اقتران السلطة بالمال أو تعبيدُ الطريق نحو الفساد

السلطة هي النفوذ. أما المال، فيُقالُ عنه أنه "عصبُ الحرب" l'argent est le nerf de la guerre، أي بدونه، قد لا تبلغ هذه الحربُ أهدافَها. ومجازيا، عبارة "المال عَصَبُ الحرب" تشيرُ للأمور والمشكلات التي يتطلَّب التَّصدّْي لها أو إيجاد حلول لها إنفاقَ المال. وهذا يعني أنه، إذا توفَّرت الإرادة والنوايا الحسنة، فإن اقترانَ المال بالسلطة قد يكون عاملا أساسيا من عوامل تحقيق التَّنمية الاجتماعية والاقتصادية. غير أن ما يجب أن نلاحظَه اليوم، في هذا البلد السعيد، هو أن اقترانَ السلطة بالمال، عوضَ أن يكونَ حافزاً قوياً لخدمة الصالح العام، فإنه فتَحَ ويفتَحُ الأبوابَ على مصاريعها لبعض السياسيين ليعيثوا في البلاد فسادا وإفسادا.

فعلاً، المال يفتح جميع الأبواب ولو كانت مغلقةً بإحكام. ولو كانت مُحصَّنة بالاستقامة والنزاهة ولو كانت أقفالُها مُشفَّرة… بالمال، يُشترى كل شيء. تُشترى الضمائر والذِّممُ، تُشترى أصواتُ الناخبين، يُشترى السكوت، يُشترى الزُّورُ والتّزويرُ، يُشترى التَّواطؤ… بالمال، تُحاكُ الخُدعات والدسائس والمكايد. بالمال، تُصنع المؤمرات والتَّآمر… بالمالِ، يُشترى العمى، الصَّممُ والبُكمُ. بالمال، يتمُّ زرعُ الفتنة والعداء. بالمال، تتغيَّرُ الوجوه والمبادئ وأقوى الاعتقادات والقيم.

قد يقول قائلٌ : لا يزال في البلاد مواطنون شرفاء وأحرار. نعم وبكل تأكيد. لكن، يجب أن لا ننسى أن الفسادَ هو أقصر طريق لتحقيق العديد من المآرب وحاجات في نفس يعقوب. منها إرضاءُ الجشع والاغتناء السريع والاستفادة من الريع والزبونية والمحسوبية والصفقات، والسطو على حقوق الغير، واكتساب النفوذ والجاه، ونسجُ علاقات مُربحة اجتماعيا واقتصاديا…

إلى أن أصبحت السياسةُ، في المخيال الجماعي، مرادفة للفساد، بمعنى أن مجرَّدَ ذكرِ السياسة هو بمثابة ذكرٍ للفساد. أو بعبارة أخرى، ممارسةُ السياسة أصبحت ملتصقةً ببثِّ الفساد ونشره في المجتمع. ولهذا، عددٌ كبيرٌ من المواطنين، قد يتعاطفون مع بعض الأحزاب السياسية، لكنهم لا يمارسون السياسةَ.

بالفعل، السياسة، في هذا البلد السعيد، سُمعتُها لا تبعثُ على الارتياح ما دامت تذكِّر شريحةً عريضةً من المواطنين بالفساد. والدليل على ذلك أن الأحزاب السياسية، وبالأخص الأحزاب السياسية التي يُقالُ أنها وطنية، بعد فُقدان قِمَمِها الثقافية، أصبحت مليئةً بالأعيان وبأشباه المثقفين الذين، عوضَ أن يلعبوا دورَ المُنظِّرين والدارسين والباحثين في قضايا المجتمع المغربي، فإن همَّهم الوحيد هو الوصول إلى كراسي السلطة للاستفادة من مزاياها.

وفي هذا الصدد، دلوني على حزبٍ سياسي واحد جعل من محاربة الفساد والقضاء عليه أولويةَ الأولويات وقمَّةَ التقاشات. دلوني على حزب سياسي واحد قام بأبحاثٍ ودراسات لمعرفة أسباب الفساد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. دلوني على حزبٍ سياسي واحد أقام شراكةً مع بعض المختبرات الجامعية، وخصوصا تلك التي تخَصُّصُها العلوم الانسانية، لدراسة الفساد من كل الجوانب. دلوني على حزبٍ سياسي واحد يتوفَّر على استراتيجيةٍ بعيدة المدى لمحاربة الفساد…

بل إن أحزاباً سياسيةً، قبل أن تصلَ لسُذَّة الحكم، كان لها خِطابٌ ضد الفساد، بل خطابٌ كان يستهدف حزبا سياسيا يوجد اليوم في الأغلبية الحكومية ويقودها. اليوم، بعد وصول هذه الأحزاب إلى كراسي السلطة، التزمت الصمتَ، وبالنسبة لها، ما كان فسادا لم يعد فسادا.

سبحان مبدِّل الأحوال! أليس هذا دليلٌ قاطعٌ على أن أحزابَنا السياسية لا تهمُّها محاربةُ الفساد ولا تهمُّها تطلُّعات المواطنين. ما يهمُّها هو أنها مستعدة "باش تْقْلْبْ الفيستة"، للوصول إلى كراسي السلطة.

وبعبارة أخرى، إن أحزابَنا السياسية مستعدَّةٌ للتَّعايش مع القساد ولو كان صادراً عن أحزاب سياسية أخرى تتقاسم معها السلطة. وهذا هو ما يحدثُ بالفعل. الأحزاب السياسية تتعاقب على كراسي السلطة والفسادُ، عوضَ أن يتراجع، يتفاقم من عُهدةٍ سياسية إلى أخرى. إنه، في الحقيقة، أمرٌ غريبٌ أن تتعايشَ الأحزاب السياسيةُ مع الفساد عوضَ أن تحاربَه!

نعم! أمرٌ غريبٌ! لكن فقط بالنسبة لنا نحن المواطنون! أما بالنسبة للأحزاب السياسة، فالتَّعايشُ مع الفساد مربحٌ على أكثر من صعيد! فلا غرابةَ إذن أن يبقى الفسادُ مستشرياً في البلاد. ولا غرابة أن تُصنّفَ بلادُنا في المراتب الأخيرة فيما يتعلَّق بمؤشِّر التنمية البشرية ولا غرابةَ أن ينتشرَ الفقرُ والهشاشةُ والتَّهميشُ ولا غرابةَ أن لا يكونَ للمشاريع الكبرى التي تتحقَّق في البلاد انعكاسٌ على ظروف عيش المواطنين…

إن تحالفُ السلطة والمال يعدُّ أكبر عائقٍ يحول دون توزيع ثروات البلاد توزيعاً عادلاً ومنصِفا لسببٍ بسيط هو أن هذه الثروات تحتكرها اقتصاديا أقلية قليلة. وما لا يقبله العقل هو أن أحزابَنا السياسية مليئةٌ بنساءٍ ورجالٍ منحدرين من الطبقتين الفقيرة والمتوسِّطة. كان من المفروض أن يكونَ هؤلاء النساء والرجال من أوائل المدافعين عن هاتين الطبقتين، على الاٌقل من خلال المناداة داخل أحزابهم، بالتَّوزيع العادل لثروات البلاد. لم تحدث هذه المناداةُ، وفي نظري، لن تحدثَ ما دام مشهدُنا السياسي منخورا بالفساد حتى النُّخاع وما دام المثلُ المغربي يقول : "الله يحفْظْكْ من المشتاق إلاَ داقْ". فعوضَ أن يصطفوا إلى جانب هاتين الطبقتين، فضَّلوا مُراكمةَ الأموال و"التْبْزْنْيسْ" لأنهم يعرفون مسبقا أن الإفلاتَ من العقاب مَزِيَةٌ من مزايا مشهدنا السياسي الكبرى.

ما هو مؤكَّد هو أن تحالُفَ السلطة والمال سيزداد توسُّعا وحجما ما لم تتوفَّر إرادةٌ سياسيةٌ قوية للقضاء عليه، أو على الأقل، الحد من تأثيراته على المواطنين واقتصاد البلاد وسُمعتها بين الأمم. من بين هذه التَّاثيرات، أذكر على سبيل المثال:

-استمرارُ زيادة الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين لأن جشعَ المحتكرين للسلطة والمال لا حصرَ له.
-تدهورُ الطبقة المتوسطة وتراجعُ نفوذها اجتماعيا واقاصاديا واتِّساع الفرق بينها وبين الأقلية المسيطرة على السلطة والمال.
-تحويلُ "تحالف السلطة والمال" إلى قوة مهيمنة تُشجِّع إقبالَ رجال الأعمال على الانخراط في الأحزاب السياسية للاستفادة من الريع والصفقات المُعدَّة على المقاس.
-محاولة إغراء ما تبقى من النُّخب الفكرية والثقافية ومن المعارضة السياسية لترسيخ "تحالف السلطة والمال" في المشهد السياسي وفتحِ الباب على مصراعيه للبيرالية متوحِّشة.
-الزيادة الفاحشة في ثروات بعض المحتكرين للسلطة ومَن يتحالف معهم من أصحاب رؤوس الأموال والأعمال.
-تقوية شبكات (لوبيات أو مافيا) المصالح المتبادلة بين أعضاء "تحالف السلطة والمال" وفرضُ نفوذِهم على الأسواق ضاربةً عرضَ الحائط مبدأَ "المنافسة الشريفة".
-تقوية السيطرة والتَّحكُّم في المسارات الانتخابية وجعلها تميلُ نحو مصالح "تحالف السلطة والمال".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى