الممثلين للتوجهات التي عجزت عن التطور وعن مسايرة العصر أو التي تتبنى توجهات تتجاوب مع بعض توجهات الدولة الغير متجانسة ، الأمر الذي جعل لويس عوض يتغنى بدورة حين يصف وقوفه في الخط الأمامي بصدرة العريض يتلقى الطعنات نيابة عنهم جميعا.
وبرغم أنه كان يؤيد التوجهات الجديدة في التصنيع والتعليم والسياسات الدولية، إلا أنه ينجوا من حملة اعتقالات 1959 بتدخل مباشر من أحد تلاميذه من ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار، الأمر الذي لا يجده لويس عوض أو أحمد رشدي صالح الذين يذهبوا الى المعتقل ليكسروا الحجارة، رغم عدم انتمائهم التنظيمي أو الفكري للمنظمات اليسارية.
ويستمر في جهده الأدبي الرائد، ولكنه يستمر يحلم بدور أوسع في الحياة العامة ويقدم طلبا للسماح له بالترشح في انتخابات 1963 لمجلس النواب يرفض طلبة بدعوى الاحتفاظ به لمهام أخرى!
ويبدو أن هذه المهام الأخرى هي فصلة من جريدة الجمهورية نهاية عام 1964 بدعوى عدم الجمع بين وظيفتين وهو نفس ما ينال أبرز ممثلي النهضة الأدبية الحديثة، أستاذه طه حسين، الذي يفصل هو الأخر.
مندور وطه والزمان العجيب
نعم إنه الزمان العجيب فانت لا تستطيع أن تصيغ حياة ابنائك كي يصبحوا مثلك، بل تستطيع فقط أن ترشد من اختياراتهم لكنك ستفشل إذا كنت تطمح لإعادة إنتاج نفسك ، فمحمد مندور هو طه حسين لكن في زمانه هو وليس في زمان طه حسين ، إنه الامتداد الموضوعي للأستاذ الكبير ، لذلك فهو ليس سهير القلماوي أو شوقي ضيف بل هو محمد مندور المتمرد والمستقل والذى يحتفظ ، دائما ، بتقديره للأستاذ الكبير الذى خرج من عباءته ، فهذا الشبل من ذاك الأسد.