ومن المحتمل أن يكون فجر العصر الذهبي للشعر العربي هو هذه السنوات العشر الأولى من القرن السادس بعد الميلاد. فحوالي هذا الوقت كان قد اشتد ضرام حرب البسوس التي سجلت سنيها عاما فعاماً أشعار معاصريها إبان ذلك الوقت، كما أن أول قصيدة عربية أنشئت - كما تذكر أخبارهم - قصيدة نسج بردتها المهلهل بن ربيعة التغلبي في رثاء أخيه كليب الذي كان مصرعه سببا في إشعال نار الوغى واشتجار رماح قبيلتي بكر وتغلب. وعلى كل حال ففي خلال القرن التالي لهذه الحادثة يجد كثيرا من المنشدين في جميع أصقاع شبه الجزيرة العربية ظلوا مقتفين لهجة شعرية واحدة في معانٍ مشتركة ضلّت محترمة لم تمسسها يد التغيير والتبديل حتى نهاية العصر الأموي (750م) ومع ذلك فقد سادت الأدب أيام الخلافة العباسية روح جديدة سرعان ما ثبتت قوائم سلطانها الذي ظل على قوته حتى اليوم تقريبا، وكان هذا النمط يتمركز في القصيدة التي تعد الصورة - أو بتعبير أدق - المثل الأعلى لما يمكن تسميته بالعصر الرائع للأدب العربي. وتختلف القصيدة في عدد الأبيات لتي تتألف منها، لكنها قلما تقل عن خمسة وعشرين أو تربو على المائة، ولا يكون التصريع إلا في المطلع، ثم تجري القافية على روي واحد حتى نهاية القصيدة. أما الشعر المرسل فغريب عن العرب الذين لا يرون الإيقاع حلية وتنميقا أو تقييدا منهكا بل يعدونه روح القصيدة وجوهرها. وأغلب ما تكون القوافي رقيقة فيها أنوثة كقولهم سخينا، تلينا، مهينا، مخلدي، يدي، عوّدي، رجامها، سلامها، حرامها. وإنّ تذليل عقبات القافية الواحدة ليتطلب مهارة فنية كبرى حتى في لغة يكون من أشد خصائص تكوينها تعدد القوافي وكثرتها، وأن أطول المعلقات لأقصر من مرثية جراي، أما من ناحية الوزن فللشاعر الحرية في اختيار أي بحر إلا الرجز الذي يعد أتفه من أن يستعمل في القصيدة. بيد أن حريته لا تصل إلى اختيار الموضوعات أو إلى طريقة استغلالها بل نرى عكس ذلك، إذ أن مجرى أفكاره مقيد بشروط قاسية لا يستطيع الفكاك منها، وفي ذلك يقول ابن قتيبة: (وسمعت بعض أهل العلم يقول أن مقصد القصيد إنما ابتدئ فيها بذك والدمن والآثار، فشكى وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها إذ كان نازل العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه المدر لانتجاعهم الكلأ، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب لأن النسيب قريب من النفوس لما جعله الله في تركيب العباد من محبة للغزل وألف للنساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب، فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وانضاء الراحلة، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه على السماح وفضله على الأشباه)
وهناك مئات من القصائد لا تخرج عن هذا الوصف الذي لا يجب على كل حال أن يعتبر النموذج الثابت على الدوام إذ يتجاوز الشاعر في بعض الأحيان عن المقدمة الغزلية وخاصة في المراثي، وإذا لم تقده على الفور إلى الغرض المنشود تلاها وصف دقيق صادق لبعير الشاعر أو حصانه الذي يحمله خلال القفار في سرعة الظبي النافر أو الحمار الوحشي أو الظليم. وشعر البدو يفيض بالدراسة الجميلة لحياة الحيوان ووصفها؛ ولاشك أنهم كانوا يولون المديح همهم وعنايتهم، كما كان أحب شيء إلى نفوسهم. وقد استطاع الشاعر أيام الجاهلية أن يرضى نفسه فلم تكن القصيدة وحدة قائمة بذاتها، ولكنها أشبه ما تكون بمجموعه صور رسمتها يد واحدة أو كما يقول الشرقيون مكونة من لآلئ مختلفة الحجم والقيمة، ثم ألف منها عقد
قد يمكن وصف الشعر العربي القديم بأنه نقد تصويري للحياة الجاهلية وأفكارها، إذ نجد الشاعر في هذه البيئة بعيداً عن التكلف والميوعة والبهرجة. وليست تسمية مجموعة أبي تمام (بالحماسة) من قبيل الصدف. أو لأن ذلك عنوان من عناوين الكتاب أو فصل من فصوله يشغل قرابة نصفه. بل لأن الحماسة تشير إلى أجل فضيلة عظمها العربي، فقد امتدح البسالة في القتال والصبر عند اشتداد البلاء، والجد في طلب الثأر، وحماية الضعيف والازدراء بالأهوال، أو كما قال تنيسون (كافح واطلب تجد ولا تخضع)
ومن صور المثل الأعلى للبطل العربي الشنفري الأزدي، وقرينه في الغزو والسلب (تأبط شراً) فقد كانا قاطعي طريق طريدين، كما كانا شاعرين مبدعين، أما عن الأول فيروى أن بني سلامان اختطفوه طفلا وربوه فيهم، ولم يعرف اصله حتى نما عوده فاقسم لينتقمن من خاطفيه وعاد إلى قبيلته الأولى، ونذر أن يفتك بمائة رجل من بني سلامان فمثل بثمانية وتسعين ثم نجح مطاردوه في أسره، وبتر إحدى ذراعيه في دفاعه عن نفسه فشد على أعدائه بيده الأخرى وقتل واحدا منهم ولكنهم تكأكأوا عليه فغلب على أمره وقتل وقد بقى على إيفاءه نذره رجل واحد، وبينما كانت أقحوفته ملقاة على الأرض مر بجوارها رجل من أعدائه فركلها بقدمه فدخلت فيها شظية من جمجمته ونغل الجرح ومات الرجل، ومن ثم قتل المائة، وفي قصيدته الموسومة بلامية العرب يذكر طرفاً من صور بطولته وبسالته وعناء حياة السلب:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لِمَن خاف القِلى متحوَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضِيق على امرْئ ... سَرَى رَاغباً أو راهِباً وَهْوَ يعْقِلُ
ولي دونكم أهلْون سيد عَملَّس ... وأرْقط زُهْلول وعرفاءٍ جَيْألُ
هُمُ الأهْلُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّر ذائعِ ... لذّيهمْ وَلا الجَاني بما جَرَّ يخْذَلُ
وكلّ أبيّ باسِل غيرَ أنَّنيِ ... إذا عَرَضَتْ أولَى الطّرَائِدِ أبْسلُ
وإنْ مُدَّت الأيدْيِ إلى الزَّادِ لم أكن ... بأعْجلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَوْمِ أعْجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضلِّ
وإني كفاني فقدُ من لستَ جازياً ... بحسنَى ولا في قربة متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع، ... وأبيض إصليت، وصفراء عَيطلُ
هتوف من الملس المتون يزينها ... رَصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زال عنها السهم حنَّت كأنها ... مرزّأة ثكُلى ترِن وتعوْلُ
ثم يأخذ في الكلام عن قبيلته التي تلفظه لفظ النواة وتتركه هائما على وجهه حينما يتكالب عليها الأعداء مطالبيها بثأر تلك الدماء المهراقة ويقول:
فلا تقبروني إنّ قَبري مُحَرَّمُ ... عليكم ولكن أبْشِري أمَّ عامرٍ
إذا احتملوا رَأسِي ففي الرَّأسِ أكثْرِي ... وَغودِرَ عنْدَ الملتْقَى ثَمَّ سَايري
هنالك لا أرْجُو حيَاة تسرُنِي ... سَجِيسَ الليالي مُبسْلاً بالحرايرِ
أما ثابت بن جابر بن سفيان فهو من قبيلة (فهم) ويسمى تأبط شراً، وسبب ذلك أن أمه أبصرته ذات يوم خارجا من الخباء إلى الخلاء متأبطاً سيفاً فسألها أحدهم (أين ثابت؟) فقالت: (لست أدري، لقد تأبط شرا وخرج) وهناك قول آخر بأنه قد خرج في بعض أموره فالتقى بغولٍ فشدّ عليه وجزّ رأسه ثم حمله إلى بيته على هذه الحال، فقيل له تأبط شرا. وإن الأبيات التالية التي يصور بها خاله شمس بن مالك لكفيلة بتصوير طبيعة الشاعر ونفسه تماما وهي انعكاس لعاداته:
قليلُ التَّشكي لِلْمهم يصيبُهُ ... كثيرُ الهوى شتى النَوَى والمسالك
يّظل بِمَوْمَاة ويمسي بغَيرها ... جَحيِشاً ويَعْرَوْرى ظُهور المهالِك
ويَسبْق وقْدَ الرِّيح من حيث ينتحي ... بمنْخَرقٍ مِنْ شده المتَدَارِك
إذا حاصَ عَيْنيِه الكرى النَّوْم لم يزل ... له كالئٍ مِنْ قلب شيَحْان فاتك
ويجعلُ عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلةٍ من حدِّ أخلق صائِك
إذا هَزَّه في وجه قِرن تَهللتْ ... نوَاجذِ أفوَاهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يَرَى الوَحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمُّ النجوم الشوائك
وهذه الأبيات السالفة تصف في دقة وتلم كل الإلمام بالفضائل الأولية العربية من شجاعة وخشونة وبأس. وهنا نرى لزاما علينا أن ننتقل بالقارئ إلى ناحية بعيدة بعض الشيء عن الناحية الأدبية، تلك هي الناحية الخلقية التي تعد من الأسس المهمة التي قام عليها كيان المجتمع الوثني الذي ليس لدينا من مرجع عنه سوى الشعر الجاهلي. لم يكن للعرب قانون مكتوب أو مرجع ديني أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان هناك ثمة قوة أجل من هذه وأعلى شأنا وأنفذ تأثيراً في نفوسهم، تلك هي (الشرف)، ولكن ما هي خصائص الشرف البارزة وميزاته الواضحة التي تنطوي عليها فضيلة المروءة كما كان يفهمها عرب الجاهلية؟ لقد أشرنا إلى أن شجاعة العرب تشبه تمام الشبه شجاعة الإغريق (يولدها ثوران النفس ولكنها تتلاشى إزاء الإبطاء أو التراخي ومن ثم كان البطل العربي رجل جلاد يقتحم الأهوال، ويزدري الأخطار، كثير الفخر كما يظهر لنا ذلك من معلقة عمرو بن كلثوم، وإذا رأى أن ليس لما يفوته بالهرب خطر عظيم أسرع غير مليم، ولكنه يحارب ويناضل حتى آخر رمق فيه ذابّا عن نسائه اللائي كنّ إذا جد الجد واشتبكت الرماح، صحبن القبيلة ووقفن خلف صفوف القتال: لما رأيْتُ نِسَاءنا ... يفْحَصن بالمغراءِ شدَّا
وبَدَتْ لميسُ كأنَّها ... بَدْرُ السماء إذا تَبَدَّى
وبَدَتْ محَاسنُها التي ... تخفَى وكان الأمْرُ جَدَّا
نَازلْتُ كبْشَهُمو ولمْ ... أرَ مِنْ نِزَال الكبش بدَّا
وكانت الديمقراطية دستور القبيلة يتولى الإشراف على تطبيقه شيوخها الذين استحقوا السيادة بما لهم من شرف النسب، ونبل الأخلاق، وسعة الثروة، وحكمة الرأي، وكمال التجربة كما أشار إلى ذلك شاعر بدوي بقوله:
لا يَصلْح الناس فوْضى لا سراة لهم ... وَلا سَرَاة إذا جَهَّالهم سادوا
والبَيْتُ لا يبتَنى إلا لهُ عمدُ ... ولا عِمَاد إذا لمْ ترْسَ أوتادُ
وإن تجمع أوتادٌ وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
(يتبع)
حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 191
بتاريخ: 01 - 03 - 1937
وهناك مئات من القصائد لا تخرج عن هذا الوصف الذي لا يجب على كل حال أن يعتبر النموذج الثابت على الدوام إذ يتجاوز الشاعر في بعض الأحيان عن المقدمة الغزلية وخاصة في المراثي، وإذا لم تقده على الفور إلى الغرض المنشود تلاها وصف دقيق صادق لبعير الشاعر أو حصانه الذي يحمله خلال القفار في سرعة الظبي النافر أو الحمار الوحشي أو الظليم. وشعر البدو يفيض بالدراسة الجميلة لحياة الحيوان ووصفها؛ ولاشك أنهم كانوا يولون المديح همهم وعنايتهم، كما كان أحب شيء إلى نفوسهم. وقد استطاع الشاعر أيام الجاهلية أن يرضى نفسه فلم تكن القصيدة وحدة قائمة بذاتها، ولكنها أشبه ما تكون بمجموعه صور رسمتها يد واحدة أو كما يقول الشرقيون مكونة من لآلئ مختلفة الحجم والقيمة، ثم ألف منها عقد
قد يمكن وصف الشعر العربي القديم بأنه نقد تصويري للحياة الجاهلية وأفكارها، إذ نجد الشاعر في هذه البيئة بعيداً عن التكلف والميوعة والبهرجة. وليست تسمية مجموعة أبي تمام (بالحماسة) من قبيل الصدف. أو لأن ذلك عنوان من عناوين الكتاب أو فصل من فصوله يشغل قرابة نصفه. بل لأن الحماسة تشير إلى أجل فضيلة عظمها العربي، فقد امتدح البسالة في القتال والصبر عند اشتداد البلاء، والجد في طلب الثأر، وحماية الضعيف والازدراء بالأهوال، أو كما قال تنيسون (كافح واطلب تجد ولا تخضع)
ومن صور المثل الأعلى للبطل العربي الشنفري الأزدي، وقرينه في الغزو والسلب (تأبط شراً) فقد كانا قاطعي طريق طريدين، كما كانا شاعرين مبدعين، أما عن الأول فيروى أن بني سلامان اختطفوه طفلا وربوه فيهم، ولم يعرف اصله حتى نما عوده فاقسم لينتقمن من خاطفيه وعاد إلى قبيلته الأولى، ونذر أن يفتك بمائة رجل من بني سلامان فمثل بثمانية وتسعين ثم نجح مطاردوه في أسره، وبتر إحدى ذراعيه في دفاعه عن نفسه فشد على أعدائه بيده الأخرى وقتل واحدا منهم ولكنهم تكأكأوا عليه فغلب على أمره وقتل وقد بقى على إيفاءه نذره رجل واحد، وبينما كانت أقحوفته ملقاة على الأرض مر بجوارها رجل من أعدائه فركلها بقدمه فدخلت فيها شظية من جمجمته ونغل الجرح ومات الرجل، ومن ثم قتل المائة، وفي قصيدته الموسومة بلامية العرب يذكر طرفاً من صور بطولته وبسالته وعناء حياة السلب:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لِمَن خاف القِلى متحوَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضِيق على امرْئ ... سَرَى رَاغباً أو راهِباً وَهْوَ يعْقِلُ
ولي دونكم أهلْون سيد عَملَّس ... وأرْقط زُهْلول وعرفاءٍ جَيْألُ
هُمُ الأهْلُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّر ذائعِ ... لذّيهمْ وَلا الجَاني بما جَرَّ يخْذَلُ
وكلّ أبيّ باسِل غيرَ أنَّنيِ ... إذا عَرَضَتْ أولَى الطّرَائِدِ أبْسلُ
وإنْ مُدَّت الأيدْيِ إلى الزَّادِ لم أكن ... بأعْجلِهِمْ إذْ أجْشَعُ القَوْمِ أعْجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضلِّ
وإني كفاني فقدُ من لستَ جازياً ... بحسنَى ولا في قربة متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع، ... وأبيض إصليت، وصفراء عَيطلُ
هتوف من الملس المتون يزينها ... رَصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زال عنها السهم حنَّت كأنها ... مرزّأة ثكُلى ترِن وتعوْلُ
ثم يأخذ في الكلام عن قبيلته التي تلفظه لفظ النواة وتتركه هائما على وجهه حينما يتكالب عليها الأعداء مطالبيها بثأر تلك الدماء المهراقة ويقول:
فلا تقبروني إنّ قَبري مُحَرَّمُ ... عليكم ولكن أبْشِري أمَّ عامرٍ
إذا احتملوا رَأسِي ففي الرَّأسِ أكثْرِي ... وَغودِرَ عنْدَ الملتْقَى ثَمَّ سَايري
هنالك لا أرْجُو حيَاة تسرُنِي ... سَجِيسَ الليالي مُبسْلاً بالحرايرِ
أما ثابت بن جابر بن سفيان فهو من قبيلة (فهم) ويسمى تأبط شراً، وسبب ذلك أن أمه أبصرته ذات يوم خارجا من الخباء إلى الخلاء متأبطاً سيفاً فسألها أحدهم (أين ثابت؟) فقالت: (لست أدري، لقد تأبط شرا وخرج) وهناك قول آخر بأنه قد خرج في بعض أموره فالتقى بغولٍ فشدّ عليه وجزّ رأسه ثم حمله إلى بيته على هذه الحال، فقيل له تأبط شرا. وإن الأبيات التالية التي يصور بها خاله شمس بن مالك لكفيلة بتصوير طبيعة الشاعر ونفسه تماما وهي انعكاس لعاداته:
قليلُ التَّشكي لِلْمهم يصيبُهُ ... كثيرُ الهوى شتى النَوَى والمسالك
يّظل بِمَوْمَاة ويمسي بغَيرها ... جَحيِشاً ويَعْرَوْرى ظُهور المهالِك
ويَسبْق وقْدَ الرِّيح من حيث ينتحي ... بمنْخَرقٍ مِنْ شده المتَدَارِك
إذا حاصَ عَيْنيِه الكرى النَّوْم لم يزل ... له كالئٍ مِنْ قلب شيَحْان فاتك
ويجعلُ عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلةٍ من حدِّ أخلق صائِك
إذا هَزَّه في وجه قِرن تَهللتْ ... نوَاجذِ أفوَاهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يَرَى الوَحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمُّ النجوم الشوائك
وهذه الأبيات السالفة تصف في دقة وتلم كل الإلمام بالفضائل الأولية العربية من شجاعة وخشونة وبأس. وهنا نرى لزاما علينا أن ننتقل بالقارئ إلى ناحية بعيدة بعض الشيء عن الناحية الأدبية، تلك هي الناحية الخلقية التي تعد من الأسس المهمة التي قام عليها كيان المجتمع الوثني الذي ليس لدينا من مرجع عنه سوى الشعر الجاهلي. لم يكن للعرب قانون مكتوب أو مرجع ديني أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان هناك ثمة قوة أجل من هذه وأعلى شأنا وأنفذ تأثيراً في نفوسهم، تلك هي (الشرف)، ولكن ما هي خصائص الشرف البارزة وميزاته الواضحة التي تنطوي عليها فضيلة المروءة كما كان يفهمها عرب الجاهلية؟ لقد أشرنا إلى أن شجاعة العرب تشبه تمام الشبه شجاعة الإغريق (يولدها ثوران النفس ولكنها تتلاشى إزاء الإبطاء أو التراخي ومن ثم كان البطل العربي رجل جلاد يقتحم الأهوال، ويزدري الأخطار، كثير الفخر كما يظهر لنا ذلك من معلقة عمرو بن كلثوم، وإذا رأى أن ليس لما يفوته بالهرب خطر عظيم أسرع غير مليم، ولكنه يحارب ويناضل حتى آخر رمق فيه ذابّا عن نسائه اللائي كنّ إذا جد الجد واشتبكت الرماح، صحبن القبيلة ووقفن خلف صفوف القتال: لما رأيْتُ نِسَاءنا ... يفْحَصن بالمغراءِ شدَّا
وبَدَتْ لميسُ كأنَّها ... بَدْرُ السماء إذا تَبَدَّى
وبَدَتْ محَاسنُها التي ... تخفَى وكان الأمْرُ جَدَّا
نَازلْتُ كبْشَهُمو ولمْ ... أرَ مِنْ نِزَال الكبش بدَّا
وكانت الديمقراطية دستور القبيلة يتولى الإشراف على تطبيقه شيوخها الذين استحقوا السيادة بما لهم من شرف النسب، ونبل الأخلاق، وسعة الثروة، وحكمة الرأي، وكمال التجربة كما أشار إلى ذلك شاعر بدوي بقوله:
لا يَصلْح الناس فوْضى لا سراة لهم ... وَلا سَرَاة إذا جَهَّالهم سادوا
والبَيْتُ لا يبتَنى إلا لهُ عمدُ ... ولا عِمَاد إذا لمْ ترْسَ أوتادُ
وإن تجمع أوتادٌ وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
(يتبع)
حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 191
بتاريخ: 01 - 03 - 1937