د. أحمد الحطاب - السياسة بمعناها الجديد

لا تبحثوا عن معنى السياسة في المعاجم والقواميس! ستجدون في هذه المعاجم تفاسير مخالفة للواقع اليومي الذي تُمارس فيه هذه السياسة. انزلوا لهذا الواقع وستُفاجأون أن ما تُقدمه المعاجم من تفسير أصبح متجاوزا ولا يليق إلا بالمدينة الفاضلة، المدينة المثالية الأفلاطونية٠ مدينة كلها قيم إنسانية سامية وكلها أخلاق كريمة.

انزلوا إلى الواقع لتُلاحظوا أن السياسةَ أصبح لها معنى جديد. معنى نَسَجَه أعداء المدينة الفاضلة الذين لا يترآى لهم في الأفق إلا ما يمكن أن يجنونَه من تحريف السياسة ومن ممارستِها حسب الأهواء. أعداء بَرِعوا في صياغة قاموس خاص بهم. قاموس تحوَّل فيه مفهوم السياسة من معناه النبيل إلى المعنى الدنيء واللاأخلاقي. قاموس يُعرِّف السياسةَ كمجالٍ لا يجرأ على ولوجه إلا مَن له القدرة على البراعة في النفاق والتحريف والتزييف والتزوير. مجال لا يجرأ على ممارسته إلا مَن هو بارع في صُنعِ الكذب البرَّاق وتقمُّصِ أنجعِ أدوار النفاق والتسويف ودَرِّ الرماد على العيون وتخدير العقول واستِحمارها واستِغْبائها…

مجال أصبحت له مدرسةٌ قائمة الذات لها قدرة خارقة على التفريخ اللابيولوجي. تفريخ له رُوَّادٌ كُثُرٌ يشكِّلون ما يناهز أربعين طائفة قاسِمها المشترك هو السياسة بمعناها الجديد. السياسة التي، حسب قاموسها الخاص، أصبح لها مُرَادفات كثيرة منها على سبيل المثال: الكذب، النفاق، الخِداع، التَّملُّق، الغِش، المكر، الاحتيال، المراوغة، التَّضليل، المناورة، النصب، الخُبث، الدهاء، البُهتان، الحِربائية… السياسة التي، حسب قاموسها الخاص، أصبح لها دينٌ اسمُه السلطة. دينٌ له عَبَدَةٌ كثيبرون يحيون، يتنفسون، ينامون و يصحون بهذا الدين.

وإذا كان للدين أركان وثوابت معيَّنة، فالسياسة، بمعناها الجديد، لها ثابتٌ ورٌكن واحد يتمثَّل في عبادة السلطة. وهذا الركن تلتزم به وتحترمُه كل الأحزاب السياسية بدون استثناء وبدعمٍ إرادي أو ساذج من المجتمع. غير أن هناك أحزاباً تنجح في ممارسة طقوس العبادة، بينما أحزاب أخري تفشل في ممارسة نفس الطقوس. فما هو سببُ هذين النجاح والفشل؟

السبب الرئيسي هو أن أحزابا لها القدرة على التَّفنُّن في إتقان مختلف طقوس العبادة بينما أحزاب أخرى ليس لها نفس القدرة نظرا لكونها، في غالبيتِها، أحزاب مغمورة، كثيرٌ من المواطنين يجهلون وجودَها.

أما الطقوس، فقد أصبحت، عند الأحزاب، فُروضا يُحتِّمها الدين المتمثِّل في عبادة السلطة. فُروضٌ، مشروعة قانونيا وغير مشروعة، تلجأ لها، بانتظامٍ، الأحزاب السياسية أو أعضاءها من عَبدة السلطة، قبلَ، أثناءَ وبعدَ الانتخابات.

من بين هذه الطقوس، تجدر الإشارةُ إلى جَلبِ الأعيان، أميين ومثقفين، إلى دائرة الأحزاب، استعمال المال (غالبا ما يكون مالاً حراما) لشراء الضمائر والذِّمم والسكوت والتَّواطؤ والتَّآمُر…، بناء القصور الرملية، التَّوهيم، التَّسويف، الكذب…

وأهمُّ طقسٍ تُتقنُه الأحزاب السياسية ببراعة هو قدرتُها على تحويل السياسة من ما هو متعارفٌ عليه ب"فنِّ الممكن" إلى فنٍّ (أو إلى عصا موسى) يستطيع السياسيون، بواسطته، تحقيقَ كل ما يقولونه وكل ما يعِدون به المواطنين كيفما كانت الظروف والأحوال.

وعليه، فكلُّ ما تنُصُّ عليه القواميس والمعاجم من تفاسير للسياسة، أصبح متجاوزا أمام المعنى الجديد الذي أراده لها سياسيونا. المعنى الجديد الذي، إما أن يقبلَه المواطنون ويتعاملون معه وإما أن يُفرَضَ عليهم.

نَمْ قرِيرَ العين يا أفلاطون! إن مدينتَك الفاضلة لا تزال موجودةً على الورق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى