هكذا رسمتُ لنفسي ملامح التزامي في الكتابة الذي لا يعتمد على الكتابة «من أجل» فئةٍ من القراء بعينها، بل «انطلاقاً» من تجربتي كامرأةٍ ومهاجرةٍ من الداخل.
من أين أبدأ؟ سؤالٌ راودني عشرات المرات أمام الصفحة الخاوية كما لو أنّ عليّ أن أجد بين الجمل جملةً يتيمةً تكون مفتاحاً وحيداً يخولني الولوجَ إلى عالم التأليف، وتبديد كل الشكوك دفعةً واحدةً. ينتابُ مخيلتي اليوم هلعٌ متزايدٌ أرى من خلاله حاجةً تجتاح كياني؛ هلعٌ تواجهُ به مخيلتي الموقف الذي تجاوز ذهولَ الحدث: «هل هذا يحدث لي حقاً؟»، فأفتش في ثناياها عن جملةٍ تمنحني حريةً وبأساً أتحدثُ من خلالهما دونما ارتعادٍ في هذا المكان الذي دعوتموني إليه هذا المساء.
إنها جملةٌ لن أجدَّ في طلبها بعيداً لأنها لا بدّ ستنبجس بكلّ ما فيها من نقاءٍ وعنفٍ كحجرٍ كريم مصقولٍ صقلاً لا يقبل ارتياباً؛ جملةٌ جاثمةٌ في ثنايا مذكراتي الحميمة منذ ستين عاماً: «سأكتب ثأراً لعِرقي». مردِّدةً بذا صدى رامبو حين قال: "أنحدرُ من عِرقٍ هو الأدنى على مَرّ الدهور".
كنت في ربيعي الثاني والعشرين بكلية الآداب في إحدى المقاطعات طالبةً بين فتياتٍ وفتيةٍ كثيرٌ منهم كانوا من برجوازيّي تلك المقاطعة، فآمنتُ بفخرٍ وسذاجةٍ بأنّ الانتصاف من الظلم الاجتماعي المتعلق بالمولد ممكنٌ، بمجرد تأليف الكتب وامتهان الكتابة في ذيل سلالةٍ من فلاحين بلا أرضٍ، وعمالٍ وتجارٍ صغارٍ، وأُناسٍ تُحتقر فيهم عاداتُهم ولهجتهم وافتقارهم للثقافة، وأن الانتصاراتِ الفرديةَ -في وهمٍ عززتْه فيَّ المدرسةُ من خلال نجاحيَ الأكاديميِّ- قد قضتْ مراراً على قرونٍ من الهيمنة والفقر؛ فكيف لإنجازاتي الشخصية أن تعوضني أيّاً من الإهانات والإساءات التي تعرضتُ لها؟ سؤالٌ لم أطرحه على نفسي؛ وكان لي في ذلك بعضُ عذرٍ.
لم أكدْ أجيد القراءة حتى باتتِ الكتبُ رفاقي، والمطالعة مهنتي الطبيعية خارج أسوار المدرسة، ثم تعاهدتْ فيَّ هذي الذائقة -من بين زبونين من زبائن مكتبتها- أمٌّ وقارئةُ رواياتٍ رائعةٌ فضلتْ فيَّ القارئةَ على الخائطةِ الحائكة؛ فزادتْ كلفةُ الكتبِ العالية وما تحمله بين طياتها من شكوكٍ في مدرستي الدينية، من انجذابي لها: «دون كيشوت»، «رحلات غلڤر»، «جين آير»، «حكايات غريم وأندرسن»، «ديڤيد كوبرفيلد»، «ذهب مع الريح»، و«البؤساء» لاحقاً، عناقيد الغضب، الغثيان، الغريب. لقد كان للمصادفةِ -قياساً بتوصياتِ المدرسة- نصيبُ الأسد في رسم ملامحِ قراءاتي.
كان اختياري دراسة الآداب يعني بقائي في مجال الأدب الذي فاق في القيمة ما خلاه، وبات بالنسبة لي أسلوبَ حياةٍ جعلني أتخيلُ نفسي شخصيةً من شخصيات روايةٍ لـ فلوبير أو فيرجينيا وولف فأعيشها حرفياً، أو شخصيةً في قارةٍ كنتُ أقارنها دون وعيٍ مني ببيئتي الاجتماعية؛ وبذا لم أرَ في الكتابة إلا سبيلاً لتغيير الواقع.
لم يكُ رفضُ ناشرَين أو ثلاثةٍ لروايتي الأولى التي كانت ميزتُها الوحيدة تتجسد في البحث عن شكلٍ جديدٍ من أشكال الكتابة هو ما قلل من رغبتي وغروري، إنما هي مواقفُ حياتيةٌ يلقي فيه كونُك امرأةً لا رجلاً بكل ما في الاختلاف بينهما من ثقلٍ في مجتمعٍ تُوزَّع فيه الأدوارُ وفقاً للجنس، وتُحظر فيه وسائلُ منع الحمل، ويُعدُّ الإجهاضُ فيه جريمةً. في زواجٍ أثمر عن طفلين، كانت مهنةُ التدريس وعبءُ الإشراف على الأسرة يزيدان في كل يومٍ من بُعدي عن الكتابة من جهةٍ، وتعهدي بالثأر لعرقي من جهةٍ؛ فلم يكن بيدي أن أقرأ "مَثَل القانون" في «المحاكمة» للكاتب كافكا دون أن يتجسد أمام ناظرَيَّ مصيريَ المتمثلُ في الموت دو تخطّي عتبة بابٍ صُنع لي دون سوايَ، وهو الكتاب الذي ليس لغيري أن يكتبَه.
لكن هذا كان دون انتظار فرصةٍ تاريخيةٍ خاصةٍ. لقد كان في وفاة أبٍ قضى بعد ثلاثة أيامٍ من وصولي إلى مقر إجازته، وفي وظيفتي كمدرّسةٍ في فصولٍ ينحدر طلابها من أوساط شعبية تحاكي مَنشأي، وفي حركاتِ الاحتجاج العالمية جزءاً من عناصرَ عديدةٍ أعادتْ إقحامي في جاداتٍ مؤثرةٍ غيرِ متوقعةٍ، وسبلٍ أخذتْ بيدي نحو عالمِ أصولي و«عرقي»، وأضفتْ على رغبتي في الكتابة طابعاً طارئاً سريّاً جداً. لم يكنِ الأمرُ متعلّقاً هذه المرة باستسلامي لوهم «الكتابة عن تفاهةِ» سنواتي العشرين، بل بالخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه داخلَ ثنايا ذاكرةٍ مكبوتةٍ كبتاً يفوق الوصفَ، وتسليطِ الضوء على نمطِ وجودِ كبتي ذاك، واتخاذ الكتابةِ سبيلاً لفهم الأسباب الداخلية والخارجية التي أبعدتني عن أصولي.
ما في الكتابة من خيارٍ مسلَّمٍ به؛ لكنّ الذين ما عادوا يتحدثون لغة آبائهم إذ هاجروا، ومَن فقدوا لغتهم تماماً إذ انشقوا عن صفوف طبقتهم الاجتماعية فهم يفكرون ويعبّرون بكلماتٍ أخرى، يواجهون جميعاً عقباتٍ إضافيةً عُضالاً؛ ويشعرون في واقع الحال بصعوبةِ أو استحالةِ الكتابة باللغة المكتسبة السائدة التي تعلموا إتقانها، واستعذبوا في الأعمال الأدبية التي كُتبتْ بها كلَّ ما يتعلق بعالَمهم الأصلي، أولِ عالَمٍ بُنيَ على الحسّ والكلمات التي تتناول الحياة اليومية والعمل والمكانة الاجتماعية؛ فهُم من ناحيةٍ أمامَ اللغة التي تعلموا بها تسمية الأشياء بوحشيتها وصمتها، ومثالُ ذلك يتجلى في مواجهةِ الأم والابن في نص ألبير كامو الرائع "بين نعم ولا"؛ ومن ناحيةٍ أخرى أمامَ نماذج الأعمال المستوعَبة المثيرة التي فتحتِ الكون الأول، والتي يدينون لها برفعتهم، والتي غالباً ما يعتبرونها موطنَهم الحقيقيّ، أما في موطني فقد ظهر فلوبير وبروست وفيرجينيا وولف؛ فما ساعدوني في الكتابة حينما آنَ أوانُ استئنافها؛ ولذا كان عليّ أن أُحجمَ عن «الكتابة الجيدة»، والعبارة الجميلة التي كنتُ أعلّمها لطلابي، لاستئصال وعرض وفهم التمزق الذي كنتُ أمرُّ به، فاعتراني بشكلٍ عفويٍّ صوتُ لغةٍ تحمل في ثناياها الغضبَ والسخريةَ وصولاً ربما إلى الوقاحة؛ لغةٍ تتسمُ بإفراطٍ وتمردٍ درجَ على استخدامهما المشتومون المُهانون باعتبارها السبيل الوحيد للرد على ذكريات الازدراء، والخجل، والخجل من الخجل.
وسرعان ما تجلّى لي الأمر تجلياً لم أعد بعده أتصور أيةَ نقطةِ انطلاقٍ أخرى أرسّخُ بها قصةَ التمزق الاجتماعي الذي اعتراني حين كنت طالبةً، والذي ثُرْتُ فيه على إدانة الدولة الفرنسية للنساء اللاجئاتِ للإجهاض السريّ على يد مجهِضةٍ، وأردتُ أن أصف فيه كل ما جرى لجسدي الطفوليِّ، واكتشافي اللذةَ والقواعدَ؛ وبذا عرفتُ حينها أنّ المجالَ الاجتماعي النسوي هو السبيلُ التي سأتخذها في كتابي الأول الذي نُشر عام 1974؛ فغدا الثأرُ لعرقي والانتقام لجنسي مذ ذاك صنوَينِ.
كيف للمرء ألّا يتساءل عن الحياة دون أن يتساءل عن الكتابة أيضاً؟ كيف يكون ذلك دون تساؤلٍ عما إذا كان ذلك يعزز أو يُخلّ بالتصورات الباطنية المقبولة للكائنات والأشياء؟ ألم تكنِ الكتابة المتمردة بعنفها وسخريتها تعكس موقفاً ضعيفاً؟ حينما كان القارئ شخصاً يمتاز بالثقافة، كان موقفُه من ترف وتنازل شخصية الكتاب هو ذاتُ موقفه من شخصيات الحياة الواقعية، ولذا فإني -لإحباط تلك النظرة التي لا تُطاق حيال والدي الذي أردت سردَ حياته، وهو ما أشعرني بالخيانة- تبنيتُ ابتداءً من كتابي الرابع كتابةً محايدةً وموضوعيةً «مسطحةً» لا استعارةَ فيها ولا إشاراتٍ عاطفيةً؛ فلم أعرضِ العنفَ، بل جاء من الحقائق لا من الكتابة. لقد كان وما زال العثور على الكلمات التي تحتوي على كلٍّ من الواقع والإحساس الذي يوفره الواقع شاغلي الدائمَ في الكتابة أياً كان الموضوع.
كان الاستمرار في قول «أنا» ضرورياً بالنسبة لي؛ فضميرُ المتكلم المفردُ -ذاك الضمير الذي نحيا به في معظم لغاتنا من لحظة تعلُّمنا الكلامَ وحتى موتنا- غالباً ما يُعدّ في استخدامه الأدبي نرجسياً حالما أشار إلى المؤلف لا إلى شخصيةٍ من الخيال؛ فمن الجدير بالذكر أن الضمير «أنا» الذي كان حتى حينه امتيازَ النبلاء الذين يسردون به مآثرَ قتاليةً كبيرةً في مذكراتهم، كان في فرنسا القرن الثامن عشر انتصاراً ديمقراطيّاً، وتأكيداً على المساواة بين الأفراد، والحقِّ في أن يكونوا محورَ موضوع تاريخهم، وكذا ادّعى جان جاك روسو في المقدمة الأولى في «الاعترافات» فقال: "ولا يعترضنَّ أحدٌ على أني -لكوني مجردَ رجلٍ من عامة الشعب- لا أجيدُ من القول ما يستحق اهتمام القراء. إن كنتُ -في ظل أي غموضٍ قد أعيشه- أفكّر أكثر وأفضل من الملوك، فإن تاريخ روحي أكثر إثارةً من تاريخ أرواحهم".
لم يكن غرورُ العوام هذا هو ما حفزني، رغم كونه كذلك... بل تلك الرغبةُ في استخدام «أنا» -المذكر منها والمؤنث- كأداةِ استكشافٍ لالتقاط الأحاسيس التي دفنَتْها تلك الذاكرة، والتي لا يفتأ العالمُ من حولنا يمنحُناها في كل مكانٍ وكل حينٍ، وقد أصبح هذا الشرط المسبق للإحساس بالنسبة لي دليلاً وضمانةً لمصداقية بحثي؛ لكن لأي غرضٍ؟ بالنسبة لي، لا يتعلق الأمر بسرد قصة حياتي، ولا بإماطة اللثام عن أسرارها، بل بفك رموز حالةٍ مررتُ بها، وحدثٍ كابدتُه، وعلاقةِ حبٍّ عِشتُها، والكشف بذا عما لا يمكن خلقُه وتمريرُه لوعيٍّ آخرَ، وذكرياتٍ أخرى ربما إلا بالكتابة وحدها. من ذا الذي يستطيع أن يدّعيَ أن الحب والألم والحِداد والعار ليست مشاعرَ عالميةً؟
كتب فيكتور هوغو: "لا أحد منا يملك شرف أن يعيش حياتَه الخاصة"؛ لكنّ كل حتميٍّ يُعاشُ في الوضع الفردي -«ذا حدث لي أنا لا لسواي»- لا يمكن قراءته بذات الطريقة إلا إذا غدتْ «أنا» الكتاب شفافةً نوعاً ما، فاحتلّتْ مكانها «أنا» القارئ أو القارئة، وباتت في المحصلة عابرةً للفرد، فيبلغ بذا المفردُ العالميةَ.
هكذا رسمتُ لنفسي ملامح التزامي في الكتابة الذي لا يعتمد على الكتابة «من أجل» فئةٍ من القراء بعينها، بل «انطلاقاً» من تجربتي كامرأةٍ ومهاجرةٍ من الداخل، ومن ذاكرتي التي لا تبرح تزداد تموُّناً من صور الآخرين وكلماتهم على مدى السنين وحتى هذي اللحظة. باعتبار هذا الالتزام تعهداً مني بكتابةٍ يدعمها الإيمان فتغدو تأكيداً على أن كتاباً ما يمكن أن يساهم في تغيير الحياة الشخصية، وكسرِ عزلة الأشياء المكابَدة المدفونة عميقاً، والتفكير بشكلٍ مختلفٍ؛ فالحكمةُ في ولادة ما كُبتَ.
نرى مثال ذلك اليوم في تمرد أولئك النساء اللائي وجدنَ كلماتٍ يزعزعن بها سلطان الذكور وينتفضن بها، كما هي الحال في إيران، ضد أكثرِ أشكاله الغابرة عنفاً وقِدَماً؛ ورغم أني أكتبُ في بلدٍ ديمقراطيٍّ، فإني ما زلتُ أتساءل عن مكانة النساء فيها، وخاصةً في المجال الأدبي؛ فهن لم يحصلن بعدُ على تشريع إنتاج الأعمال؛ ففي فرنسا وجميع أنحاء العالم، رفيعو ثقافةٍ ذكورٌ لا يعلمون بوجود كتبٍ خطّتها أناملُ النساء، ولم يقتبسوا عنها قطُّ؛ وإنّ اعتراف الأكاديمية السويدية بعملي لهوَ برهانُ عدالةٍ وأملٍ لجميع الكاتبات.
بولادة الكبت الاجتماعي، فإن في استيعابِ علاقات الهيمنة الطبقية و/أو العرقية والجنسية التي لا يشعر بها سوى من يكابدها، إمكانيةً للتحرر الفردي والجماعي على حدٍّ سواءَ؛ وإنّ فكَّ رموز العالم الحقيقي بتجريده من الرؤى والقيم التي تحملها لغةٌ من اللغات يعني الإخلال بنظامه القائم، وزعزعة تسلسلاته الهرمية.
لكني لا أخلط بين هذا العمل السياسي للكتابة الأدبية الخاضعة لتلقّي القارئ أو القارئة، وبين اتخاذ المواقف التي أشعر أني مضطرةٌ لاتخاذها حيال الأحداث والصراعات والأفكار؛ فقد نشأتُ في جيل ما بعد الحرب العالمية الذي جرى فيه تلقائياً أنْ تحيّز الكتّابُ والمثقفون داخل السياسة الفرنسية، وشاركوا في النضالات الاجتماعية، فلا جازمَ اليوم ما إذا كانت الأمور ستتخذ منحىً مختلفاً دون كلامهم والتزامهم. في عالم اليوم الذي تعددت فيه مصادر المعلومات، بات التوجه متّسماً بسرعة استبدال المرء الصورَ بأخرى، واعتياده على شكلٍ من أشكال اللامبالاة، وتركيزه على الفن؛ بيْد أنّ في أوروبا -التي لا تزال في الوقت ذاته مقنّعةً بعنفِ حربٍ إمبرياليةٍ شنّها الديكتاتور الروسي- صعوداً لإيديولوجيةِ تقهقرٍ وانغلاقٍ تنتشر وتكتسب زخماً بشكلٍ مطّردٍ في الدول التي ما زالتْ ديمقراطيةً حتى الآن؛ إيديولوجيةٍ تقوم على إقصاء الأجانب والمهاجرين، والتخلي عن الضعفاء اقتصادياً، والرقابة على أجساد النساء؛ إيديولوجيةٍ فَرضتْ واجب اليقظة عليّ وعلى جميع من تتساوى عندهم قيمة الإنسان في كل مكانٍ؛ أما عبءُ إنقاذ الكوكب الذي دمرت شهيةُ القوى الاقتصادية جزءاً كبيراً منه، فلا ينبغي أن يقع -كما يُخشى- على عاتق من يعانون من الفقر؛ أما الصمت فلا يعود مناسباً ومتداولاً في لحظاتٍ تاريخيةٍ معينةٍ.
لا يبهرني منحي أعلى تمييزٍ أدبيٍّ متاحٍ؛ فهو عملٌ كتابيٌّ وبحثٌ شخصيٌّ يُجرى في عزلةٍ وشكٍّ، ثم يخرج لنورٍ كبيرٍ، كما لا أعدّ منحي جائزةَ نوبل انتصاراً فردياً، بل انتصارٌ جماعيٌّ في اعتقادي غير النابع من غرورٍ ولا من تواضعٍ بأي حالٍ من الأحوال؛ وإني لأشاركُ فخري بها من يرنون بطريقةٍ أو بأخرى نحو مزيدٍ من الحرية والمساواة والكرامة لجميع البشر أيّاً كان جنسهم وتصنيفهم ولون بشرتهم وثقافتهم، وأشاركه كذلك من يحملون همَّ الأجيال القادمة في الحفاظ على الأرض التي لم تفتأْ شهيةُ ثلةٍ قليلةٍ من الناس للربح تجعلها أقلَّ قابليةً لحياة جميع سكانها.
إذا ما استدرتُ أنظرُ لوعيدي الثأر لعرقي الذي قطعتُه في العشرين من عمري فلا يسعني البتُّ فيما إذا كنتُ قد نفّذت وعيدي ذاك، فمِن عرقي ومن أجدادي -رجالاً ونساءً قساةً ذوي مهامَّ تسببتْ في موتهم باكراً- تلقيتُ من القوة والغضب ما يكفي بلوغي رغبتي وطموحي في إفساح المجال له في الأدب الذي هو جملةٌ من أصواتٍ متعددةٍ رافقتني في وقتٍ مبكرٍ جداً، فمنحتني إمكانية الوصول إلى عوالم أخرى وأفكارٍ أخرى منها فكرةُ التمرد عليها، والرغبة في تعديلها؛ ولتسجيل صوتي كامرأةٍ ومنشقةٍ اجتماعياً فيما يقدم نفسه دائماً كمكانٍ للتحرر، وفي الأدب.
من أين أبدأ؟ سؤالٌ راودني عشرات المرات أمام الصفحة الخاوية كما لو أنّ عليّ أن أجد بين الجمل جملةً يتيمةً تكون مفتاحاً وحيداً يخولني الولوجَ إلى عالم التأليف، وتبديد كل الشكوك دفعةً واحدةً. ينتابُ مخيلتي اليوم هلعٌ متزايدٌ أرى من خلاله حاجةً تجتاح كياني؛ هلعٌ تواجهُ به مخيلتي الموقف الذي تجاوز ذهولَ الحدث: «هل هذا يحدث لي حقاً؟»، فأفتش في ثناياها عن جملةٍ تمنحني حريةً وبأساً أتحدثُ من خلالهما دونما ارتعادٍ في هذا المكان الذي دعوتموني إليه هذا المساء.
إنها جملةٌ لن أجدَّ في طلبها بعيداً لأنها لا بدّ ستنبجس بكلّ ما فيها من نقاءٍ وعنفٍ كحجرٍ كريم مصقولٍ صقلاً لا يقبل ارتياباً؛ جملةٌ جاثمةٌ في ثنايا مذكراتي الحميمة منذ ستين عاماً: «سأكتب ثأراً لعِرقي». مردِّدةً بذا صدى رامبو حين قال: "أنحدرُ من عِرقٍ هو الأدنى على مَرّ الدهور".
كنت في ربيعي الثاني والعشرين بكلية الآداب في إحدى المقاطعات طالبةً بين فتياتٍ وفتيةٍ كثيرٌ منهم كانوا من برجوازيّي تلك المقاطعة، فآمنتُ بفخرٍ وسذاجةٍ بأنّ الانتصاف من الظلم الاجتماعي المتعلق بالمولد ممكنٌ، بمجرد تأليف الكتب وامتهان الكتابة في ذيل سلالةٍ من فلاحين بلا أرضٍ، وعمالٍ وتجارٍ صغارٍ، وأُناسٍ تُحتقر فيهم عاداتُهم ولهجتهم وافتقارهم للثقافة، وأن الانتصاراتِ الفرديةَ -في وهمٍ عززتْه فيَّ المدرسةُ من خلال نجاحيَ الأكاديميِّ- قد قضتْ مراراً على قرونٍ من الهيمنة والفقر؛ فكيف لإنجازاتي الشخصية أن تعوضني أيّاً من الإهانات والإساءات التي تعرضتُ لها؟ سؤالٌ لم أطرحه على نفسي؛ وكان لي في ذلك بعضُ عذرٍ.
لم أكدْ أجيد القراءة حتى باتتِ الكتبُ رفاقي، والمطالعة مهنتي الطبيعية خارج أسوار المدرسة، ثم تعاهدتْ فيَّ هذي الذائقة -من بين زبونين من زبائن مكتبتها- أمٌّ وقارئةُ رواياتٍ رائعةٌ فضلتْ فيَّ القارئةَ على الخائطةِ الحائكة؛ فزادتْ كلفةُ الكتبِ العالية وما تحمله بين طياتها من شكوكٍ في مدرستي الدينية، من انجذابي لها: «دون كيشوت»، «رحلات غلڤر»، «جين آير»، «حكايات غريم وأندرسن»، «ديڤيد كوبرفيلد»، «ذهب مع الريح»، و«البؤساء» لاحقاً، عناقيد الغضب، الغثيان، الغريب. لقد كان للمصادفةِ -قياساً بتوصياتِ المدرسة- نصيبُ الأسد في رسم ملامحِ قراءاتي.
كان اختياري دراسة الآداب يعني بقائي في مجال الأدب الذي فاق في القيمة ما خلاه، وبات بالنسبة لي أسلوبَ حياةٍ جعلني أتخيلُ نفسي شخصيةً من شخصيات روايةٍ لـ فلوبير أو فيرجينيا وولف فأعيشها حرفياً، أو شخصيةً في قارةٍ كنتُ أقارنها دون وعيٍ مني ببيئتي الاجتماعية؛ وبذا لم أرَ في الكتابة إلا سبيلاً لتغيير الواقع.
لم يكُ رفضُ ناشرَين أو ثلاثةٍ لروايتي الأولى التي كانت ميزتُها الوحيدة تتجسد في البحث عن شكلٍ جديدٍ من أشكال الكتابة هو ما قلل من رغبتي وغروري، إنما هي مواقفُ حياتيةٌ يلقي فيه كونُك امرأةً لا رجلاً بكل ما في الاختلاف بينهما من ثقلٍ في مجتمعٍ تُوزَّع فيه الأدوارُ وفقاً للجنس، وتُحظر فيه وسائلُ منع الحمل، ويُعدُّ الإجهاضُ فيه جريمةً. في زواجٍ أثمر عن طفلين، كانت مهنةُ التدريس وعبءُ الإشراف على الأسرة يزيدان في كل يومٍ من بُعدي عن الكتابة من جهةٍ، وتعهدي بالثأر لعرقي من جهةٍ؛ فلم يكن بيدي أن أقرأ "مَثَل القانون" في «المحاكمة» للكاتب كافكا دون أن يتجسد أمام ناظرَيَّ مصيريَ المتمثلُ في الموت دو تخطّي عتبة بابٍ صُنع لي دون سوايَ، وهو الكتاب الذي ليس لغيري أن يكتبَه.
لكن هذا كان دون انتظار فرصةٍ تاريخيةٍ خاصةٍ. لقد كان في وفاة أبٍ قضى بعد ثلاثة أيامٍ من وصولي إلى مقر إجازته، وفي وظيفتي كمدرّسةٍ في فصولٍ ينحدر طلابها من أوساط شعبية تحاكي مَنشأي، وفي حركاتِ الاحتجاج العالمية جزءاً من عناصرَ عديدةٍ أعادتْ إقحامي في جاداتٍ مؤثرةٍ غيرِ متوقعةٍ، وسبلٍ أخذتْ بيدي نحو عالمِ أصولي و«عرقي»، وأضفتْ على رغبتي في الكتابة طابعاً طارئاً سريّاً جداً. لم يكنِ الأمرُ متعلّقاً هذه المرة باستسلامي لوهم «الكتابة عن تفاهةِ» سنواتي العشرين، بل بالخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه داخلَ ثنايا ذاكرةٍ مكبوتةٍ كبتاً يفوق الوصفَ، وتسليطِ الضوء على نمطِ وجودِ كبتي ذاك، واتخاذ الكتابةِ سبيلاً لفهم الأسباب الداخلية والخارجية التي أبعدتني عن أصولي.
ما في الكتابة من خيارٍ مسلَّمٍ به؛ لكنّ الذين ما عادوا يتحدثون لغة آبائهم إذ هاجروا، ومَن فقدوا لغتهم تماماً إذ انشقوا عن صفوف طبقتهم الاجتماعية فهم يفكرون ويعبّرون بكلماتٍ أخرى، يواجهون جميعاً عقباتٍ إضافيةً عُضالاً؛ ويشعرون في واقع الحال بصعوبةِ أو استحالةِ الكتابة باللغة المكتسبة السائدة التي تعلموا إتقانها، واستعذبوا في الأعمال الأدبية التي كُتبتْ بها كلَّ ما يتعلق بعالَمهم الأصلي، أولِ عالَمٍ بُنيَ على الحسّ والكلمات التي تتناول الحياة اليومية والعمل والمكانة الاجتماعية؛ فهُم من ناحيةٍ أمامَ اللغة التي تعلموا بها تسمية الأشياء بوحشيتها وصمتها، ومثالُ ذلك يتجلى في مواجهةِ الأم والابن في نص ألبير كامو الرائع "بين نعم ولا"؛ ومن ناحيةٍ أخرى أمامَ نماذج الأعمال المستوعَبة المثيرة التي فتحتِ الكون الأول، والتي يدينون لها برفعتهم، والتي غالباً ما يعتبرونها موطنَهم الحقيقيّ، أما في موطني فقد ظهر فلوبير وبروست وفيرجينيا وولف؛ فما ساعدوني في الكتابة حينما آنَ أوانُ استئنافها؛ ولذا كان عليّ أن أُحجمَ عن «الكتابة الجيدة»، والعبارة الجميلة التي كنتُ أعلّمها لطلابي، لاستئصال وعرض وفهم التمزق الذي كنتُ أمرُّ به، فاعتراني بشكلٍ عفويٍّ صوتُ لغةٍ تحمل في ثناياها الغضبَ والسخريةَ وصولاً ربما إلى الوقاحة؛ لغةٍ تتسمُ بإفراطٍ وتمردٍ درجَ على استخدامهما المشتومون المُهانون باعتبارها السبيل الوحيد للرد على ذكريات الازدراء، والخجل، والخجل من الخجل.
وسرعان ما تجلّى لي الأمر تجلياً لم أعد بعده أتصور أيةَ نقطةِ انطلاقٍ أخرى أرسّخُ بها قصةَ التمزق الاجتماعي الذي اعتراني حين كنت طالبةً، والذي ثُرْتُ فيه على إدانة الدولة الفرنسية للنساء اللاجئاتِ للإجهاض السريّ على يد مجهِضةٍ، وأردتُ أن أصف فيه كل ما جرى لجسدي الطفوليِّ، واكتشافي اللذةَ والقواعدَ؛ وبذا عرفتُ حينها أنّ المجالَ الاجتماعي النسوي هو السبيلُ التي سأتخذها في كتابي الأول الذي نُشر عام 1974؛ فغدا الثأرُ لعرقي والانتقام لجنسي مذ ذاك صنوَينِ.
كيف للمرء ألّا يتساءل عن الحياة دون أن يتساءل عن الكتابة أيضاً؟ كيف يكون ذلك دون تساؤلٍ عما إذا كان ذلك يعزز أو يُخلّ بالتصورات الباطنية المقبولة للكائنات والأشياء؟ ألم تكنِ الكتابة المتمردة بعنفها وسخريتها تعكس موقفاً ضعيفاً؟ حينما كان القارئ شخصاً يمتاز بالثقافة، كان موقفُه من ترف وتنازل شخصية الكتاب هو ذاتُ موقفه من شخصيات الحياة الواقعية، ولذا فإني -لإحباط تلك النظرة التي لا تُطاق حيال والدي الذي أردت سردَ حياته، وهو ما أشعرني بالخيانة- تبنيتُ ابتداءً من كتابي الرابع كتابةً محايدةً وموضوعيةً «مسطحةً» لا استعارةَ فيها ولا إشاراتٍ عاطفيةً؛ فلم أعرضِ العنفَ، بل جاء من الحقائق لا من الكتابة. لقد كان وما زال العثور على الكلمات التي تحتوي على كلٍّ من الواقع والإحساس الذي يوفره الواقع شاغلي الدائمَ في الكتابة أياً كان الموضوع.
كان الاستمرار في قول «أنا» ضرورياً بالنسبة لي؛ فضميرُ المتكلم المفردُ -ذاك الضمير الذي نحيا به في معظم لغاتنا من لحظة تعلُّمنا الكلامَ وحتى موتنا- غالباً ما يُعدّ في استخدامه الأدبي نرجسياً حالما أشار إلى المؤلف لا إلى شخصيةٍ من الخيال؛ فمن الجدير بالذكر أن الضمير «أنا» الذي كان حتى حينه امتيازَ النبلاء الذين يسردون به مآثرَ قتاليةً كبيرةً في مذكراتهم، كان في فرنسا القرن الثامن عشر انتصاراً ديمقراطيّاً، وتأكيداً على المساواة بين الأفراد، والحقِّ في أن يكونوا محورَ موضوع تاريخهم، وكذا ادّعى جان جاك روسو في المقدمة الأولى في «الاعترافات» فقال: "ولا يعترضنَّ أحدٌ على أني -لكوني مجردَ رجلٍ من عامة الشعب- لا أجيدُ من القول ما يستحق اهتمام القراء. إن كنتُ -في ظل أي غموضٍ قد أعيشه- أفكّر أكثر وأفضل من الملوك، فإن تاريخ روحي أكثر إثارةً من تاريخ أرواحهم".
لم يكن غرورُ العوام هذا هو ما حفزني، رغم كونه كذلك... بل تلك الرغبةُ في استخدام «أنا» -المذكر منها والمؤنث- كأداةِ استكشافٍ لالتقاط الأحاسيس التي دفنَتْها تلك الذاكرة، والتي لا يفتأ العالمُ من حولنا يمنحُناها في كل مكانٍ وكل حينٍ، وقد أصبح هذا الشرط المسبق للإحساس بالنسبة لي دليلاً وضمانةً لمصداقية بحثي؛ لكن لأي غرضٍ؟ بالنسبة لي، لا يتعلق الأمر بسرد قصة حياتي، ولا بإماطة اللثام عن أسرارها، بل بفك رموز حالةٍ مررتُ بها، وحدثٍ كابدتُه، وعلاقةِ حبٍّ عِشتُها، والكشف بذا عما لا يمكن خلقُه وتمريرُه لوعيٍّ آخرَ، وذكرياتٍ أخرى ربما إلا بالكتابة وحدها. من ذا الذي يستطيع أن يدّعيَ أن الحب والألم والحِداد والعار ليست مشاعرَ عالميةً؟
كتب فيكتور هوغو: "لا أحد منا يملك شرف أن يعيش حياتَه الخاصة"؛ لكنّ كل حتميٍّ يُعاشُ في الوضع الفردي -«ذا حدث لي أنا لا لسواي»- لا يمكن قراءته بذات الطريقة إلا إذا غدتْ «أنا» الكتاب شفافةً نوعاً ما، فاحتلّتْ مكانها «أنا» القارئ أو القارئة، وباتت في المحصلة عابرةً للفرد، فيبلغ بذا المفردُ العالميةَ.
هكذا رسمتُ لنفسي ملامح التزامي في الكتابة الذي لا يعتمد على الكتابة «من أجل» فئةٍ من القراء بعينها، بل «انطلاقاً» من تجربتي كامرأةٍ ومهاجرةٍ من الداخل، ومن ذاكرتي التي لا تبرح تزداد تموُّناً من صور الآخرين وكلماتهم على مدى السنين وحتى هذي اللحظة. باعتبار هذا الالتزام تعهداً مني بكتابةٍ يدعمها الإيمان فتغدو تأكيداً على أن كتاباً ما يمكن أن يساهم في تغيير الحياة الشخصية، وكسرِ عزلة الأشياء المكابَدة المدفونة عميقاً، والتفكير بشكلٍ مختلفٍ؛ فالحكمةُ في ولادة ما كُبتَ.
نرى مثال ذلك اليوم في تمرد أولئك النساء اللائي وجدنَ كلماتٍ يزعزعن بها سلطان الذكور وينتفضن بها، كما هي الحال في إيران، ضد أكثرِ أشكاله الغابرة عنفاً وقِدَماً؛ ورغم أني أكتبُ في بلدٍ ديمقراطيٍّ، فإني ما زلتُ أتساءل عن مكانة النساء فيها، وخاصةً في المجال الأدبي؛ فهن لم يحصلن بعدُ على تشريع إنتاج الأعمال؛ ففي فرنسا وجميع أنحاء العالم، رفيعو ثقافةٍ ذكورٌ لا يعلمون بوجود كتبٍ خطّتها أناملُ النساء، ولم يقتبسوا عنها قطُّ؛ وإنّ اعتراف الأكاديمية السويدية بعملي لهوَ برهانُ عدالةٍ وأملٍ لجميع الكاتبات.
بولادة الكبت الاجتماعي، فإن في استيعابِ علاقات الهيمنة الطبقية و/أو العرقية والجنسية التي لا يشعر بها سوى من يكابدها، إمكانيةً للتحرر الفردي والجماعي على حدٍّ سواءَ؛ وإنّ فكَّ رموز العالم الحقيقي بتجريده من الرؤى والقيم التي تحملها لغةٌ من اللغات يعني الإخلال بنظامه القائم، وزعزعة تسلسلاته الهرمية.
لكني لا أخلط بين هذا العمل السياسي للكتابة الأدبية الخاضعة لتلقّي القارئ أو القارئة، وبين اتخاذ المواقف التي أشعر أني مضطرةٌ لاتخاذها حيال الأحداث والصراعات والأفكار؛ فقد نشأتُ في جيل ما بعد الحرب العالمية الذي جرى فيه تلقائياً أنْ تحيّز الكتّابُ والمثقفون داخل السياسة الفرنسية، وشاركوا في النضالات الاجتماعية، فلا جازمَ اليوم ما إذا كانت الأمور ستتخذ منحىً مختلفاً دون كلامهم والتزامهم. في عالم اليوم الذي تعددت فيه مصادر المعلومات، بات التوجه متّسماً بسرعة استبدال المرء الصورَ بأخرى، واعتياده على شكلٍ من أشكال اللامبالاة، وتركيزه على الفن؛ بيْد أنّ في أوروبا -التي لا تزال في الوقت ذاته مقنّعةً بعنفِ حربٍ إمبرياليةٍ شنّها الديكتاتور الروسي- صعوداً لإيديولوجيةِ تقهقرٍ وانغلاقٍ تنتشر وتكتسب زخماً بشكلٍ مطّردٍ في الدول التي ما زالتْ ديمقراطيةً حتى الآن؛ إيديولوجيةٍ تقوم على إقصاء الأجانب والمهاجرين، والتخلي عن الضعفاء اقتصادياً، والرقابة على أجساد النساء؛ إيديولوجيةٍ فَرضتْ واجب اليقظة عليّ وعلى جميع من تتساوى عندهم قيمة الإنسان في كل مكانٍ؛ أما عبءُ إنقاذ الكوكب الذي دمرت شهيةُ القوى الاقتصادية جزءاً كبيراً منه، فلا ينبغي أن يقع -كما يُخشى- على عاتق من يعانون من الفقر؛ أما الصمت فلا يعود مناسباً ومتداولاً في لحظاتٍ تاريخيةٍ معينةٍ.
لا يبهرني منحي أعلى تمييزٍ أدبيٍّ متاحٍ؛ فهو عملٌ كتابيٌّ وبحثٌ شخصيٌّ يُجرى في عزلةٍ وشكٍّ، ثم يخرج لنورٍ كبيرٍ، كما لا أعدّ منحي جائزةَ نوبل انتصاراً فردياً، بل انتصارٌ جماعيٌّ في اعتقادي غير النابع من غرورٍ ولا من تواضعٍ بأي حالٍ من الأحوال؛ وإني لأشاركُ فخري بها من يرنون بطريقةٍ أو بأخرى نحو مزيدٍ من الحرية والمساواة والكرامة لجميع البشر أيّاً كان جنسهم وتصنيفهم ولون بشرتهم وثقافتهم، وأشاركه كذلك من يحملون همَّ الأجيال القادمة في الحفاظ على الأرض التي لم تفتأْ شهيةُ ثلةٍ قليلةٍ من الناس للربح تجعلها أقلَّ قابليةً لحياة جميع سكانها.
إذا ما استدرتُ أنظرُ لوعيدي الثأر لعرقي الذي قطعتُه في العشرين من عمري فلا يسعني البتُّ فيما إذا كنتُ قد نفّذت وعيدي ذاك، فمِن عرقي ومن أجدادي -رجالاً ونساءً قساةً ذوي مهامَّ تسببتْ في موتهم باكراً- تلقيتُ من القوة والغضب ما يكفي بلوغي رغبتي وطموحي في إفساح المجال له في الأدب الذي هو جملةٌ من أصواتٍ متعددةٍ رافقتني في وقتٍ مبكرٍ جداً، فمنحتني إمكانية الوصول إلى عوالم أخرى وأفكارٍ أخرى منها فكرةُ التمرد عليها، والرغبة في تعديلها؛ ولتسجيل صوتي كامرأةٍ ومنشقةٍ اجتماعياً فيما يقدم نفسه دائماً كمكانٍ للتحرر، وفي الأدب.