في فرنسا، بلَد نشأة حقوق الإنسان، لم تعد المساواةُ بين الفرنسيين إلا ذرّ الرماد على العيون!

المقصود ب"فرنسيين"، في هذه المقالة، هم الفرنسيون من أصول فرنسية والفرنسيون من أصول أجنبية الذين ازدادوا بفرنسا أو حصلوا على الجنسية الفرنسية بطريقة أو أخرى.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أوضِّحَ أن مبدأَ المساواة بين الفرنسيين عرف تقهقرا لم يسبق له مثيلٌ في عهد حكم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron. كما أريد أن أوضِّحَ أنه، من بين رؤساء الجمهورية الفرنسية الذين تعاقبوا على حكم فرنسا، ثلاثة منهم، أنا شخصيا، معجبٌ بهم. إنهم شارل دي ݣول Charles De Gaulle، فاليري جيسكار ديستان Valéry Giscard d'Estaing وجاك شيراك Jacques Chirac. هؤلاء الثلاثة يمتازون بالنُّضج السياسي وببداهة القول والرأي وبفصاحة اللسان كما كان الشأن للمرحوم الحسن الثاني رحمه اللهُ، وخصوصا في ندواتِه الصحافية.

فحينما يُوجِّه هؤلاء الرؤساء الفرنسيون الثلاثة خُطباً للشعب الفرنسي، فإن كثيرا من الناس، من خارج فرنسا، يتابعون هذه الخطبَ لِما يلمسونه، من خلالِها، من تملُّكٍ للغة وأساليبها التواصلية ومن تبصُّر وبُعد نظرٍ ونُضج سياسي.

وللإنصاف، لا يمكن المقارنة بين هؤلاء الثلاثة والرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron. في الحقيقة، لا مجالَ للمقارنة بين هذا الأخير والرؤساء الثلاثة السابقين. الثلاثة من طينة سياسية واجتماعية وثقافية فريدة من نوعها بينما الرئيس الحالي من طينة أخرى لا ترقى إلى صف العظماء وتنقصها الكاريزما التي هي طبيعية عند الثلاثة الآخرين. والدليل على ذلك أن الرئيس الفرنسي الحالي بدأ يفقد، حسب استطلاعات الرأي، ثقةَ الفرنسيين فيه، خصوصا بعد إصلاح نظام التَّقاعد، المفروض على الفرسيين ومقتل المراهق الفرنسي ناهل ذي الأصول الجزائرية، على يد شرطي فرنسي.

ما يجعل إيمانويل ماكرون مخالفا لأنداده الثلاثة السابقين هو تشبُّثُه بالكبرياء والتَّكبُّر والنفاق والحِربائية ونقصان التَّجربة والشجاعة السياسيتين.

ما هو مؤكَّد هو أن الأزمات التي عرفتها فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون من ثورة السترات الصفراء les gilets jaunes، وإصلاح التَّقاعد ومقتل المراهق ناهل واندحار فرنسا إفرقِياً…، كانت ستواجَه وتُعالج بطرُقٍ وأساليب مخالفة أكثر عقلانيةً ونضج كبيرين. كان عليه، فيما يخصُّ إصلاحَ التَّقاعد، أن يقترحَ تنظيمَ اقتراعٍ عام ومباشر suffrage universel، كما فعل الرئيس السابق شارل دي ݣول الذي قدَّم استقالتَه من رئاسة الجمهورية الفرنسية، كما وعد بذلك، حين فشل المشروعُ الذي تقدَّم به للشعب الفرنسي فيما يخصُّ إصلاحَ الجهوية والغرفة الثانية من البرلمان، والذي طلب من الفرنسيين أن يصوِّتوا عليه بالاقتراع العام المباشر. لكن ماكرون لم يتَّبع نهجَ سلفه، بحكم عدم توفُّره على الشجاعة السياسية الكافية.

أما حِربائيتُه، فقد عبّرَ عنها بوضوح لما قام بزيارة رسمية للجزائر حيث راح يُقبِّلُ ويحضن الرئيسَ الجزائري علما أنه يعلم علمَ اليقين أنه رئيسٌ غير شرعي و وصل إلى الحكم بإرادة الطُّغمة العسكرية الحاكمة من وراء الستار. قد يقول قائلٌ إنه يفعل ذلك خدمةً لمصلحة بلاده. نعم مصلحةُ بلاده فوق كل اعتبار. لكن هذا السلوك لا يليق برئيس دولة عُظمى، متقدِّمة، مصنَّعة وعُضوٌ في مجلس الأمن ولها مكانتُها على الصعيدين الجيوسياسي والجيواستراتيجي. أنا متأكِّد أنه لا أحدَ من الرؤساء الثلاثة المشار إليهم أعلاه، كان سيتصرَّف هكذا، احتراما لسُمعة بلاده ومكانتها في العالم.

أما من حيث النفاق، فإنه بلغ فيه قمَّةَ القِمم. ألم يقل في تصريحات سابقة وقبل قيامه بزيارة رسمية للجزائر إن هذه الأخيرة لا تاريخَ لها و وصف النظامَ الجزائري ب"النظام السياسي العسكري" système politico-militaire ورفض أن تُقدِّمَ بلادُه، فرنسا، إعتذاراً للشعب الجزائري لما اقترفته من جرائم ومجازر إبانَ احتلالها للجزائر لمدَّة 132 سنة.

أما فيما يخصُّ كبرياء وتكبُّر الرئيس الحالي لفرنسا، إيمانويل ماكرون، فإنه سبق له أن نصَّبَ نفسَه كمُنقدٍ للإسلام بعد أن صرَّحَ أن هذا الإسلامَ يعيش أزمةً في جميع أنحاء العالم وحتى في البلدان الإسلامية. أليس هذا التصريحُ تكبُّرٌ لا يليق برئيس دولة ينصُّ دستورُها على العِلمانية التي تفصل بين السياسة والدين. كان عليه، كعِلماني، أن لا يحشرَ نفسَه في هذا الأمر علما أن دستورَ البلاد لا يمنع أحدا أن يكونَ مسلما أو نصرانيا أو يهوديا أو حتى مجوسيا أو مُلحِدا.
شتان ما بينه وبين الرؤساء الثلاثة السابقي الذكر الذين كانوا سيتعاملون مع الأزمات المشار إليها أعلاه بطرق مختلفة يسود فيها التَّفاهمُ والتَّوافق. ولهذا، فإن الأغلبيةَ الساحقة من الفرنسيين غير راضين عن سياسته، كما تُبيِّن ذلك استطلاغاتُ الرأي. وعوضَ أن يتفاعلَ مع هذه الأغلبية وكثيرٌ من الأحزاب السياسية، فإنه تحدَّى الجميع وأمر باستعمال القوة والعنف ضد المتظاهرين. بل إنه لجأ إلى الصلاحية التي يمنحها له الدستور ليفرضَ إصلاح التقاعد على الفرنسيين.

أما مقتل المراهق ناهل على يد الشرطة الفرنسية، فهو دليل قاطع على تغلغُل العنصرية في بلاد حقوق الإنسان. فرنسا التي اتَّخذت كشعار لجمهوريتِها، "حرية، مساواة، أخُوَّة" liberté, .égalité, fraternité شعارٌ مستمد من تصريح حقوق الإنسان الذي رأى النورَ في فرنسا أثناء الثورة الفرنسية سنة 1789. شعار لم تعُد له قيمة في عهد الرئيس الحالي الذي لم يتردَّد، من أجل ضمان عُهدةٍ ثانية، في تبنِّي بعض اتجاهات اليمين المتطرف فيما يخص الهجرةَ والمهاجرين. بموقفه هذا يكون قد ساند ضمنيا اليمين المتطرف الذي يجعل من العنصرية أحد ركائز إيديولوجيتِه السياسية.

أين هي المساواة التي، من المفروض وحسب الدستور الفرنسي، تعتبر كل الفرنسيين، بغض النظر عن أصولهم، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات؟

أين هي الأخوة التي، من المفروض أن تترك جانبا الأصول ولونَ البشرة، تفرض معاملة الفرنسيين على قدم المساواة ومحاربة الحدود العِرقية والعزلة وعدم الاعتراف؟

الأخوة تعني التَّضامن وتعايش وتساكن الفرنسيين تحت سقف بلد واحد. بل إن الأخوَّةَ قيمةٌ إنسانية تتجاوز الحدودَ. أليست الأخوَّةُ هي الإسمنتُ الذي يجمع بين المواطنين تحت سقف الوطن الواحد؟

أما الحرية، وبالضبط حرية التعبير، فلطالما ساء استعمالُها عندما يتعلَّق الأمرُ بالهجوم على الإسلام والمسلمين أو عندما تُراد الإساءةُ للرسول محمد (ص).

كل قيم هذا الشعار تدهورت في عهد الرئيس الفرنسي الحالي. وما زاد ويزيد في الطين بلَّةً، هو أن الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى يومنا هذا، لم يتخلَّص من العقلية الاستعمارية الفرنسية إذ لا يزال يظن أنه هو السيد وكل الفرنسيين من أصولٍ مغاربية أو إفريقية، بل كل المستعمرات السابقة، ليسوا إلا أتباع des vassaux. والدليل على ذلك أنه قال في إحدى قِمم مجموعة العشرين G20 : "إن الرِّهانَ الذي تواجهُه إفريقيا ليس حضاريا. إذا كان لبعض البلدان من سبعة إلى ثمانية أطفال للزوجة الواحدة، فبالإمكان إنفاق ملايير الأورو، لن يُساهمَ هذا الإنفاق في أي استقرار". وهو الشيء الذي جلب له استنكارَ بعض الصحفيين وكثيرٌ من المواطنين الأفارقة.

لقد أصبحت فرنسا اليوم مكانا تترعرع فيه العنصرية والميز العنصري والكراهية الموجَّهة ضد الإسلام. وقد بلغ هذان الأخيرَان أوجَهما عند قواتِ المُحافَظَةِ على الأمن من شرطة ودَرَك وفرق خاصة. والدليل على ترعرُع العنصرية بفرنسا، هو أن المناهضين للفرنسيين من أصول أجنبية واليمين المتطرف قاموا بجمع تبرُّعاتٍ لفائدة أسرة الشرطي الذي قتل المراهق ناهل. وقد بلغت هذه التبرعات أكثر من 1,2 مليون أورو في ظرف وجيز بينما لم تتجاوز هذه التَّبرعات 200000 أورو لصالح أسرة القتيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى