( تلك البهجة ) هي الرواية الثانية في مشروع الشاعر والكاتب محمد الديب الطموح، والذي استهله بروايته البديعة ( عفرة )، ومتتاليته الروائية التي تصدر في أجزاء .. متصلة – منفصلة.
الرواية صدرت عن دار أسرار الأسبوع للثقافة والإعلام 2018م في 186صفحة من القطع المتوسط، وغلاف أربعة ألوان.
واهتم الباحث السيميولوجي بالعنوان، واعتبره النص الموازي، فهو يأتي كومضة مشعة، تحمل في ثناياها رسالة الكاتب التي يريد أن يبثها لقارئه في المتن، من خلال الحوادث المتشابكة، وحركة الشخوص في المكان والزمان، وهو بمثابة النص الأصغر.
والعنوان هو العتبة التي نلج من خلالها إلى النص، ونغوص في أعماقة، والعلاقة بينه وبين النص ضاربة في الجذور، وتتبع هذه العلاقة والكشف عنها، تتطلب جهدا أكبر من القارئ، في تفكيك العمل إلى عناصره الأوليه، وتحليله، ومحاولة فك شفراته وقراءة رموزه.
والعنوان ( تلك البهجة ) مثيرا لانتباه القارئ، وفاتحا لشهيته، ويدعوه إلى التأمل.
ففي معاجم اللغة :
تلك : حرف / أداة، وهي اسم إشارة للمؤنث البعيد، والكاف فيه للخطاب.
والبهجة تعني ضحك أسارير الوجه أو الشعور بالارتياح الشديد، وهي أيضا الفرح والسرور والسعادة.
والقارئ يتمنى أن يصادف في النص تلك البهجة في هذا الزمن النكد والضنين، ويقبض عليها، ويبقيها في داخله، ولكنه يكتشف أنها بعيدة بعيدة.
وآثر الكاتب أن يكون عنوان الرواية ( تلك البهجة ) في الربع الأخير من صفحة الغلاف، فالعناوين تأتي غالبا في صدارة الغلاف، لتقع عيون القراء عليها أول ما تقع، ولكنه جعل عنوانه بعيدا في قاع الغلاف الذي احتلته لوحة غائمة.
ولموقع العنوان المكاني على الغلاف، وللفضاء البصري المتمثل في لوحة الغلاف المبهمة والغائمة، إشارات على غياب تلك البهجة، والكاتب يزاوج بمهارة بين الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، والماضي عنده هو المرجعية الأساسية.
وعلى ظهر الغلاف اجتزأ من النص :
" في البدء كان المطر، يغمر الأرض، بعد جفاء، يخترق شقوقها برخاته المتلاحقة، تدفع به السماء في موجات متواترة كرسل من الغيب، هابطة بماء الحياة للأرض التي تشققت وشاخت، وللزرع الذي آلمه العطش، وللطيور التي ما وسعها بعد الغناء، وللحيوانات التي استحمت وانتعشت جلودها ولانت، فسرت في أوصالها دماء الحياة، واندفعت بحيوية ومالت على بعضها، الكائن الوحيد الذي كان مزاجه يتغير، رغم يقينه أن هطول الأمطار خير، ورحمة من السماء لأهل الأرض .. أنا "
هذه اللوحة الكونية البديعة، تشير إلى :
1-الكاتب يتوسل فنيا في روايته بالشعر ( الكلمة الشاعرة )، وشعرية اللغة عتده كان لها النصيب الأوفر في النص.
2-بطل النص ( أدهم يحيي ) جاء استثناء، وخرج من هذه اللوحة الكونية البديعة ( ... إلا أنا )، وسيرد في المتن الأسباب التي تجعله خارج هذه المنظومة الكونية بتناغمها، وتناسقها، وتناسبها، وجمالها اللافت والمدهش.
3-العلاقة بين السماء والأرض، وعطاءات السماء اللامحدودة واللامتناهية.
ولم يتخل الكاتب عن نظرته السوداوية والمتشائمة في روايته ( تلك البهحة )، والتي كانت أكثر سوداوية وفتامة في روايته ( عفرة ) :
( وجدتني مغيبا والضوء القرمزي من خلف ذؤابات الأشجار ينبثق معلنا عن شمس المغيب التي تبين على هيئة قرص دام. كنت مأخوذا بدم القرص الذي ينز على صفحة الكون بالدمع الساخن. دمع تحجر في مقلتيّ منذ اختفت أمي )
هل نستطيع من خلال هذا العنوان وهذه الاشارات أن نميط اللثام عما يضمره الكاتب محمد الديب، ونكشف عما يستتر خلف لغته الشعرية الوامضة والرامزة وما تبوح به من دلالات، وطرائقه وأساليبه السردية المتنوعة.
........................................
المكان :
قرية ( دويدة ) قرية أدهم يحيي بطل النص، قرية ( أم رماد ) : قرية أمه وأخواله، مدينة الزقازيق : مكان دراسته بالثانوية العسكرية، والمعهد الفني التجاري، والعمل بحي الحسينية وحي العرب وشارع مولد النبي، وحواري القرية وأزقتها والمقابر ومقام سيدي ( أبوعيسى ) والرشاح ..إلخ، والزقازيق بكل معالمها وبحر مويس.
الزمان :
الماضي هو المرجعية الأساسية، وثمة إشارات نتعرف من خلالها على قترة الحكي، وهي النصف الثاني من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأشار تصريحا مرة واحدة ص 97.
وأشار إلى أمل دنقل، وزمن الحكاية قبل موته بأربع سنوات، وإلى المظاهرت والتي تشير دون أن يسمها إلى مقتل سليمان خاطر، ويشير أيضا إلى مجازر البوسنة والهرسك والإبادة العرقية ص 167، وظهور الأحزاب في مصر، والإشارة إلى مقر حزب العمل، وإصداره لجريدة إقليمية، كل هذه الإشارات وغيرها تحدد فترة الحكي، وهي النصف الثاني من منتصف الثنانينيات.
أزمة البطل :
عني الكاتب عناية بالغة ببطله، وأزمته تعود إلى مرحلة الطفولة والصبا، وهي مرحلة تفتح الوعي، وظلت هذه المرحلة تؤرق ( أدهم يحيي )، وتقلق مضجعه، وأحداثها تطارده في صحوه ومنامه، وتكاد تكون هذه المرحلة قد شكلت عقدا نفسية لديه، واتخذ موقفا معاديا من والده الأستاذ مُعلم صبيان القرية، ومن أهل قريته ( دويدة ) الذين صمتوا على سلوكيات وأفعال والده تجاه أمه ( أمينه ) الذي تزوجها والده يحيي من قرية مجاورة ( أم رماد ) بعد قصة حب لم تدم طويلا، ولم يكتف أهل القرية بالصمت، بل رموها بالجنون!.
في روايته الأولى ( عفره ) وهي الجزء المؤسس لهذه المتتالية الروائية .. المتصلة – المنفصلة، يتوقف عند هذه المرحلة، التي أفرزت لنا أدهم يحيي البطل الإشكالي المولود بإحدى قرى شرق الدلتا، والذي يستهلها بنظرة الصبي السوداوية إلى الكون والحياة، ويقدم العدم على الحياة، ويتمناه :
( أحب هذا العدم وأحبك يا أبي )
بداية صادمة للقارئ، لماذا أحب العدم، وربط والده بهذا العدم؟
( لأنك تمكنت بكل جدارة أن تحيل إلى العدم حياتنا، كنت محض صدفة قاسية في حياتي، كنت علامة استفهام، .. )
( مُحال أن تكون لي أبا وأكون ولدك الأكبر، كيف تسير بنا الحياة يا أبي، وبعض مني، موجوع بك، وأنت غير مهتم بي، كيف الوصول إلى حماك وأنت لم تحمني من نفسك )
وتتلاحق الصدمات على الصبي من الأب :
( كنت طفلا في الإعدادية، وكانت أمي " أمينة " قد تركت دارنا مرغمة، كان يحيي أبي قد ربطها إلى السرير وأرسل إلى أخوالي في " أم رماد " .. جاؤوا وحملوها رغم أنفها في عربة ربع نقل، لملم أبي هدومها من السحارة في صُرة .. ولكز أختي أمال فحملتها إليهم وهي تبكي )
ويستعيد الصبي الكثير من حياة الأب، وعلاقته المتوترة به، ونتفاجأ بالأستاذ معلم الصبيان بالقرية :
( لا أذكر يوم أمسكت بكتب السحر التي جلبها يحيي زوجك إلى البيت، وكيف انهال عليك ضربا عندما طوحت بها إلى نار الكانون، قلت لي إنه لحق الكتاب بالكاد، ولم تمس النار سوى غلافه، كأن ألسنة النار تخشى الجان المختبئ بين الصفحات، كأن الجن يرفض الموت بين النار وهو من النار وإلى النار يعود )
فمعلم الصبيان بالقرية هو من جاء بكتب السحر، وهو من أدخل الجن إلى هذا البيت ليحيل حياة هذه الأسرة إلى جحيم :
( هو من أدخلهم إلى الدار يا بني.
لكن مسّك أنت يا أمي .. لا هو.
سكن جسدك أنت لا هو، واختبا في عيونك الجميلة .. لا هو، هل لأنك في يوم ما أحببت الخلاص منه وتحويله إلى رماد في " الكانون " . أم لأنك كنت فعلا تخشين سيرتهم، من احضرهم إلى دارنا سواه يا أمي من؟! . من فرق شملنا، وجعله يربطك إلى السرير، ويعلن لأخوالي أنه يخاف منك، ومن سواه يا سيدة البلدة وسيدة كل الناس يا أمي )
هل كتب السحر التي أدخلها مُعلم الصبيان إلى الدار هي السبب، أم أن هناك أسباب أخرى؟
يمد الصبي أدهم يحيي جسور التواصل مع القط الأسود الذي كان يرافق أمه، وأصبح القط الأسود لا يفارقه، ويدور بينهما حوارات ومكاشفات :
( كيف اختفت أمي. ومن في الأساس وراء خروجها من البيت، وشقيقة جدتي وهي خالة أبي، سمعت أنها – طوال عمرها – ومنذ تزوج أبي بأمي وباتت ابنتها " أنصاف " عانسا وهي تلاحق ابن أختها بالعملات. والغريب في الأمر أن جدتي لأبي. توافق على ذلك الأمر. بل تحضر لها من أثر أبي وأثر زوجته ما ييسر لها أمر التفريق )
ويذكر من حياة أمه :
( قل لي أيها القط الأسود. تكلم ولا تخشى شيئا. فأنا أفهمك وأنت رفيقي. كما كنت رفيقا لأمي، كنت أستدل على مكانها منك. حين كانت تهرب إلى المقابر أو الخرابات أو الأماكن المهجورة. كانت تبكي، خائفة من مجهول لا أعرفه. تبكي وتضمني بحضنها وتسقط في البكاء. كمن سقطت في بئر عميق، ثم أجدها توقفت فجأة ورمت بي بكل عنف على الأرض، وكأنها تذكرت شيئا كانت قد نسيته. وهاهي سوف تشير لي عليه. حتى أتقيه. ومع ذلك كنت أخشى أن يقول عنها أحد من أهل " دويدة " مجنونة )
لدي الصبي أدهم يحيي يقين لا يتزعزع بأن السحر الذي أعملته خالة والده يحيي بمباركة جدته للتفريق بين والده ووالدته، ليتزوج من ابنتها " أنصاف " التي فاتها قطار الزواج، هو السبب الرئيس، وأيضا والده الذي أحضر كتب السحر بالدار، ولا ندري ماذا كان يفعل بها؟.
وما كادت تذهب أمه عند أهلها، مطرودة حتى عقد مُعلم الصبيان قرانه على ابنة خالته، وجاء بها لتعيش في الدار، فهل السحر هو الذي بدل أحوال والده، واصاب أمه؟!.
( أنا منذ أن تزوجت أبيك وهو كل وقت على حال. أحيانا يكون زوجي وحبيبي وأستاذي. أرتمي في الليل بين أحضانه وأنتم حولي )
وتصبح الدار بدون أمه جحيما لا يُطاق، وطيف أمه يطارده، وصورتها لا تفارقه، فيناديها :
( أنا هنا يا أماه، أنا ابنك .. فلذة كبدك. وأول ما طالعت عيناك بعد الآم الوضع. أنا قطعة منك يا أمينة. كيف ذهبت وتركتني وتركت عبده أخي الصغير وتركت ابنتك آمال ودلوعتك الوحيدة.
-صباح الخير يا أم.
-صباح الخير يا ولدي.
-أريد بيضا في إفطاري.
-حاضر يا ضنايا. )
ويشكو لها حاله :
( أنا يا أماه من غيرك مسكين، مُكبل الخطوات، مقطوع الأمل، من غيرك لا شيء، في هذه البلدة التي تحاول النيل من سيرتك، وترميك تارة بالمس وأخرى بالجنون )
وكلما ضاق به الحال، ولا يجد من يبثه شجونه، وهمومه، يذهب إلى مقام سيدي ( أبو عيسى ) :
( ألست أنت يا سيدي من تحمي المنكسرين أمثالي، أليس أبي هذا ظالما. ألم يضربني على كل شاردة وواردة دون خطأ مني يستحق العقاب. ألست ولده الكبير الذي يساعده في أعمال الغيط. وأذهب وحدي عندما يكون في وظيقته مُعلما لعيال البلدة. والدي المعلم الأستاذ بضربني. يجلدني. ويعلقني في الفلقة. وأنت تعلم بذلك يا سيدي " ابو عيسى " ولا ترده عني، لماذا يا بركة. أين بركتك ؟ ..)
وبعد زواج يحيي بأسابيع، يسافر مُعارا، للعمل كمعلم للأطفال في سلطنة عُمان، وتزداد معاناة الصبي أدهم من معاملة زوجة الأب، ومن ضيق الجدة به، وبلغ كرهه مداه لأبيه ولزوجة أبيه ولكل أهل القرية الذين رموا أمه بالمس تارة وبالجنون تارة أخرى، ولصمتهم على طرد والده لها.
( أقسمت أن أنتقم منك يا قريتي الملعونة، أقسمت ألا تمر عليك الليالي إلا سوداء حالكة، وسوف يكون انتقامي عظيما مثل غضبي ).
هذا بإيجاز أزمة البطل الإشكالي كما جاءت في الجزء الأول من المتتالية ( عفرة ).
................................
الكاتب ينتصر في مشهد الحريق الذي شب في القرية للفن، ولجأ إلى حيل وأساليب فنية عجائبية وغرائبية، أقل ما توصف أنها واقعية سحرية نابعة من تراث وموروث شعبنا الضارب بجذوره في القرية المصرية، هل أشفى الحريق غليل الصبي أدهم يحيي؟ هل هو من وراء هذا الحريق العجائبي الذي التهم بيوت القرية؟
هل يكون العقاب من جنس العمل؟.
( من أيقظ المارد من غفوته؟.
من أبرم الاتفاق سواي؟.
من ردد بنار الغل وراءه سواي؟.
من قرأ الطلاسم. بأناة منتظرا انبعاث غيلان الجن الأحمر .. من معاقلها غيري : أين الملك الذي حمل عني غضبي وترجمه بهذا الشكل المرعب. )
والنيران بدأت بمعاقبة الجيران، الذين صمتوا على سلوك مُعلم الصبيان مع زوجته، ولم يراجعه أحد، وأخذت تخف شيئا فشيئا ولم تمس الجيران الأبعد مكانا، ولكنها طارت إلى قرية " أم رماد " لتلتهم بيت جده، وخاصة خاله سند الذي تخلص من أخته والدة أدهم!!.
وهذه الحرائق لم تخلف وراءها ضحايا من البشر، حرائق نظيفة.
( تشتعل فجأة وتتوقف فجأة، كمن يضغط زرا كهربيا، فيمنحها الضوء أو العتامة، الاشتعال أو الخمود )
هذه الحرائق لا تحرق أحدا، تُعاقب فقط.
هل هي من أفاعيل الصبي أدهم مع الجن؟.
( كانت طلمبات الماء، تُخرج ماء عكرا، ساخنا، بلون الدماء التي سالت من رقبة أمي )
( أعلم أنني رددت وراءه سفر الدمار، طلاسم الإبادة، لكن ما كان يريح نفسي أن النيران لا تحرق، لا تأكل ما يقابلها، كأنها فيلم مجنون لمخرج عبقري فوق العادة )
هل بردت نار أدهم يحيي وهو يرى حالة الخوف والفزع والرعب التي أصابتهم، وكأن ألسنة النار شبت في هشيم أرواحهم، ولا يستطيعون أن يمارسوا حياتهم.
( ..، وبرغم ما ينطق به عقلي، بانني حققت انتقامي وثأري من خنوعهم وسكوتهم على بطش أبي بأمي أمام أعينهم، ولم يتمكن أحد أو يشغل باله بمراجعة المُعلم الفاضل زوجها فيما يفعل، هم أهله وعشيرته، كانت الكلمات التي تؤجج روحي بالحقد عليهم، تتساقط مع ارتفاع ألسنة النار )
وانزوت رغبة أدهم في الانتقام بعدما رأى وشاهد كل ألوان الخوف الذي لحق بالأطفال، انزوت رغبته في الانتقام مع صراخ السيدات، مع تنصل أهل القرية من ذنوبهم، مع إعلانهم التوبة والاستغفار.
انزوت رغبته في الانتقام عندما تيقن أن الله أنقذه من القتل على يد أهل القرية، الذين أخبرهم العراف بأن من وراء الحرائق ستجدونه عند المقابر، وكان قد ذهب إلى خُص العم عفره بجوار المقابر، ولكن العناية الإلهية أرسلت إليه صديقه حسين، وما كاد يبتعد به عن المقابر بضعة أمتار، حتى وجدا القرية عن بكرة أبيها، خرجت للفتك بهذا المجرم، ومن المصادفات العجيبة أن بهلول عزبة مجاورة كان في طريقه إلى عزبة أخرى، فمال ناحية المقابر ليفك ماؤه الذي في الحبس، فينهالوا عليه ركلا ولكما، وكاد أن يموت بين آياديهم لولا أن تعرف عليه على ضوء الكلوبات أحد عجائز القرية فكف أيديهم عنه.
وجاء له زميل دراسته وصديقه زين يطلب منه الكتاب :
( كنت أعلم أنه كتاب الطلاسم، الكتاب هو سبب البلاء الذي لحق بدويده )
( مؤكد أن الشيخ زين خائف من والده، لو علم بأمر تمرير الكتاب لي )
وبحثا عن الكتاب بالغرفة، فكان أدهم يحتفظ به ضمن كتبه الدراسية، تحت السرير الحديدي، سرير أمه، ولكن الكتاب اختفى، فقد استعاده والد زين بطريقة أو باخرى، وقد لقن الأستاذ لبيب ولده زين الذي سرب الكتاب لأدهم درسا مهما :
( الكتب الخطيرة يمكن أن تضر بالأطفال )
وأوضح له أكثر :
( لو تركت علبة كبريت لأحد العيال الأشقياء، من الممكن أن يعبث به ويحرق أصابعه أو بيته أو بيوت جيرانه )
ودفن الأستاذ لبيب الكتاب بالحائط، وأرسل بهدية لأدهم، جلباب أبيض وطاقية، وطلب منه الاغتسال والمواظبة على الصلاة.
( صرت ملاكا هابطا إلى الأرض )
( هل يأخذ بيدي لأحد أبواب الجنة )
( واظبت على أداء جميع الفروض حتى صلاة الفجر في المسجد، كانت روحي تفرفط خطاياها أثناء الوضوء والنوافل، وفي الإطالة عند السجود، بل تماديت، وصرت أستمع للدرس بعد المغرب والعشاء، أخذ البكاء يتسرب إلى روحي قبل عيني، دموعي قريبة، تغسل قلبا مكلوما، حزينا، تحجرت فيه مياه الرحمة، منذ فترة طويلة )
....................................
البطل المطارد :
عاني أدهم يحيي في قريته، وقاسى الأمرين من زرجة والده، فعندما حصل على الإعدادية، عارضت بشدة دراسته بالثانوي العام، وأرادت له بأن يلتحق بأي مدرسة فنية متوسطة، ولكنه أصرّ على تحقيق حلمه بالالتحاق بالمدرسة الثانوية العسكرية، المدرسة الأشهر بالزفازيق، ولكنه يصر على الالتحاق بالمدرسة الحلم، ومواصلة الدراسة في التعليم العام، ولم تكتف زوجة الأب بمحاولة عرقلته عن مسيرته التعليمية، ولكنها قبضت اليد عنه، وزعمت بأن والده لم يرسل له أية أموال، ولما كان يهوى منذ صغره صيد السمك من الرشاح، عاد لممارسة هذه الهواية، وأخذ يبيع السمك الذي يصطاده، ليوفر بالكاد مصروفات الدراسة، وثمن الكتب والكراسات والأقلام، والمواصلات اليومية من ( دويدة ) إلى الزقازيق وبالعكس.
وبلغ الأمر بزوجة الأب أن استعانت بأخويها، لضربه ضربا مبرحا، ولم يجد أمامه بُد إلا تقديم شكواه في قسم الشرطة، ولم يقف بجانبه غير عمه السيد، وضاقت به الحياة في القرية، وبرحها غير آسف وغير نادم على تركها، واستأخر غرفة فقيرة فوق السطوح بحي كفر العرب، وعاش فيها بلا فرش ولا متاع تقريبا، وهو لم يزل شابا بالصف الأول الثانوي.
وأخذ يدبر حاله، بأن طلب من الشاب حسام بأن يعلمه تصليح وملء الولاعات، فهو يريد أن يعتمد على نفسه بعد أن طردته زوجة أبيه والقرية كلها، وتعاطف معه الشاب حسام، وذهب معه إلى السوق واشترى له مكتبة قديمة، وذهبا بها إلى نجار، ليصنع منها فاترينه، ويقوم حسام بدهانها له بنفسه باللون الأخضر، واشترى له العدة والأدوات اللازمة للشغل، وفرش أمام مسجد بحي الحسينية، وما كاد يهنأ بالاستقرار، وجريان الفلوس في يده، حتى سُرقت الفاترينا بمعرفة مسئولي المسجد، ظنا منهم أنه عين للامن، وبعد تقصي واستقصاء اطمأنوا له، وأعادوا الفاترينا، وهو الملتحي الذي يواظب على الصلوات في أوقاتها معهم، وينصحه أحد الملتحين، بسرعة حلق لحيته، والهروب فورا، فوقع في قلبه، وكاد ينتهي من حلق ذقنه في حمام المسجد، وخرج حتى فوجئ بحملة اعتقالات واسعة نجا منها بأعجوبة، وحاول صديقه زين بأن يقنع رواد المسجد بأن صديقه أدهم برئ ولا ذنب له، ولكنهم أصروا على أنه خائن وعميل للأمن، وعقوبة الخائن ....
والمطاردة هذه المرة من تلك الجماعة الدينية.
ويعاود الكرة مع حسام وعمل قاترينا أخرى، ويفرش بها في حي العرب، وكان قد تعلم من حسام هذه المرة تصليح الساعات، والساعات بدأت تروج في ذلك الوقت بفضل المدينة الحرة ( بور سعيد ) وهي إشارة إلى الانفتاح الاقتصادي، وقد بدأت تظهر آثاره على المجتمع المصري.
وينتقل بالفاترينا إلى شارع مولد النبي بناء على نصيحة صاحب أشهر محل لبيع الكرات الأديدس والملابس الرياضية الذي أصلح له ساعته الثمينة بسرعة وبمهارة، فنصحه بأن يفرش بجوار محله بالشارع الأكثر حركة والأكثر رزقا، وكانت فاتحة الخير على أدهم.
وأدهم المطرود من رحمة زوجة الأب ومن القرية كلها ومن الجماعة الدينية التي تتهمه بالخيانة وبأنه عميل للأمن، كان قد حصل على الثانوية العامة بالكاد، والتحق بالمعهد التجاري بالزقازيق، وهذا النجاح يُعد انجازا كبيرا، فهو لم يذهب إلى المدرسة إلا يوما واحدا، وهو يوم ملء استمارة التقدم لامتحان آخر العام، ولم يأخذ أي درسا خاصا، ولم يشتري كتبا خارجية أو ملخصات، وتدبير نفقات حياته بالعمل على الفاترينة أخذ النصيب الأوفر من الوقت، ولم يبق للمذاكرة والدرس والتحصيل إلا الوقت القليل، فهو مطارد أيضا بلقمة العيش، وما أقسى مطاردة لقمة العيش!.
ووقع أدهم وهو في السنة الأولى بالمعهد في الحب، الحب الذي كان يستنكره على صديقه حسين وبعض الزملاء يصيب سهامه قلبه، حب صوره له خياله، واندفع وراءه بكل قوة، فقد أحب ( وردة ) زميلته بالمعهد حُبا ملك عليه كل جوارحه، آسر عقله واستعمر قلبه، وهام بها عشقا وهياما، وأصبح مُطاردا بحبها، والغيرة بدأت تنهش قلبه، وحاول الانتحار، وفشل في استعادتها، ووردة مسكونة بحكاية مؤلمة، فهي تشك شكا قارب اليقين في تآمر أمها مع عمها لقتل والدها المريض مرضا مزمنا وطويلا، ليخلو لهما الجو، وبعد موت والدها سرعان ما عقد عمها قرانه على أمها، وعمها لا يفتأ يضربها بمناسبة ومن غير مناسة، ويهددها باستمرار من حرمانها بمواصلة تعليمها في المعهد، ولولا تدخلات أمها وتوسلاتها له، ما كانت قد أكملت دراستها، وقد عاش مع وردة قصة حب عنيفة، شهدت بها شوارع الزقازيق والتسكع فيها ومحلات الكشري وأفنية وحدائق وقاعات المعهد، ولكن غيرته وتطلعات وردة أجهضت هذا الحب، فوردة التي التحقت وهي طالبة بالمعهد للعمل بصحيفة إقليمية يصدرها حزب العمل، وتنشر بها موضوعات عن المرأة والموضة، وتتيه فخرا وإعجابا باسمها الذي يلي عناوين موضوعاتها بخط بارز، وتحلم بالانتقال إلى عالم الأضواء والشهرة، فهي متمردة على واقعها، ومتطلعة إلى حياة أفضل، وتجاوز هذا الواقع الردي ومعانقة النجوم، واتسعت الهوة بين الحبيبين، وغادرته ورده إلى عالمها الموشى بالأضواء والشهرة، وتركته هائما على وجهه، يناجيها، ويعتذر عن الخطاب الذي أرسله لها يحذرها فيه من وعورة وخطورة الطريق الذي تمشي فية، ومن رئيس التحرير الذي يرى أنها قد تعلقت به، وقد اجتذبها إليه بالكلية بشعارات وكلمات براقة، ويمنيها بمستقبل مشرق، وأخذ يشك بان ثمة علاقة بينهما، ( أعلنت لها عن غضبي في اندفاعها نحوه وقلت : إنه كاذب. أفاق. يسرح بها. كل وعوده في الهواء وأن هذا الطريق ينتهي غالبا بالكوارث ) وكانت نهاية تجربة الحب الأول العنيفة والمؤلمة والتي كادت أن تودي بحياته بمحاولته الانتحار.
....................................................
وحسب الرواية – أي رواية – أن تلفت الانتباه وتثير الأسئلة، ورواية الديب تلفت الانتباه إلى جملة من القضايا، وتثير العديد من الأسئلة، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :
1-خطورة العقاب البدني وآثاره السيئة على النشء نفسيا، وهي ظاهرة انتشرت في الكتاتيب والمدارس المصرية، وبدلا من أن يتعلم الأولاد فروا من التعليم وهربوا من المدارس، وانتشرت الأمية، وازداد الجهل بدلا من محاربته، وقدم لنا والده نموذحا لهذا المُعلم، وكل معلمي مدرسته في ذاك الزمن، وكيف كانوا يتفنون في معاقبة الأولاد وإيلامهم بدنيا ونفسيا.
2-لفت الانتباه إلى نموذج آخر بمدرسته الثانوية، وهو نموذج رائع، المدرس الذي يسأل كل تلميذ عن حلمه، وماذا فعل من أجل تحقيق هذا الحلم، وكيف كان يدرس لهم مدرس التاريخ مادة التاريخ بعيدا عن القولبة، والمنهج، وكيف بدأ تعريفهم بجغرافية وتاريخ محافظتهم العريقة، واندهش من خلو أحلام تلاميذه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وراح يبين لهم أهمية هذه الكلية، وهي إشارة ذكية ولها دلالتها، فلماذا يعزف أولادنا عن ممارسة السياسة؟!.
3-إذا كان قد اعتقد أسلافنا أن الصديق الوفي من المستحيلات الثلاثة، فالكاتب قدم لنا أنموذجا للصديق الوفي، مُمثلا في زين لبيب زميل دراسة أدهم يحيي، وصديقه، والذي يمثل الجانب النوراني الشفاف، وشخصية زين جديرة بالبحث والاستقصاء ودراستها، وتقديمها لأولادنا ليعرفوا من خلال هذا النموذج الحي معنى وقيمة الصداقة الحقيقية.
4 –حلم السفر الذي تمكن من الشباب، بعد أن ضاقت فرص العمل أمامهم وأصبحت مثل ثقب الإبرة، وزادت أعداد المتعطلين، فحسين محمد الزغبي صديقه الذي يكبره ببضع سنوات والحاصل على دبلوم التجارة والذي وقع في حب البنت زينات، ويحلم بالزواج منها، وتعلم حرفة الدهانات، وكل أحلامه مؤجلة ومعقودة على السفر، ويرفض والده سفره، ولكنه يسافر مؤخرا إلى الأردن، ويسافر عمه السيد أيضا إلى العراق، وسافر والده أيضا مُعارا إلى سلطنة عمان ويسافر معظم شباب القرية، ويشير إلى التحولات والتغيرات التي حدثت للقرية بسبب دخول الكهرباء إليها، وسفر الشباب إلى الخارج، وزيادة أعداد المتعلمين من أبنائها.
5 –يوازن بوعي بين أبناء القرية وأبناء المدينة، ويرصد سلوكيات كل منهم، ونظرتهم إلى الحياة وتعاملهم معها، وقدم لنا حسام الذي وقف إلى جانبه وعلمه تصليح الولاعات والساعات، ويعترف بأنه استفاد من حسام وتعلم منه الكثير، وأول درس لقنه له حسام عندما رأى عجبه واندهاشه من تحويل مكتبة خشبية قديمة متهالكة إلى فاترينا جديدة ومبهجة :
( كل شيء في هذه الحياة صالحا للاستخدام، بشرط واحد أن تمتلك المخيلة التي تمكنك من عمل تصور له في وضعيته الجديدة، يمكننا أن نعيد تشغيل معظم هذه الأشياء " الخردة " في أغراض غير الأغراض التي صُنعت من أجله )
6 –يبين كيف يتعامل رجال الأمن مع الخارجين على القانون، وتوظيفهم لصالحهم، وتجنيد تجار الكيف، والبلطجية، وبائعوا الفول، وبائعو الخبز وغيرهم ( وحي العرب يعج بهؤلاء )، ويصف القادمون من الأحراش بالبلاستيك والصفيح وكل المخلفات، وكيف يستثمرون هذه المخلفات، وفرزها وإعادة تدويرها، ومكاسبها الخيالية.
7 – يلفت النظر إلى من أدركتهم الشيخوخة، وبلغوا من الكبر عتيا، ويشير إلى الرجل المًسن، والذي يعاني الوحدة والإهمال من الزوجة، والمعاملة السيئة منها، بعد أن أصبح لانفع منه، وتنتقل بالتبعية هذه المعاملة السيئة من الأم إلى بناتها، اللاتي يعاملن والدهن بقسوة وجفاء ( حالة محمد الزغبي والد حسين صديق أدهم يحيي نموذجا، ويتعاطف معه أدهم، ويقرر أن يعيره أذنه ليفضفض له عن همومه وشكواه من زوجته وبناته، ويأتي له وهو الذي سقطت أسنانه منذ سنوات بالملبن الذي يحبه )
8 – سيطرة الأباء وتحكمهم في مستقبل أولادهم، فالأب لا يعنيه غير السيرة، وماذا سيقال عنه بعد موته، ولذا يحاولون أن يشكلوا أولادهم بناء على ما يتنموا أن يُقال عنهم بعد موتهم، فالسيرة هي الأهم، وأهم من الحياة نفسها، ومن ثم يتم محاولة تشكيل الأولاد وفقا لأهوائهم متجاهلين رغبات وقدرات وامكانات ومواهب وأحلام أولادهم، وهذا النموذج وصم الكاتب به معظم اهل القرية ومنهم معلم الصبيان الأستاذ يحيي والد أدهم.
9–انتقاد الصحافة الحزبية الإقليمية :
( أمثال هذه الجرائد غير مشغولة إلا بالفضائح والرياضة والتطبيل للمرشحين ورجال الأعمال، الثقافة في الركن القصي من الجريدة. على الهامش. جرائد لا تفكر إلا في الإعلانات وما تحققه من مكاسب حتى توفر ثمن العدد الجديد )ز
10 – صوت الشاعر :
عرفت الحياة الثقافية والأدبية محمد الديب ناشطا ثقافيا، وشاعرا، وصدر له ديوان ( مزاليج الصمت )، وبطل نصه أدهم يحيي مثقفا وشاعرا أيضا، فمنذ أن كان طالبا بالمدرسة الثانوية العسكرية، وهو يمثل المدرسة في الشعر والإلقاء، وذاع صيته كشاعر بين زملائه ومدرسيه، وكما هو بدأ حياته المعيشية عصاميا، بدأ حياته الثقافية عصاميا أيضا، وبتتبع روافد ثقافته، نجده بدأها منذ صغره بالراديو، وكان الراديو في ذلك الزمان أداة ثقافية مهمة، ويصطحبه معه وهو يصطاد السمك من الرشاح :
( مع هطول الرياح الباردة، أستخرج الراديو الترانزستور، وأضبط موجته على الشرق الأوسط، ليبعث جوا من المرح والألحان والغناء من حوالينا )
ومن خلال الراديو أيضا ومن خلال برنامج ( لقاء الأحبة ) تعرف من خلال المراسة على أصدقاء كُثرمن داخل مصر وخارجها، ومنهم ( وردة ) حبه الأول، وأنشأ نادي للمراسلة وجعل له شعارا، وله رؤية ورسالة، وافتتح صندوقا للبريد ليتلقى الرسائل التي ترده من أصقاع وأرجاء شتى من وطننا العربي الكبير.
تعرف على العربي الذي يقاربه في العمر، عن طريق زميله وصديقه ياسر بالثانوية العسكرية والذي يقرض الشعر هو الآخر، وكان العربي على صغر سنه قد اصدر ديوانا على نفقته على طريقة الماستر، ويوزعه عن طريق باعة الصحف بالزقازيق، وقد أعجبته الفكرة، وراح يفكر في إصدار ديوان له، ففي زعمه أنه أشعر من العربي الذي انتفخت أوداجه بعد صدور ديوانه وتطاوس عليه، وفكر أيضا في إصدار مجلة نادي المراسلة الدولي الذي أسسه.
وبدأ في تكوين مكتبة خاصة به، واقتنى العديد من دواوين الشعر، ودعاه العربي لحضور ندوات قصر الثقافة، وحضر مرة واحدة، ولم يكررها، وكانه أدرك رغم حداثة سنة أمراض الثقافة والمثقفين :
( كنت أشعر باعتزال هؤلاء المتشدقين بالكلمات الرنانة. في قصر الثقافة. من خلال المرة الوحيدة في بدء علاقتي مع العربي، حين لبيت الدعوة بحضور الندوة الأدبية الأسبوعية بالقصر، .. )
ومن الطبيعي أن لا يرضى عن هؤلاء الذين يكتبون من أبراج عاجية، وهو المغموس منذ صغره في مكابدة الحياة.
وللثقافة حضورها الطاغي في الرواية.
وقد ضبطه العربي في بداياته، متلبسا بروح أمل دنقل، والشاعر أدهم يحيي لا ينكر هوسه بأمل دنقل، فهو الشاعر الصعلوك مثله، ويروح يقارب حياته البائسة بحياة الشاعر البائس أمل دنقل، ويكاد يتوحد معه :
( كان أمل دنقل يخرج من عتامة الموت، ساحبا يدي، كي يرافقني. كنا نلعن معا المرض، والفقر وأصحاب الكروش والعروش، والسائرون في غفلة، وهم على زجاج مبشور. حُفاة الأقدام، بقلوب مُدماه من غلاء أسعار المحلات الكبيرة ).
والشاعر الحقيقي هو المعبر عن صوت الجماعة، وهو لسان حال شعبه، يعبر عن همومهم وأحزانهم، أفراحهم وتطلعاتهم وانكساراتهم، ولذا نراه سار على درب أمل دنقل المتمرد على النظام الذي اتخذ قرار الانفتاح وعقد الصلح مع العدو.
11 – إشارات سياسية :
لا تخلو الرواية من إشارات سياسية تشير إلى زمن الرواية، والفترة التي يتحدث عنها الكاتب والتي أفرزت لنا ( أدهم يحيي )، ولأن أدهم يحيي ابن محافظة عريقة ورائدة، قدمت على مدى تاريخها للوطن والأمة الكثير والكثير، وحسب الكاتب أن يشير ولو من بعيد إلى مواطنين بسطاء، ولكنهم يحملون العزة والكبرياء أمثال : سليمان خاطر أو أيمن حسن أو محمد المصري أو عبدالعاطي أو .. أو ..
فالدبابير التي تزن في أذن أدهم وتزعج أبناء المحافظة، وتتحول إلى طائرات تحمل النجمة السداسية، وتحلق في سماء الشرقية، وفوق ميدان المحافظة، وتخرج الناس زرافات وجماعات، تنسرب من كل شارع وحارة وزقاق، ويتجمهرون أمام المحافطة، يقولون :
( جنديا مصريا أطلق رصاصاته ضد ثلة من المتسللين قوق الأسلاك للاستمتاع ببحر ليس لهم الحق فيه، ولا السير على رماله ولا استنشاق ملوحته )
( بانت وسط الميدان النجمات السداسية – كما برزت سيارات الأمن المركزي )
( القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين ومتابعتهم في عمليات الكر والفر، واعتقالات واسعة لبث الرعب في قلوب لا تعرف التراجع أو الخوف، قلوب أعلنت بكل جسارة. موجهة أصابع الاتهام لمن أحنوا رؤوسهم وشنقوا جنديا قال لا في وجه من قالوا نعم. ليعيش – بعد ذلك في ضمائرهم كتيمة ورمز )
إنها فترة الانبطاح والاستسلام، في ظل هذا المناخ العام فهل تتحقق البهجة؟ وهل هي قريبة من المصرييين أم بعيدة عنهم؟
12 – الأولياء والبهاليل والدراويش والشحاذون.
أدهم يحيي منذ صغره وفي قريته، وكلما حزبه أمر، يمضي إلى مقام سيدي ( أبو عيسى ) أو يذهب للعم ( عفره ) في خصه عند المقابر، ليبثه شجونه وأحزانه، والكاتب محمد الديب اهتم بهؤلاء اهتماما بالغا، وجعل عنوان روايته الأولى باسم العم ( عفرة )، وادهم يحيي في المدينة حاول الانتماء إلى جماعة دينية بحي الحسينية، ولكنه صار مطاردا منهم، بعد أن رموه بالعمالة والخيانة، وقد أغراه صديقه الشفاف النوراني زين بالانضمام إلى جماعة ( التبليغ والدعوة )، وراح يدعو الناس بإخلاص إلى الصلاة :
( وطرقت الباب يوما. فلم يجبني أحد. ولما ألححت في السؤال خرج رجل وتفل في وجهي. قلت له : يا أخي إنما أدعوك للصلاة. أجابني ووجهه يتميز غيظا ك يا سيدي أنا مسيحي .. مسيحي فهمت .. ورد الباب بعنف )
كان الشيخ زين يبارك خطواتي تجاه الله، ( باركت جهودهم نحو الفقراء. وجمع الصدقات والأخذ بأيديهم )
( لا تقلق جماعة التبليغ والدعوة، لا غبار عليها. يعلم الأمن أنهم لاناقة لهم ولا جمل في أمور السياسة والحكم. ويعلم أنها مجرد جماعة توعوية فقط )
( حاملا على ظهري شنطة بها جلبابان أبيضان، وشال أبيض وطاقيتان ومسبحة وسواك، ومصحف وتفسير الجلالين .. والأحاديث النبوية )
( قال كبيرهم لي. في الغد أنت خطيب الجمعة، أنت إمامنا يا شيخ. فمسدت لحيتي ودعوت الله أن يوفقها )
يكتب محمد الديب عما يعرف، وقدم بعض الجماغات الدينية تقديما واعيا وأمينا، وكاشفا عن بعض أسرار تلك الحماعات، ولكن هل تناول كل هذه الجماعات المنتشرة في مصرنا الحبيبة، إنه تناول في هذه الرواية بعضها، وقد يتناول لاحقا جماعات أخرى في روايات قادمة في هذه المتتالية الروائية.
وقد تناول قصة عائشة المنتقبة وزواجها من أدهم، وأماط اللثام عن أحوال بعض المنتقبات، ووضع المرأة، والنظرة إليها، والغش والخداع واستغلال الدين وممارسة الدعارة في أقذر معانيها، قصة مؤلمة ومحزنة.
وتناول قصة الشحاذ الذي يظهر له فجأة ويختفي فجأة، وعندما طلب الشحاذ منه النقود أعطاه، وألقاها في فتحة جلبابه، وألح في الطلب مرة أخرى، فأعطاه الفكة، فألقاها بسرعة في فتحة جلبابه، وعاود الطلب مرة ثالثة، فما كان من أدهم إلا صفعه على وجهه، ليختفي الشحاذ، ويكاد ذراع أدهم أن يتوقف، وظل يؤلمه، واستنكر الشيخ زين صفعه له، وقال بان الأموال التي ياخذها هذا الشحاذ، يوصلها في التو واللحظة لمن يستحقها! وهذا ما أحزن أدهم وراح يبحث عنه ليسترضية، وأصبح لديه قناعة بأن الألم الذي بيده بسبب صفعه لهذا الشحاذ الولي، وبينما يسير مع ورده حبيبته التي عزمت نفسها على طبق كشري على حسابه، وقع في قلبه، فليس في حافظة نقوده مليما، فكيف سيتصرف في هذه الورطة؟! .. يتفاجأ بهذا الشحاذ يخرج له فجأة، وكأنه انشق من باطن الأرض، فيعاجله أدهم ويمد له يده ويقول له هات، فيخرج من فتحة جلبابه رزمة مالية، فيتناولها أدهم بفرحة، ويلقي بها في جيبة، ويقول له ثانية : هات، فيباغته الشحاذ بلكمة في وجهه، أدارته بزاوية مقدارها 360 درجة، ويختفي فجأة، ولغافة النفود كانت بالكاد تكفي طبقي الكشري والحلو، والغريب أن ذراع أدهم الذي كان يؤلمه قد برأ تماما.
أجاد الكاتب التعامل مع هذه الفئة، ورصد بعض أحوالهم.
................................................
ملاحظات فليلة :
1 – تدخل الكاتب أحيانا، وارتداء ثوب الواعظ الحكيم، فمن غير المعقول أن أدهم الذي لم يزل صبيا بالصف الأول الإعدادي، ولم يجرب الحب بعد، يقول لحسين الذي أصاب سهام الحب قلبه ك
( الإحساس المبالغ فيه بالذات في تلك المرحلة اسلوب متبع بين المراهقين، حيث يرى كل واحد بعين خياله أنه الأفضل. لدرجة أن البعض يسيطر خياله على وعيه. فيعتمد تجارب من هم أكبر منه. إنها إنجازه الخاص )
2 –كثرة استخدام ضمير الأنا، وهو الضمير الأنسب دون شك للفضفضة والبوح، أسرف الكاتب في استخدامه، وخاصة في قصة أدهم مع وردة، وقدم صفحات مطولة، كلها بوح وحنين وشكوى، وهي تكرارات لنفس المشاعر والأحاسيس، ويمكن حذف ثلاثة أرباعها، فهي لا تقدم ولا تضيف جديدا، بل تؤثر على دينامكية السرد وتعرقل سريانه، فكانت هذه الصفحات أقرب إلى الشعر منه إلى السرد، الذي يعتمد على الحوار وحركة الشخصيات، والحوادث التي يصنعها الشخصيات.
وبعد :
أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول رواية ( تلك البهجة ) البديعة للشاعر والكاتب محمد الديب، وأدعو الله أن يوفقه في الانتهاء من كتابة هذه المتتالية الروائية، التي ترصد التغيرات والتحولات للشخصية المصرية في الثلاثين عاما الأخيرة، وهذا المشروع الروائي عند اكتماله سيكون إضافة حقيقية لحقل السرد العربي.
...........................................
ورقة نقدية لمناقشة الرواية باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء مساء السبت الموافق 12 / 8 / 2023م.
الرواية صدرت عن دار أسرار الأسبوع للثقافة والإعلام 2018م في 186صفحة من القطع المتوسط، وغلاف أربعة ألوان.
واهتم الباحث السيميولوجي بالعنوان، واعتبره النص الموازي، فهو يأتي كومضة مشعة، تحمل في ثناياها رسالة الكاتب التي يريد أن يبثها لقارئه في المتن، من خلال الحوادث المتشابكة، وحركة الشخوص في المكان والزمان، وهو بمثابة النص الأصغر.
والعنوان هو العتبة التي نلج من خلالها إلى النص، ونغوص في أعماقة، والعلاقة بينه وبين النص ضاربة في الجذور، وتتبع هذه العلاقة والكشف عنها، تتطلب جهدا أكبر من القارئ، في تفكيك العمل إلى عناصره الأوليه، وتحليله، ومحاولة فك شفراته وقراءة رموزه.
والعنوان ( تلك البهجة ) مثيرا لانتباه القارئ، وفاتحا لشهيته، ويدعوه إلى التأمل.
ففي معاجم اللغة :
تلك : حرف / أداة، وهي اسم إشارة للمؤنث البعيد، والكاف فيه للخطاب.
والبهجة تعني ضحك أسارير الوجه أو الشعور بالارتياح الشديد، وهي أيضا الفرح والسرور والسعادة.
والقارئ يتمنى أن يصادف في النص تلك البهجة في هذا الزمن النكد والضنين، ويقبض عليها، ويبقيها في داخله، ولكنه يكتشف أنها بعيدة بعيدة.
وآثر الكاتب أن يكون عنوان الرواية ( تلك البهجة ) في الربع الأخير من صفحة الغلاف، فالعناوين تأتي غالبا في صدارة الغلاف، لتقع عيون القراء عليها أول ما تقع، ولكنه جعل عنوانه بعيدا في قاع الغلاف الذي احتلته لوحة غائمة.
ولموقع العنوان المكاني على الغلاف، وللفضاء البصري المتمثل في لوحة الغلاف المبهمة والغائمة، إشارات على غياب تلك البهجة، والكاتب يزاوج بمهارة بين الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، والماضي عنده هو المرجعية الأساسية.
وعلى ظهر الغلاف اجتزأ من النص :
" في البدء كان المطر، يغمر الأرض، بعد جفاء، يخترق شقوقها برخاته المتلاحقة، تدفع به السماء في موجات متواترة كرسل من الغيب، هابطة بماء الحياة للأرض التي تشققت وشاخت، وللزرع الذي آلمه العطش، وللطيور التي ما وسعها بعد الغناء، وللحيوانات التي استحمت وانتعشت جلودها ولانت، فسرت في أوصالها دماء الحياة، واندفعت بحيوية ومالت على بعضها، الكائن الوحيد الذي كان مزاجه يتغير، رغم يقينه أن هطول الأمطار خير، ورحمة من السماء لأهل الأرض .. أنا "
هذه اللوحة الكونية البديعة، تشير إلى :
1-الكاتب يتوسل فنيا في روايته بالشعر ( الكلمة الشاعرة )، وشعرية اللغة عتده كان لها النصيب الأوفر في النص.
2-بطل النص ( أدهم يحيي ) جاء استثناء، وخرج من هذه اللوحة الكونية البديعة ( ... إلا أنا )، وسيرد في المتن الأسباب التي تجعله خارج هذه المنظومة الكونية بتناغمها، وتناسقها، وتناسبها، وجمالها اللافت والمدهش.
3-العلاقة بين السماء والأرض، وعطاءات السماء اللامحدودة واللامتناهية.
ولم يتخل الكاتب عن نظرته السوداوية والمتشائمة في روايته ( تلك البهحة )، والتي كانت أكثر سوداوية وفتامة في روايته ( عفرة ) :
( وجدتني مغيبا والضوء القرمزي من خلف ذؤابات الأشجار ينبثق معلنا عن شمس المغيب التي تبين على هيئة قرص دام. كنت مأخوذا بدم القرص الذي ينز على صفحة الكون بالدمع الساخن. دمع تحجر في مقلتيّ منذ اختفت أمي )
هل نستطيع من خلال هذا العنوان وهذه الاشارات أن نميط اللثام عما يضمره الكاتب محمد الديب، ونكشف عما يستتر خلف لغته الشعرية الوامضة والرامزة وما تبوح به من دلالات، وطرائقه وأساليبه السردية المتنوعة.
........................................
المكان :
قرية ( دويدة ) قرية أدهم يحيي بطل النص، قرية ( أم رماد ) : قرية أمه وأخواله، مدينة الزقازيق : مكان دراسته بالثانوية العسكرية، والمعهد الفني التجاري، والعمل بحي الحسينية وحي العرب وشارع مولد النبي، وحواري القرية وأزقتها والمقابر ومقام سيدي ( أبوعيسى ) والرشاح ..إلخ، والزقازيق بكل معالمها وبحر مويس.
الزمان :
الماضي هو المرجعية الأساسية، وثمة إشارات نتعرف من خلالها على قترة الحكي، وهي النصف الثاني من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأشار تصريحا مرة واحدة ص 97.
وأشار إلى أمل دنقل، وزمن الحكاية قبل موته بأربع سنوات، وإلى المظاهرت والتي تشير دون أن يسمها إلى مقتل سليمان خاطر، ويشير أيضا إلى مجازر البوسنة والهرسك والإبادة العرقية ص 167، وظهور الأحزاب في مصر، والإشارة إلى مقر حزب العمل، وإصداره لجريدة إقليمية، كل هذه الإشارات وغيرها تحدد فترة الحكي، وهي النصف الثاني من منتصف الثنانينيات.
أزمة البطل :
عني الكاتب عناية بالغة ببطله، وأزمته تعود إلى مرحلة الطفولة والصبا، وهي مرحلة تفتح الوعي، وظلت هذه المرحلة تؤرق ( أدهم يحيي )، وتقلق مضجعه، وأحداثها تطارده في صحوه ومنامه، وتكاد تكون هذه المرحلة قد شكلت عقدا نفسية لديه، واتخذ موقفا معاديا من والده الأستاذ مُعلم صبيان القرية، ومن أهل قريته ( دويدة ) الذين صمتوا على سلوكيات وأفعال والده تجاه أمه ( أمينه ) الذي تزوجها والده يحيي من قرية مجاورة ( أم رماد ) بعد قصة حب لم تدم طويلا، ولم يكتف أهل القرية بالصمت، بل رموها بالجنون!.
في روايته الأولى ( عفره ) وهي الجزء المؤسس لهذه المتتالية الروائية .. المتصلة – المنفصلة، يتوقف عند هذه المرحلة، التي أفرزت لنا أدهم يحيي البطل الإشكالي المولود بإحدى قرى شرق الدلتا، والذي يستهلها بنظرة الصبي السوداوية إلى الكون والحياة، ويقدم العدم على الحياة، ويتمناه :
( أحب هذا العدم وأحبك يا أبي )
بداية صادمة للقارئ، لماذا أحب العدم، وربط والده بهذا العدم؟
( لأنك تمكنت بكل جدارة أن تحيل إلى العدم حياتنا، كنت محض صدفة قاسية في حياتي، كنت علامة استفهام، .. )
( مُحال أن تكون لي أبا وأكون ولدك الأكبر، كيف تسير بنا الحياة يا أبي، وبعض مني، موجوع بك، وأنت غير مهتم بي، كيف الوصول إلى حماك وأنت لم تحمني من نفسك )
وتتلاحق الصدمات على الصبي من الأب :
( كنت طفلا في الإعدادية، وكانت أمي " أمينة " قد تركت دارنا مرغمة، كان يحيي أبي قد ربطها إلى السرير وأرسل إلى أخوالي في " أم رماد " .. جاؤوا وحملوها رغم أنفها في عربة ربع نقل، لملم أبي هدومها من السحارة في صُرة .. ولكز أختي أمال فحملتها إليهم وهي تبكي )
ويستعيد الصبي الكثير من حياة الأب، وعلاقته المتوترة به، ونتفاجأ بالأستاذ معلم الصبيان بالقرية :
( لا أذكر يوم أمسكت بكتب السحر التي جلبها يحيي زوجك إلى البيت، وكيف انهال عليك ضربا عندما طوحت بها إلى نار الكانون، قلت لي إنه لحق الكتاب بالكاد، ولم تمس النار سوى غلافه، كأن ألسنة النار تخشى الجان المختبئ بين الصفحات، كأن الجن يرفض الموت بين النار وهو من النار وإلى النار يعود )
فمعلم الصبيان بالقرية هو من جاء بكتب السحر، وهو من أدخل الجن إلى هذا البيت ليحيل حياة هذه الأسرة إلى جحيم :
( هو من أدخلهم إلى الدار يا بني.
لكن مسّك أنت يا أمي .. لا هو.
سكن جسدك أنت لا هو، واختبا في عيونك الجميلة .. لا هو، هل لأنك في يوم ما أحببت الخلاص منه وتحويله إلى رماد في " الكانون " . أم لأنك كنت فعلا تخشين سيرتهم، من احضرهم إلى دارنا سواه يا أمي من؟! . من فرق شملنا، وجعله يربطك إلى السرير، ويعلن لأخوالي أنه يخاف منك، ومن سواه يا سيدة البلدة وسيدة كل الناس يا أمي )
هل كتب السحر التي أدخلها مُعلم الصبيان إلى الدار هي السبب، أم أن هناك أسباب أخرى؟
يمد الصبي أدهم يحيي جسور التواصل مع القط الأسود الذي كان يرافق أمه، وأصبح القط الأسود لا يفارقه، ويدور بينهما حوارات ومكاشفات :
( كيف اختفت أمي. ومن في الأساس وراء خروجها من البيت، وشقيقة جدتي وهي خالة أبي، سمعت أنها – طوال عمرها – ومنذ تزوج أبي بأمي وباتت ابنتها " أنصاف " عانسا وهي تلاحق ابن أختها بالعملات. والغريب في الأمر أن جدتي لأبي. توافق على ذلك الأمر. بل تحضر لها من أثر أبي وأثر زوجته ما ييسر لها أمر التفريق )
ويذكر من حياة أمه :
( قل لي أيها القط الأسود. تكلم ولا تخشى شيئا. فأنا أفهمك وأنت رفيقي. كما كنت رفيقا لأمي، كنت أستدل على مكانها منك. حين كانت تهرب إلى المقابر أو الخرابات أو الأماكن المهجورة. كانت تبكي، خائفة من مجهول لا أعرفه. تبكي وتضمني بحضنها وتسقط في البكاء. كمن سقطت في بئر عميق، ثم أجدها توقفت فجأة ورمت بي بكل عنف على الأرض، وكأنها تذكرت شيئا كانت قد نسيته. وهاهي سوف تشير لي عليه. حتى أتقيه. ومع ذلك كنت أخشى أن يقول عنها أحد من أهل " دويدة " مجنونة )
لدي الصبي أدهم يحيي يقين لا يتزعزع بأن السحر الذي أعملته خالة والده يحيي بمباركة جدته للتفريق بين والده ووالدته، ليتزوج من ابنتها " أنصاف " التي فاتها قطار الزواج، هو السبب الرئيس، وأيضا والده الذي أحضر كتب السحر بالدار، ولا ندري ماذا كان يفعل بها؟.
وما كادت تذهب أمه عند أهلها، مطرودة حتى عقد مُعلم الصبيان قرانه على ابنة خالته، وجاء بها لتعيش في الدار، فهل السحر هو الذي بدل أحوال والده، واصاب أمه؟!.
( أنا منذ أن تزوجت أبيك وهو كل وقت على حال. أحيانا يكون زوجي وحبيبي وأستاذي. أرتمي في الليل بين أحضانه وأنتم حولي )
وتصبح الدار بدون أمه جحيما لا يُطاق، وطيف أمه يطارده، وصورتها لا تفارقه، فيناديها :
( أنا هنا يا أماه، أنا ابنك .. فلذة كبدك. وأول ما طالعت عيناك بعد الآم الوضع. أنا قطعة منك يا أمينة. كيف ذهبت وتركتني وتركت عبده أخي الصغير وتركت ابنتك آمال ودلوعتك الوحيدة.
-صباح الخير يا أم.
-صباح الخير يا ولدي.
-أريد بيضا في إفطاري.
-حاضر يا ضنايا. )
ويشكو لها حاله :
( أنا يا أماه من غيرك مسكين، مُكبل الخطوات، مقطوع الأمل، من غيرك لا شيء، في هذه البلدة التي تحاول النيل من سيرتك، وترميك تارة بالمس وأخرى بالجنون )
وكلما ضاق به الحال، ولا يجد من يبثه شجونه، وهمومه، يذهب إلى مقام سيدي ( أبو عيسى ) :
( ألست أنت يا سيدي من تحمي المنكسرين أمثالي، أليس أبي هذا ظالما. ألم يضربني على كل شاردة وواردة دون خطأ مني يستحق العقاب. ألست ولده الكبير الذي يساعده في أعمال الغيط. وأذهب وحدي عندما يكون في وظيقته مُعلما لعيال البلدة. والدي المعلم الأستاذ بضربني. يجلدني. ويعلقني في الفلقة. وأنت تعلم بذلك يا سيدي " ابو عيسى " ولا ترده عني، لماذا يا بركة. أين بركتك ؟ ..)
وبعد زواج يحيي بأسابيع، يسافر مُعارا، للعمل كمعلم للأطفال في سلطنة عُمان، وتزداد معاناة الصبي أدهم من معاملة زوجة الأب، ومن ضيق الجدة به، وبلغ كرهه مداه لأبيه ولزوجة أبيه ولكل أهل القرية الذين رموا أمه بالمس تارة وبالجنون تارة أخرى، ولصمتهم على طرد والده لها.
( أقسمت أن أنتقم منك يا قريتي الملعونة، أقسمت ألا تمر عليك الليالي إلا سوداء حالكة، وسوف يكون انتقامي عظيما مثل غضبي ).
هذا بإيجاز أزمة البطل الإشكالي كما جاءت في الجزء الأول من المتتالية ( عفرة ).
................................
الكاتب ينتصر في مشهد الحريق الذي شب في القرية للفن، ولجأ إلى حيل وأساليب فنية عجائبية وغرائبية، أقل ما توصف أنها واقعية سحرية نابعة من تراث وموروث شعبنا الضارب بجذوره في القرية المصرية، هل أشفى الحريق غليل الصبي أدهم يحيي؟ هل هو من وراء هذا الحريق العجائبي الذي التهم بيوت القرية؟
هل يكون العقاب من جنس العمل؟.
( من أيقظ المارد من غفوته؟.
من أبرم الاتفاق سواي؟.
من ردد بنار الغل وراءه سواي؟.
من قرأ الطلاسم. بأناة منتظرا انبعاث غيلان الجن الأحمر .. من معاقلها غيري : أين الملك الذي حمل عني غضبي وترجمه بهذا الشكل المرعب. )
والنيران بدأت بمعاقبة الجيران، الذين صمتوا على سلوك مُعلم الصبيان مع زوجته، ولم يراجعه أحد، وأخذت تخف شيئا فشيئا ولم تمس الجيران الأبعد مكانا، ولكنها طارت إلى قرية " أم رماد " لتلتهم بيت جده، وخاصة خاله سند الذي تخلص من أخته والدة أدهم!!.
وهذه الحرائق لم تخلف وراءها ضحايا من البشر، حرائق نظيفة.
( تشتعل فجأة وتتوقف فجأة، كمن يضغط زرا كهربيا، فيمنحها الضوء أو العتامة، الاشتعال أو الخمود )
هذه الحرائق لا تحرق أحدا، تُعاقب فقط.
هل هي من أفاعيل الصبي أدهم مع الجن؟.
( كانت طلمبات الماء، تُخرج ماء عكرا، ساخنا، بلون الدماء التي سالت من رقبة أمي )
( أعلم أنني رددت وراءه سفر الدمار، طلاسم الإبادة، لكن ما كان يريح نفسي أن النيران لا تحرق، لا تأكل ما يقابلها، كأنها فيلم مجنون لمخرج عبقري فوق العادة )
هل بردت نار أدهم يحيي وهو يرى حالة الخوف والفزع والرعب التي أصابتهم، وكأن ألسنة النار شبت في هشيم أرواحهم، ولا يستطيعون أن يمارسوا حياتهم.
( ..، وبرغم ما ينطق به عقلي، بانني حققت انتقامي وثأري من خنوعهم وسكوتهم على بطش أبي بأمي أمام أعينهم، ولم يتمكن أحد أو يشغل باله بمراجعة المُعلم الفاضل زوجها فيما يفعل، هم أهله وعشيرته، كانت الكلمات التي تؤجج روحي بالحقد عليهم، تتساقط مع ارتفاع ألسنة النار )
وانزوت رغبة أدهم في الانتقام بعدما رأى وشاهد كل ألوان الخوف الذي لحق بالأطفال، انزوت رغبته في الانتقام مع صراخ السيدات، مع تنصل أهل القرية من ذنوبهم، مع إعلانهم التوبة والاستغفار.
انزوت رغبته في الانتقام عندما تيقن أن الله أنقذه من القتل على يد أهل القرية، الذين أخبرهم العراف بأن من وراء الحرائق ستجدونه عند المقابر، وكان قد ذهب إلى خُص العم عفره بجوار المقابر، ولكن العناية الإلهية أرسلت إليه صديقه حسين، وما كاد يبتعد به عن المقابر بضعة أمتار، حتى وجدا القرية عن بكرة أبيها، خرجت للفتك بهذا المجرم، ومن المصادفات العجيبة أن بهلول عزبة مجاورة كان في طريقه إلى عزبة أخرى، فمال ناحية المقابر ليفك ماؤه الذي في الحبس، فينهالوا عليه ركلا ولكما، وكاد أن يموت بين آياديهم لولا أن تعرف عليه على ضوء الكلوبات أحد عجائز القرية فكف أيديهم عنه.
وجاء له زميل دراسته وصديقه زين يطلب منه الكتاب :
( كنت أعلم أنه كتاب الطلاسم، الكتاب هو سبب البلاء الذي لحق بدويده )
( مؤكد أن الشيخ زين خائف من والده، لو علم بأمر تمرير الكتاب لي )
وبحثا عن الكتاب بالغرفة، فكان أدهم يحتفظ به ضمن كتبه الدراسية، تحت السرير الحديدي، سرير أمه، ولكن الكتاب اختفى، فقد استعاده والد زين بطريقة أو باخرى، وقد لقن الأستاذ لبيب ولده زين الذي سرب الكتاب لأدهم درسا مهما :
( الكتب الخطيرة يمكن أن تضر بالأطفال )
وأوضح له أكثر :
( لو تركت علبة كبريت لأحد العيال الأشقياء، من الممكن أن يعبث به ويحرق أصابعه أو بيته أو بيوت جيرانه )
ودفن الأستاذ لبيب الكتاب بالحائط، وأرسل بهدية لأدهم، جلباب أبيض وطاقية، وطلب منه الاغتسال والمواظبة على الصلاة.
( صرت ملاكا هابطا إلى الأرض )
( هل يأخذ بيدي لأحد أبواب الجنة )
( واظبت على أداء جميع الفروض حتى صلاة الفجر في المسجد، كانت روحي تفرفط خطاياها أثناء الوضوء والنوافل، وفي الإطالة عند السجود، بل تماديت، وصرت أستمع للدرس بعد المغرب والعشاء، أخذ البكاء يتسرب إلى روحي قبل عيني، دموعي قريبة، تغسل قلبا مكلوما، حزينا، تحجرت فيه مياه الرحمة، منذ فترة طويلة )
....................................
البطل المطارد :
عاني أدهم يحيي في قريته، وقاسى الأمرين من زرجة والده، فعندما حصل على الإعدادية، عارضت بشدة دراسته بالثانوي العام، وأرادت له بأن يلتحق بأي مدرسة فنية متوسطة، ولكنه أصرّ على تحقيق حلمه بالالتحاق بالمدرسة الثانوية العسكرية، المدرسة الأشهر بالزفازيق، ولكنه يصر على الالتحاق بالمدرسة الحلم، ومواصلة الدراسة في التعليم العام، ولم تكتف زوجة الأب بمحاولة عرقلته عن مسيرته التعليمية، ولكنها قبضت اليد عنه، وزعمت بأن والده لم يرسل له أية أموال، ولما كان يهوى منذ صغره صيد السمك من الرشاح، عاد لممارسة هذه الهواية، وأخذ يبيع السمك الذي يصطاده، ليوفر بالكاد مصروفات الدراسة، وثمن الكتب والكراسات والأقلام، والمواصلات اليومية من ( دويدة ) إلى الزقازيق وبالعكس.
وبلغ الأمر بزوجة الأب أن استعانت بأخويها، لضربه ضربا مبرحا، ولم يجد أمامه بُد إلا تقديم شكواه في قسم الشرطة، ولم يقف بجانبه غير عمه السيد، وضاقت به الحياة في القرية، وبرحها غير آسف وغير نادم على تركها، واستأخر غرفة فقيرة فوق السطوح بحي كفر العرب، وعاش فيها بلا فرش ولا متاع تقريبا، وهو لم يزل شابا بالصف الأول الثانوي.
وأخذ يدبر حاله، بأن طلب من الشاب حسام بأن يعلمه تصليح وملء الولاعات، فهو يريد أن يعتمد على نفسه بعد أن طردته زوجة أبيه والقرية كلها، وتعاطف معه الشاب حسام، وذهب معه إلى السوق واشترى له مكتبة قديمة، وذهبا بها إلى نجار، ليصنع منها فاترينه، ويقوم حسام بدهانها له بنفسه باللون الأخضر، واشترى له العدة والأدوات اللازمة للشغل، وفرش أمام مسجد بحي الحسينية، وما كاد يهنأ بالاستقرار، وجريان الفلوس في يده، حتى سُرقت الفاترينا بمعرفة مسئولي المسجد، ظنا منهم أنه عين للامن، وبعد تقصي واستقصاء اطمأنوا له، وأعادوا الفاترينا، وهو الملتحي الذي يواظب على الصلوات في أوقاتها معهم، وينصحه أحد الملتحين، بسرعة حلق لحيته، والهروب فورا، فوقع في قلبه، وكاد ينتهي من حلق ذقنه في حمام المسجد، وخرج حتى فوجئ بحملة اعتقالات واسعة نجا منها بأعجوبة، وحاول صديقه زين بأن يقنع رواد المسجد بأن صديقه أدهم برئ ولا ذنب له، ولكنهم أصروا على أنه خائن وعميل للأمن، وعقوبة الخائن ....
والمطاردة هذه المرة من تلك الجماعة الدينية.
ويعاود الكرة مع حسام وعمل قاترينا أخرى، ويفرش بها في حي العرب، وكان قد تعلم من حسام هذه المرة تصليح الساعات، والساعات بدأت تروج في ذلك الوقت بفضل المدينة الحرة ( بور سعيد ) وهي إشارة إلى الانفتاح الاقتصادي، وقد بدأت تظهر آثاره على المجتمع المصري.
وينتقل بالفاترينا إلى شارع مولد النبي بناء على نصيحة صاحب أشهر محل لبيع الكرات الأديدس والملابس الرياضية الذي أصلح له ساعته الثمينة بسرعة وبمهارة، فنصحه بأن يفرش بجوار محله بالشارع الأكثر حركة والأكثر رزقا، وكانت فاتحة الخير على أدهم.
وأدهم المطرود من رحمة زوجة الأب ومن القرية كلها ومن الجماعة الدينية التي تتهمه بالخيانة وبأنه عميل للأمن، كان قد حصل على الثانوية العامة بالكاد، والتحق بالمعهد التجاري بالزقازيق، وهذا النجاح يُعد انجازا كبيرا، فهو لم يذهب إلى المدرسة إلا يوما واحدا، وهو يوم ملء استمارة التقدم لامتحان آخر العام، ولم يأخذ أي درسا خاصا، ولم يشتري كتبا خارجية أو ملخصات، وتدبير نفقات حياته بالعمل على الفاترينة أخذ النصيب الأوفر من الوقت، ولم يبق للمذاكرة والدرس والتحصيل إلا الوقت القليل، فهو مطارد أيضا بلقمة العيش، وما أقسى مطاردة لقمة العيش!.
ووقع أدهم وهو في السنة الأولى بالمعهد في الحب، الحب الذي كان يستنكره على صديقه حسين وبعض الزملاء يصيب سهامه قلبه، حب صوره له خياله، واندفع وراءه بكل قوة، فقد أحب ( وردة ) زميلته بالمعهد حُبا ملك عليه كل جوارحه، آسر عقله واستعمر قلبه، وهام بها عشقا وهياما، وأصبح مُطاردا بحبها، والغيرة بدأت تنهش قلبه، وحاول الانتحار، وفشل في استعادتها، ووردة مسكونة بحكاية مؤلمة، فهي تشك شكا قارب اليقين في تآمر أمها مع عمها لقتل والدها المريض مرضا مزمنا وطويلا، ليخلو لهما الجو، وبعد موت والدها سرعان ما عقد عمها قرانه على أمها، وعمها لا يفتأ يضربها بمناسبة ومن غير مناسة، ويهددها باستمرار من حرمانها بمواصلة تعليمها في المعهد، ولولا تدخلات أمها وتوسلاتها له، ما كانت قد أكملت دراستها، وقد عاش مع وردة قصة حب عنيفة، شهدت بها شوارع الزقازيق والتسكع فيها ومحلات الكشري وأفنية وحدائق وقاعات المعهد، ولكن غيرته وتطلعات وردة أجهضت هذا الحب، فوردة التي التحقت وهي طالبة بالمعهد للعمل بصحيفة إقليمية يصدرها حزب العمل، وتنشر بها موضوعات عن المرأة والموضة، وتتيه فخرا وإعجابا باسمها الذي يلي عناوين موضوعاتها بخط بارز، وتحلم بالانتقال إلى عالم الأضواء والشهرة، فهي متمردة على واقعها، ومتطلعة إلى حياة أفضل، وتجاوز هذا الواقع الردي ومعانقة النجوم، واتسعت الهوة بين الحبيبين، وغادرته ورده إلى عالمها الموشى بالأضواء والشهرة، وتركته هائما على وجهه، يناجيها، ويعتذر عن الخطاب الذي أرسله لها يحذرها فيه من وعورة وخطورة الطريق الذي تمشي فية، ومن رئيس التحرير الذي يرى أنها قد تعلقت به، وقد اجتذبها إليه بالكلية بشعارات وكلمات براقة، ويمنيها بمستقبل مشرق، وأخذ يشك بان ثمة علاقة بينهما، ( أعلنت لها عن غضبي في اندفاعها نحوه وقلت : إنه كاذب. أفاق. يسرح بها. كل وعوده في الهواء وأن هذا الطريق ينتهي غالبا بالكوارث ) وكانت نهاية تجربة الحب الأول العنيفة والمؤلمة والتي كادت أن تودي بحياته بمحاولته الانتحار.
....................................................
وحسب الرواية – أي رواية – أن تلفت الانتباه وتثير الأسئلة، ورواية الديب تلفت الانتباه إلى جملة من القضايا، وتثير العديد من الأسئلة، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :
1-خطورة العقاب البدني وآثاره السيئة على النشء نفسيا، وهي ظاهرة انتشرت في الكتاتيب والمدارس المصرية، وبدلا من أن يتعلم الأولاد فروا من التعليم وهربوا من المدارس، وانتشرت الأمية، وازداد الجهل بدلا من محاربته، وقدم لنا والده نموذحا لهذا المُعلم، وكل معلمي مدرسته في ذاك الزمن، وكيف كانوا يتفنون في معاقبة الأولاد وإيلامهم بدنيا ونفسيا.
2-لفت الانتباه إلى نموذج آخر بمدرسته الثانوية، وهو نموذج رائع، المدرس الذي يسأل كل تلميذ عن حلمه، وماذا فعل من أجل تحقيق هذا الحلم، وكيف كان يدرس لهم مدرس التاريخ مادة التاريخ بعيدا عن القولبة، والمنهج، وكيف بدأ تعريفهم بجغرافية وتاريخ محافظتهم العريقة، واندهش من خلو أحلام تلاميذه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وراح يبين لهم أهمية هذه الكلية، وهي إشارة ذكية ولها دلالتها، فلماذا يعزف أولادنا عن ممارسة السياسة؟!.
3-إذا كان قد اعتقد أسلافنا أن الصديق الوفي من المستحيلات الثلاثة، فالكاتب قدم لنا أنموذجا للصديق الوفي، مُمثلا في زين لبيب زميل دراسة أدهم يحيي، وصديقه، والذي يمثل الجانب النوراني الشفاف، وشخصية زين جديرة بالبحث والاستقصاء ودراستها، وتقديمها لأولادنا ليعرفوا من خلال هذا النموذج الحي معنى وقيمة الصداقة الحقيقية.
4 –حلم السفر الذي تمكن من الشباب، بعد أن ضاقت فرص العمل أمامهم وأصبحت مثل ثقب الإبرة، وزادت أعداد المتعطلين، فحسين محمد الزغبي صديقه الذي يكبره ببضع سنوات والحاصل على دبلوم التجارة والذي وقع في حب البنت زينات، ويحلم بالزواج منها، وتعلم حرفة الدهانات، وكل أحلامه مؤجلة ومعقودة على السفر، ويرفض والده سفره، ولكنه يسافر مؤخرا إلى الأردن، ويسافر عمه السيد أيضا إلى العراق، وسافر والده أيضا مُعارا إلى سلطنة عمان ويسافر معظم شباب القرية، ويشير إلى التحولات والتغيرات التي حدثت للقرية بسبب دخول الكهرباء إليها، وسفر الشباب إلى الخارج، وزيادة أعداد المتعلمين من أبنائها.
5 –يوازن بوعي بين أبناء القرية وأبناء المدينة، ويرصد سلوكيات كل منهم، ونظرتهم إلى الحياة وتعاملهم معها، وقدم لنا حسام الذي وقف إلى جانبه وعلمه تصليح الولاعات والساعات، ويعترف بأنه استفاد من حسام وتعلم منه الكثير، وأول درس لقنه له حسام عندما رأى عجبه واندهاشه من تحويل مكتبة خشبية قديمة متهالكة إلى فاترينا جديدة ومبهجة :
( كل شيء في هذه الحياة صالحا للاستخدام، بشرط واحد أن تمتلك المخيلة التي تمكنك من عمل تصور له في وضعيته الجديدة، يمكننا أن نعيد تشغيل معظم هذه الأشياء " الخردة " في أغراض غير الأغراض التي صُنعت من أجله )
6 –يبين كيف يتعامل رجال الأمن مع الخارجين على القانون، وتوظيفهم لصالحهم، وتجنيد تجار الكيف، والبلطجية، وبائعوا الفول، وبائعو الخبز وغيرهم ( وحي العرب يعج بهؤلاء )، ويصف القادمون من الأحراش بالبلاستيك والصفيح وكل المخلفات، وكيف يستثمرون هذه المخلفات، وفرزها وإعادة تدويرها، ومكاسبها الخيالية.
7 – يلفت النظر إلى من أدركتهم الشيخوخة، وبلغوا من الكبر عتيا، ويشير إلى الرجل المًسن، والذي يعاني الوحدة والإهمال من الزوجة، والمعاملة السيئة منها، بعد أن أصبح لانفع منه، وتنتقل بالتبعية هذه المعاملة السيئة من الأم إلى بناتها، اللاتي يعاملن والدهن بقسوة وجفاء ( حالة محمد الزغبي والد حسين صديق أدهم يحيي نموذجا، ويتعاطف معه أدهم، ويقرر أن يعيره أذنه ليفضفض له عن همومه وشكواه من زوجته وبناته، ويأتي له وهو الذي سقطت أسنانه منذ سنوات بالملبن الذي يحبه )
8 – سيطرة الأباء وتحكمهم في مستقبل أولادهم، فالأب لا يعنيه غير السيرة، وماذا سيقال عنه بعد موته، ولذا يحاولون أن يشكلوا أولادهم بناء على ما يتنموا أن يُقال عنهم بعد موتهم، فالسيرة هي الأهم، وأهم من الحياة نفسها، ومن ثم يتم محاولة تشكيل الأولاد وفقا لأهوائهم متجاهلين رغبات وقدرات وامكانات ومواهب وأحلام أولادهم، وهذا النموذج وصم الكاتب به معظم اهل القرية ومنهم معلم الصبيان الأستاذ يحيي والد أدهم.
9–انتقاد الصحافة الحزبية الإقليمية :
( أمثال هذه الجرائد غير مشغولة إلا بالفضائح والرياضة والتطبيل للمرشحين ورجال الأعمال، الثقافة في الركن القصي من الجريدة. على الهامش. جرائد لا تفكر إلا في الإعلانات وما تحققه من مكاسب حتى توفر ثمن العدد الجديد )ز
10 – صوت الشاعر :
عرفت الحياة الثقافية والأدبية محمد الديب ناشطا ثقافيا، وشاعرا، وصدر له ديوان ( مزاليج الصمت )، وبطل نصه أدهم يحيي مثقفا وشاعرا أيضا، فمنذ أن كان طالبا بالمدرسة الثانوية العسكرية، وهو يمثل المدرسة في الشعر والإلقاء، وذاع صيته كشاعر بين زملائه ومدرسيه، وكما هو بدأ حياته المعيشية عصاميا، بدأ حياته الثقافية عصاميا أيضا، وبتتبع روافد ثقافته، نجده بدأها منذ صغره بالراديو، وكان الراديو في ذلك الزمان أداة ثقافية مهمة، ويصطحبه معه وهو يصطاد السمك من الرشاح :
( مع هطول الرياح الباردة، أستخرج الراديو الترانزستور، وأضبط موجته على الشرق الأوسط، ليبعث جوا من المرح والألحان والغناء من حوالينا )
ومن خلال الراديو أيضا ومن خلال برنامج ( لقاء الأحبة ) تعرف من خلال المراسة على أصدقاء كُثرمن داخل مصر وخارجها، ومنهم ( وردة ) حبه الأول، وأنشأ نادي للمراسلة وجعل له شعارا، وله رؤية ورسالة، وافتتح صندوقا للبريد ليتلقى الرسائل التي ترده من أصقاع وأرجاء شتى من وطننا العربي الكبير.
تعرف على العربي الذي يقاربه في العمر، عن طريق زميله وصديقه ياسر بالثانوية العسكرية والذي يقرض الشعر هو الآخر، وكان العربي على صغر سنه قد اصدر ديوانا على نفقته على طريقة الماستر، ويوزعه عن طريق باعة الصحف بالزقازيق، وقد أعجبته الفكرة، وراح يفكر في إصدار ديوان له، ففي زعمه أنه أشعر من العربي الذي انتفخت أوداجه بعد صدور ديوانه وتطاوس عليه، وفكر أيضا في إصدار مجلة نادي المراسلة الدولي الذي أسسه.
وبدأ في تكوين مكتبة خاصة به، واقتنى العديد من دواوين الشعر، ودعاه العربي لحضور ندوات قصر الثقافة، وحضر مرة واحدة، ولم يكررها، وكانه أدرك رغم حداثة سنة أمراض الثقافة والمثقفين :
( كنت أشعر باعتزال هؤلاء المتشدقين بالكلمات الرنانة. في قصر الثقافة. من خلال المرة الوحيدة في بدء علاقتي مع العربي، حين لبيت الدعوة بحضور الندوة الأدبية الأسبوعية بالقصر، .. )
ومن الطبيعي أن لا يرضى عن هؤلاء الذين يكتبون من أبراج عاجية، وهو المغموس منذ صغره في مكابدة الحياة.
وللثقافة حضورها الطاغي في الرواية.
وقد ضبطه العربي في بداياته، متلبسا بروح أمل دنقل، والشاعر أدهم يحيي لا ينكر هوسه بأمل دنقل، فهو الشاعر الصعلوك مثله، ويروح يقارب حياته البائسة بحياة الشاعر البائس أمل دنقل، ويكاد يتوحد معه :
( كان أمل دنقل يخرج من عتامة الموت، ساحبا يدي، كي يرافقني. كنا نلعن معا المرض، والفقر وأصحاب الكروش والعروش، والسائرون في غفلة، وهم على زجاج مبشور. حُفاة الأقدام، بقلوب مُدماه من غلاء أسعار المحلات الكبيرة ).
والشاعر الحقيقي هو المعبر عن صوت الجماعة، وهو لسان حال شعبه، يعبر عن همومهم وأحزانهم، أفراحهم وتطلعاتهم وانكساراتهم، ولذا نراه سار على درب أمل دنقل المتمرد على النظام الذي اتخذ قرار الانفتاح وعقد الصلح مع العدو.
11 – إشارات سياسية :
لا تخلو الرواية من إشارات سياسية تشير إلى زمن الرواية، والفترة التي يتحدث عنها الكاتب والتي أفرزت لنا ( أدهم يحيي )، ولأن أدهم يحيي ابن محافظة عريقة ورائدة، قدمت على مدى تاريخها للوطن والأمة الكثير والكثير، وحسب الكاتب أن يشير ولو من بعيد إلى مواطنين بسطاء، ولكنهم يحملون العزة والكبرياء أمثال : سليمان خاطر أو أيمن حسن أو محمد المصري أو عبدالعاطي أو .. أو ..
فالدبابير التي تزن في أذن أدهم وتزعج أبناء المحافظة، وتتحول إلى طائرات تحمل النجمة السداسية، وتحلق في سماء الشرقية، وفوق ميدان المحافظة، وتخرج الناس زرافات وجماعات، تنسرب من كل شارع وحارة وزقاق، ويتجمهرون أمام المحافطة، يقولون :
( جنديا مصريا أطلق رصاصاته ضد ثلة من المتسللين قوق الأسلاك للاستمتاع ببحر ليس لهم الحق فيه، ولا السير على رماله ولا استنشاق ملوحته )
( بانت وسط الميدان النجمات السداسية – كما برزت سيارات الأمن المركزي )
( القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين ومتابعتهم في عمليات الكر والفر، واعتقالات واسعة لبث الرعب في قلوب لا تعرف التراجع أو الخوف، قلوب أعلنت بكل جسارة. موجهة أصابع الاتهام لمن أحنوا رؤوسهم وشنقوا جنديا قال لا في وجه من قالوا نعم. ليعيش – بعد ذلك في ضمائرهم كتيمة ورمز )
إنها فترة الانبطاح والاستسلام، في ظل هذا المناخ العام فهل تتحقق البهجة؟ وهل هي قريبة من المصرييين أم بعيدة عنهم؟
12 – الأولياء والبهاليل والدراويش والشحاذون.
أدهم يحيي منذ صغره وفي قريته، وكلما حزبه أمر، يمضي إلى مقام سيدي ( أبو عيسى ) أو يذهب للعم ( عفره ) في خصه عند المقابر، ليبثه شجونه وأحزانه، والكاتب محمد الديب اهتم بهؤلاء اهتماما بالغا، وجعل عنوان روايته الأولى باسم العم ( عفرة )، وادهم يحيي في المدينة حاول الانتماء إلى جماعة دينية بحي الحسينية، ولكنه صار مطاردا منهم، بعد أن رموه بالعمالة والخيانة، وقد أغراه صديقه الشفاف النوراني زين بالانضمام إلى جماعة ( التبليغ والدعوة )، وراح يدعو الناس بإخلاص إلى الصلاة :
( وطرقت الباب يوما. فلم يجبني أحد. ولما ألححت في السؤال خرج رجل وتفل في وجهي. قلت له : يا أخي إنما أدعوك للصلاة. أجابني ووجهه يتميز غيظا ك يا سيدي أنا مسيحي .. مسيحي فهمت .. ورد الباب بعنف )
كان الشيخ زين يبارك خطواتي تجاه الله، ( باركت جهودهم نحو الفقراء. وجمع الصدقات والأخذ بأيديهم )
( لا تقلق جماعة التبليغ والدعوة، لا غبار عليها. يعلم الأمن أنهم لاناقة لهم ولا جمل في أمور السياسة والحكم. ويعلم أنها مجرد جماعة توعوية فقط )
( حاملا على ظهري شنطة بها جلبابان أبيضان، وشال أبيض وطاقيتان ومسبحة وسواك، ومصحف وتفسير الجلالين .. والأحاديث النبوية )
( قال كبيرهم لي. في الغد أنت خطيب الجمعة، أنت إمامنا يا شيخ. فمسدت لحيتي ودعوت الله أن يوفقها )
يكتب محمد الديب عما يعرف، وقدم بعض الجماغات الدينية تقديما واعيا وأمينا، وكاشفا عن بعض أسرار تلك الحماعات، ولكن هل تناول كل هذه الجماعات المنتشرة في مصرنا الحبيبة، إنه تناول في هذه الرواية بعضها، وقد يتناول لاحقا جماعات أخرى في روايات قادمة في هذه المتتالية الروائية.
وقد تناول قصة عائشة المنتقبة وزواجها من أدهم، وأماط اللثام عن أحوال بعض المنتقبات، ووضع المرأة، والنظرة إليها، والغش والخداع واستغلال الدين وممارسة الدعارة في أقذر معانيها، قصة مؤلمة ومحزنة.
وتناول قصة الشحاذ الذي يظهر له فجأة ويختفي فجأة، وعندما طلب الشحاذ منه النقود أعطاه، وألقاها في فتحة جلبابه، وألح في الطلب مرة أخرى، فأعطاه الفكة، فألقاها بسرعة في فتحة جلبابه، وعاود الطلب مرة ثالثة، فما كان من أدهم إلا صفعه على وجهه، ليختفي الشحاذ، ويكاد ذراع أدهم أن يتوقف، وظل يؤلمه، واستنكر الشيخ زين صفعه له، وقال بان الأموال التي ياخذها هذا الشحاذ، يوصلها في التو واللحظة لمن يستحقها! وهذا ما أحزن أدهم وراح يبحث عنه ليسترضية، وأصبح لديه قناعة بأن الألم الذي بيده بسبب صفعه لهذا الشحاذ الولي، وبينما يسير مع ورده حبيبته التي عزمت نفسها على طبق كشري على حسابه، وقع في قلبه، فليس في حافظة نقوده مليما، فكيف سيتصرف في هذه الورطة؟! .. يتفاجأ بهذا الشحاذ يخرج له فجأة، وكأنه انشق من باطن الأرض، فيعاجله أدهم ويمد له يده ويقول له هات، فيخرج من فتحة جلبابه رزمة مالية، فيتناولها أدهم بفرحة، ويلقي بها في جيبة، ويقول له ثانية : هات، فيباغته الشحاذ بلكمة في وجهه، أدارته بزاوية مقدارها 360 درجة، ويختفي فجأة، ولغافة النفود كانت بالكاد تكفي طبقي الكشري والحلو، والغريب أن ذراع أدهم الذي كان يؤلمه قد برأ تماما.
أجاد الكاتب التعامل مع هذه الفئة، ورصد بعض أحوالهم.
................................................
ملاحظات فليلة :
1 – تدخل الكاتب أحيانا، وارتداء ثوب الواعظ الحكيم، فمن غير المعقول أن أدهم الذي لم يزل صبيا بالصف الأول الإعدادي، ولم يجرب الحب بعد، يقول لحسين الذي أصاب سهام الحب قلبه ك
( الإحساس المبالغ فيه بالذات في تلك المرحلة اسلوب متبع بين المراهقين، حيث يرى كل واحد بعين خياله أنه الأفضل. لدرجة أن البعض يسيطر خياله على وعيه. فيعتمد تجارب من هم أكبر منه. إنها إنجازه الخاص )
2 –كثرة استخدام ضمير الأنا، وهو الضمير الأنسب دون شك للفضفضة والبوح، أسرف الكاتب في استخدامه، وخاصة في قصة أدهم مع وردة، وقدم صفحات مطولة، كلها بوح وحنين وشكوى، وهي تكرارات لنفس المشاعر والأحاسيس، ويمكن حذف ثلاثة أرباعها، فهي لا تقدم ولا تضيف جديدا، بل تؤثر على دينامكية السرد وتعرقل سريانه، فكانت هذه الصفحات أقرب إلى الشعر منه إلى السرد، الذي يعتمد على الحوار وحركة الشخصيات، والحوادث التي يصنعها الشخصيات.
وبعد :
أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول رواية ( تلك البهجة ) البديعة للشاعر والكاتب محمد الديب، وأدعو الله أن يوفقه في الانتهاء من كتابة هذه المتتالية الروائية، التي ترصد التغيرات والتحولات للشخصية المصرية في الثلاثين عاما الأخيرة، وهذا المشروع الروائي عند اكتماله سيكون إضافة حقيقية لحقل السرد العربي.
...........................................
ورقة نقدية لمناقشة الرواية باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء مساء السبت الموافق 12 / 8 / 2023م.