يقول أبن رشيق القيرواني: (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهن، وذب عن أحسابهم، وتخلد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج)
وفي خلال هذا الزمن لم يكن هناك سوى أدب منطوق حفظته الرواية الشفهية، ولم يشرع في كتابته إلا بعد ذلك بزمن طويل. أما عصر الجاهلية فيشمل قرنا ونيفا من السنوات، أعني منذ سنة 500 بعد الميلاد حينما نظمت أول قصيدة وصلت إلينا حتى عام هجرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة سنة 622م تلك السنة التي تعد نقطة انتقال ومستهل عهد جديد في التاريخ العربي. وكان أثر هذه المائة والعشرين سنة كبيراً وخالداً، فقد شهدت نشأة تدهور نوع من الشعر اعتبره أغلب المسلمين الناطقين بالضاد مثالا للإبداع لا يتأتى الوصول إليه، فهو شعر قد سار مع حياة القوم جنبا إلى جنب. ووحد بينهم قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم) بزمن طويل من الناحيتين الخلقية والروحية، وقبل أن يؤلف الرسول بين أهوائهم المتشعبة وقبل أن يجعلهم أمة تسعى من أجل غاية مشتركة، وترمي إلى مقصد واحد. في هذه الأيام لم يكن الشعر من الكماليات للأقليات المثقفة بل كان الوسيط المفرد في التعبير الأدبي، وكان لكل قبيلة شعراؤها يعبرون بحرية عمّا يختلج في النفوس ويصورون أفكارهم، وكان كلامهم الشفهي هذا ينطلق في رحاب الصحراء أسرع من انطلاق السهم، ويجد آذانا صاغية وقلوبا واعية عند جميع من يستمعون إليه. وفي وسط هذا الصراع الخارجي والتفكك كان هناك مبدأ يربطهم جميعا: ذلك أن الشعر أحيا وعمم المثل الأعلى ألا وهو: (المروءة) ولو أنها كانت تقوم على عصبية الدم القبلية، ونرى أن روابط الدم مقدسة؛ بيد أنها غدت رباطا غير واضح تماما بين القبائل المختلفة. وأوجدت عرضا أو اتفاقا أساس اتحاد قومي في الشعور
ولقد حاولت في الصفحات التالية أن أتعقب أصول الشعر العربي، وأصف طبيعته وعناصره وخصائصه العامة، وأن ألم بأبرز شعراء الجاهلية، ومجاميع شعر هذه الفترة، ثم أنتهي من ذلك إلى عرض الوسيلة التي حفظت بها حتى وصلت إلينا
كان العرب القدماء يعدون الشاعر كما يدل عليه أسمه - ذا صلة بالغيبيات، وساحرا يؤاخي الجن والشياطين ويستمد منهم العون فيما يعرضه من مقدرة رائعة. وتتضح هذه النظرة إلى شخصيته ومكانته التي يتبوأها مما يروى عن شاب أبت حبيبته الزواج به لأنه لم يكن شاعراً أو كاهنا أو عرافا، وارتقت بعد ذلك فكرة الشعر كفن إذ كان الشاعر الوثني في الجاهلية كاهن قبيلته ومرشدها في السلم والحرب، وبطلها في معمعان القتال، تستشيره إذا ما بحثت عن مرعى جديد، ولا تضرب طنبها إلا حسب إشارته. وإذا عثر راودها المجهدون الظامئون على بئر نهلوا من مائها واغتسلوا به، وقادهم إليه رافعين جميعا عقيرتهم بالغناء كما فعل إسرائيل من قبل: (انبثق أيها الماء، ويا هؤلاء غنّوا له)
ولابد أن تكون قد وجدت في العصور الأولى ضروب أخرى من الشعر عدا أغاني الينابيع والحرب والتراتيل الدينية للأصنام - هذه الضروب كالتشبيب والرثاء، كما كانت مواهب الشاعر تستغل أيما استغلال في الهجاء الذي كان في أقدم صورة (يبعث القبيلة على طلب الثأر، ويعد باعثا من بواعث الحرب لا يقل عن الطعن والنزال) كما يعد وعيده للعدو وتهديداته إياه دليل خطب جسيم، أما منظوماته التي لا تقل عن السهام فتكا فكان أثرها أثر اللعنات الصارمة يجريها الوحي على لسان نبي أو كاهن، وكان الشعراء يتناشدون أشعارهم في حلقات خاصة ذات طقوس وأنظمة خاصة، كدهنهم أحد جانبي الرأس، وإسدالهم العباءة، وانتعالهم (خفا) واحدا من الصندل. وقد أبقى الهجاء على شيء من هذه العادات المستهجنة إلى عصر متأخر، حينما تخلى منطق الشاعر الساحر عن مكانته للهجاء والقذع الذي كان يكيل به الشاعر لخصومه السب ويسمهم بميسم العار
وإن الطلائع الأولى المبهمة للشعر العربي (التي غطت عليها حيويته الساحرة المعروفة) لم تترك وراءها أثراً في هيكل الأدب، ولكن المهمة قد تكون سهلة نسبيا حينما نواجه قوماً جدّ محافظين مستمسكين بالقديم كالعرب. وقد يمكن القول بأن أقدم صورة للكلام الشعري في بلاد العرب كانت السجع أو كما ينبغي تسميته (النثر المقفى) وإن وصف مناهضي محمد عليه السلام إياه بأنه شاعر لما جاء به القرآن من صور له حتى بعد معرفة الموازين الشعرية واستنباطها ليظهر لنا أن هذه النظرة كانت لا تزال حتى ذلك الحين قوية ثابتة
وتطور السجع أخيرا - كما سنرى - فأصبح حلية لفظية فقط، والميزة البارزة لكل فن من فنون البلاغة سواء في الخطابة أم في الكتابة، ولكن كان له في الأصل مرمى بعيد يتصل عن قرب بالناحية الدينية، ويختاره الشعراء والكهنة ومن على شاكلتهم ممن كانوا يعتبرون ذوي صلات بالقوى الخفية ليفسروا به للدهماء كل ما يحز بهم من مسائل عويصة لا يدرون لها تأويلاً ولا يعرفون لها حلا. وتفرع من السجع فن آخر يجري على وزن يعد أقدم موازين الشعر العربية ذلك هو الرجز، وهو بحر شاذ العروض والتفاعيل يحتوي في الغالب على تفعيلتين أو ثلاث. ومن أوضح مميزات الرجز التي تظهر صلته القوية بالسجع أن نهايات شطراته تجري على قافية واحدة، مع أنه في معظم البحور لا يحدث التصريع إلا في مطلع القصيدة. وزيادة على ما ذكرنا، نجد ميزة أخرى للرجز، هي أنه على الدوام يكون مرتجلا، فينشد الرجل الأرجوزة عند المفاجآت يفسر بها بعض مشاعر الشخصية أو عواطف أو تجارب، ومثل هذا ما ارتجله دويد بن زيد بن نهد القضاعي وهو يتهيأ للموت:
اليُوْمَ يُبْنَى لِدُوَيد بَيْتُهُ ... لَوْ كَانَ لِلدَّهْرِ بِلًى أَبْلْيَتْهُ
أوْ كانَ قِرْنِي وَاحِداً كفَيتهُ ... يَارُب نَهْبٍ صَالحٍ حَوَيْتهُ
وَرُبَّ عَبْلٍ خَشِنٍ لَوْيْتهُ
ويحسن أن نأتي في هذا المقام على ذكر بعض البحور الهامة في الشعر العربي كالكامل والوافر والطويل والبسيط والخفيف وغيرها. وإيثاراً للاختصار أحيل القارئ إلى البحث الوافي عن هذا الموضوع في مقدمة سير شارلز لييل في كتابه (ص45 - 52). وكل البحور قياسية كما هو الحال في الإغريقية واللاتينية. وقد استنبط قواعد العروض من القصائد القديمة لأول مرة ونظمها ورتبها الخليل بن أحمد اللغوي (791م) الذي يقال إن الفكرة طرأت له حينما شاهد حداداً يضرب بمطرقته على السندان ولابد لنا الآن من أن نبحث في نظام وموضوع هذه الأشعار التي تعد أقدم ما في التراث العربي، فبين هاته النصوص البالغة حد الإتقان والروعة وبين شواهد السجع أو الرجز التافهة بون شاسع ليس من اليسير تحديده. وأول من نعرف من الشعر هؤلاء الذين تلوح في آثارهم إجادتهم لصناعتهم وإبداعهم فيها (وإن عدد الموازين التي يستعملونها وتعقدها وقوانينهم الثابتة عن الكمية، والطريقة المألوفة التي كانوا يستهلون بها قصائدهم بالرغم من الفترة التي بين كل ناظم وآخر، هذه تحتاج إلى دراسة طويلة واندماج تام في تعرف فن التعبير للغة واتساع نطاقها وطلاقتها، وهي دراسة قل أن نجد بين أيدينا اليوم ثبتا يساعدنا عليها)
(يتبع)
محمد حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 190
بتاريخ: 22 - 02 - 1937
وفي خلال هذا الزمن لم يكن هناك سوى أدب منطوق حفظته الرواية الشفهية، ولم يشرع في كتابته إلا بعد ذلك بزمن طويل. أما عصر الجاهلية فيشمل قرنا ونيفا من السنوات، أعني منذ سنة 500 بعد الميلاد حينما نظمت أول قصيدة وصلت إلينا حتى عام هجرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة سنة 622م تلك السنة التي تعد نقطة انتقال ومستهل عهد جديد في التاريخ العربي. وكان أثر هذه المائة والعشرين سنة كبيراً وخالداً، فقد شهدت نشأة تدهور نوع من الشعر اعتبره أغلب المسلمين الناطقين بالضاد مثالا للإبداع لا يتأتى الوصول إليه، فهو شعر قد سار مع حياة القوم جنبا إلى جنب. ووحد بينهم قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم) بزمن طويل من الناحيتين الخلقية والروحية، وقبل أن يؤلف الرسول بين أهوائهم المتشعبة وقبل أن يجعلهم أمة تسعى من أجل غاية مشتركة، وترمي إلى مقصد واحد. في هذه الأيام لم يكن الشعر من الكماليات للأقليات المثقفة بل كان الوسيط المفرد في التعبير الأدبي، وكان لكل قبيلة شعراؤها يعبرون بحرية عمّا يختلج في النفوس ويصورون أفكارهم، وكان كلامهم الشفهي هذا ينطلق في رحاب الصحراء أسرع من انطلاق السهم، ويجد آذانا صاغية وقلوبا واعية عند جميع من يستمعون إليه. وفي وسط هذا الصراع الخارجي والتفكك كان هناك مبدأ يربطهم جميعا: ذلك أن الشعر أحيا وعمم المثل الأعلى ألا وهو: (المروءة) ولو أنها كانت تقوم على عصبية الدم القبلية، ونرى أن روابط الدم مقدسة؛ بيد أنها غدت رباطا غير واضح تماما بين القبائل المختلفة. وأوجدت عرضا أو اتفاقا أساس اتحاد قومي في الشعور
ولقد حاولت في الصفحات التالية أن أتعقب أصول الشعر العربي، وأصف طبيعته وعناصره وخصائصه العامة، وأن ألم بأبرز شعراء الجاهلية، ومجاميع شعر هذه الفترة، ثم أنتهي من ذلك إلى عرض الوسيلة التي حفظت بها حتى وصلت إلينا
كان العرب القدماء يعدون الشاعر كما يدل عليه أسمه - ذا صلة بالغيبيات، وساحرا يؤاخي الجن والشياطين ويستمد منهم العون فيما يعرضه من مقدرة رائعة. وتتضح هذه النظرة إلى شخصيته ومكانته التي يتبوأها مما يروى عن شاب أبت حبيبته الزواج به لأنه لم يكن شاعراً أو كاهنا أو عرافا، وارتقت بعد ذلك فكرة الشعر كفن إذ كان الشاعر الوثني في الجاهلية كاهن قبيلته ومرشدها في السلم والحرب، وبطلها في معمعان القتال، تستشيره إذا ما بحثت عن مرعى جديد، ولا تضرب طنبها إلا حسب إشارته. وإذا عثر راودها المجهدون الظامئون على بئر نهلوا من مائها واغتسلوا به، وقادهم إليه رافعين جميعا عقيرتهم بالغناء كما فعل إسرائيل من قبل: (انبثق أيها الماء، ويا هؤلاء غنّوا له)
ولابد أن تكون قد وجدت في العصور الأولى ضروب أخرى من الشعر عدا أغاني الينابيع والحرب والتراتيل الدينية للأصنام - هذه الضروب كالتشبيب والرثاء، كما كانت مواهب الشاعر تستغل أيما استغلال في الهجاء الذي كان في أقدم صورة (يبعث القبيلة على طلب الثأر، ويعد باعثا من بواعث الحرب لا يقل عن الطعن والنزال) كما يعد وعيده للعدو وتهديداته إياه دليل خطب جسيم، أما منظوماته التي لا تقل عن السهام فتكا فكان أثرها أثر اللعنات الصارمة يجريها الوحي على لسان نبي أو كاهن، وكان الشعراء يتناشدون أشعارهم في حلقات خاصة ذات طقوس وأنظمة خاصة، كدهنهم أحد جانبي الرأس، وإسدالهم العباءة، وانتعالهم (خفا) واحدا من الصندل. وقد أبقى الهجاء على شيء من هذه العادات المستهجنة إلى عصر متأخر، حينما تخلى منطق الشاعر الساحر عن مكانته للهجاء والقذع الذي كان يكيل به الشاعر لخصومه السب ويسمهم بميسم العار
وإن الطلائع الأولى المبهمة للشعر العربي (التي غطت عليها حيويته الساحرة المعروفة) لم تترك وراءها أثراً في هيكل الأدب، ولكن المهمة قد تكون سهلة نسبيا حينما نواجه قوماً جدّ محافظين مستمسكين بالقديم كالعرب. وقد يمكن القول بأن أقدم صورة للكلام الشعري في بلاد العرب كانت السجع أو كما ينبغي تسميته (النثر المقفى) وإن وصف مناهضي محمد عليه السلام إياه بأنه شاعر لما جاء به القرآن من صور له حتى بعد معرفة الموازين الشعرية واستنباطها ليظهر لنا أن هذه النظرة كانت لا تزال حتى ذلك الحين قوية ثابتة
وتطور السجع أخيرا - كما سنرى - فأصبح حلية لفظية فقط، والميزة البارزة لكل فن من فنون البلاغة سواء في الخطابة أم في الكتابة، ولكن كان له في الأصل مرمى بعيد يتصل عن قرب بالناحية الدينية، ويختاره الشعراء والكهنة ومن على شاكلتهم ممن كانوا يعتبرون ذوي صلات بالقوى الخفية ليفسروا به للدهماء كل ما يحز بهم من مسائل عويصة لا يدرون لها تأويلاً ولا يعرفون لها حلا. وتفرع من السجع فن آخر يجري على وزن يعد أقدم موازين الشعر العربية ذلك هو الرجز، وهو بحر شاذ العروض والتفاعيل يحتوي في الغالب على تفعيلتين أو ثلاث. ومن أوضح مميزات الرجز التي تظهر صلته القوية بالسجع أن نهايات شطراته تجري على قافية واحدة، مع أنه في معظم البحور لا يحدث التصريع إلا في مطلع القصيدة. وزيادة على ما ذكرنا، نجد ميزة أخرى للرجز، هي أنه على الدوام يكون مرتجلا، فينشد الرجل الأرجوزة عند المفاجآت يفسر بها بعض مشاعر الشخصية أو عواطف أو تجارب، ومثل هذا ما ارتجله دويد بن زيد بن نهد القضاعي وهو يتهيأ للموت:
اليُوْمَ يُبْنَى لِدُوَيد بَيْتُهُ ... لَوْ كَانَ لِلدَّهْرِ بِلًى أَبْلْيَتْهُ
أوْ كانَ قِرْنِي وَاحِداً كفَيتهُ ... يَارُب نَهْبٍ صَالحٍ حَوَيْتهُ
وَرُبَّ عَبْلٍ خَشِنٍ لَوْيْتهُ
ويحسن أن نأتي في هذا المقام على ذكر بعض البحور الهامة في الشعر العربي كالكامل والوافر والطويل والبسيط والخفيف وغيرها. وإيثاراً للاختصار أحيل القارئ إلى البحث الوافي عن هذا الموضوع في مقدمة سير شارلز لييل في كتابه (ص45 - 52). وكل البحور قياسية كما هو الحال في الإغريقية واللاتينية. وقد استنبط قواعد العروض من القصائد القديمة لأول مرة ونظمها ورتبها الخليل بن أحمد اللغوي (791م) الذي يقال إن الفكرة طرأت له حينما شاهد حداداً يضرب بمطرقته على السندان ولابد لنا الآن من أن نبحث في نظام وموضوع هذه الأشعار التي تعد أقدم ما في التراث العربي، فبين هاته النصوص البالغة حد الإتقان والروعة وبين شواهد السجع أو الرجز التافهة بون شاسع ليس من اليسير تحديده. وأول من نعرف من الشعر هؤلاء الذين تلوح في آثارهم إجادتهم لصناعتهم وإبداعهم فيها (وإن عدد الموازين التي يستعملونها وتعقدها وقوانينهم الثابتة عن الكمية، والطريقة المألوفة التي كانوا يستهلون بها قصائدهم بالرغم من الفترة التي بين كل ناظم وآخر، هذه تحتاج إلى دراسة طويلة واندماج تام في تعرف فن التعبير للغة واتساع نطاقها وطلاقتها، وهي دراسة قل أن نجد بين أيدينا اليوم ثبتا يساعدنا عليها)
(يتبع)
محمد حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 190
بتاريخ: 22 - 02 - 1937