يحتاج المرء لكي يفهم حقيقة القرآن أمورا كثيرة منها أن يعود إلى الوراء 1450 سنة، ويسقط -على طريقة أفلام الكرتون- في قرية مكة. حيث مجتمع التجار والمحاربين والعبيد المستخدمين. المجتمع الذي يكاد يخلو من فئة الشعراء، في حالة استثنائية تثير الاستغراب. إذ كيف لقبيلة عربية فصيحة كقريش ألا تنجب الشعراء، في ظل ما للشعر عند العرب من أهمية خطيرة. وفجأة يخرج من هذا الوادي القاحل الذي لا يعرف الزرع ولا الشعر نص أدبي هو الأرقى والأخطر في كل نصوص العرب قديمها وحديثها، يسمى القرآن. وعلى لسان شخص منهم لم يُعرف طوال أربعين عاما من عمره بقول الشعر أو روايته!
ليس من اليسير على شخص في القرن الواحد والعشرين أن يقّيم -من الناحية الفنية- نصاً كالقرآن الكريم. لأسباب منها عدم امتلاكه الخبرة الكافية بمستوى النصوص المحايثة زمنيا لظهور القرآن. فلا نستطيع اليوم الحكم على النص القرآني بالتفوق الفني والبلاغي ما لم نعرف مستوى النصوص المنافسة له في زمنه. وأعني بالنصوص هنا الشعر والخطابة. لكن هذه المهمة ليست مستحيلة بالطبع. فمن حسن الحظ أن العرب قد حفظوا لنا عينات كافية من نخبة النصوص الأدبية التي صاغها كبار الأدباء العرب قبل الإسلام. أعني نصوص الشعر الجاهلي -وعلى رأسها معلقات الشعر- وبعض الخطب المشهورة، كتلك التي حفظها الجاحظ في "البيان والتبيين".
وبنظرة مقارنة بين النص القرآني والنصوص الجاهلية يمكننا القول إن القرآن لم يكن متفوقا على تلك النصوص وحسب، بل كان متفوقا على المستوى الفني للعصر نفسه. ولتقريب المعنى يمكننا القول إن الفرق بينه وبين تلك النصوص -على مستوى الأسلوب- كالفرق الفني بين رواية "آنا كرنينا" لتولستوي ومقامات الهمداني. وأول ما تلحظه في نصوص القرآن هو هذا الرواء الذي وصفه الوليد بن المغيرة بالحلاوة و"الطلاوة". ولن تدرك هذا المعنى إلا إذا عرفت الشعر الجاهلي وأساليب العرب اللغوية آنذاك معرفة جيدة. لقد أراد الوليد بن المغيرة أن يقول بلغتنا إن الفرق بين السورة القرآنية والقصيدة الجاهلية في أذن السامع كالفرق بين شلال الماء والموسيقى العسكرية. إنها حلاوة الإيقاع الداخلي في الجملة القرآنية، وطلاوة النظم الخالي من وحشي الكلام والتركيب والموسيقى الصاخبة الناتجة عن الإيقاع الرتيب للبحور والصيغ والقوافي.
الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- فهو يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره
الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- فهو يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره
أما إذا زوجت هذه الحلاوة وتلك الطلاوة بمعنى سام كريم ليس من معهود الكلام في الخطاب العربي آنذاك فأنت أمام القرآن. تأمل قوله: "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا". فاطر 43. تجد مظاهر عدة للجمال والمفارقة. فعبارة "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ" -على سبيل المثال- لا تبدو من مقولات العرب في تلك البيئة والفترة. إذ لا يبدو العقل العربي آنذاك مشغولا بمشكلة الاستكبار في الأرض. ولا يبدو أنه كان معتادا على الحديث عن "أرض" مجهولة الهوية. فهذا التجريد للمفاهيم ليس مما نألفه في الخطاب الجاهلي. فما بالك بالحديث عن السنن الإلهية في المستكبرين الماكرين. إننا نجد هذا النوع من الحديث بعيد الورود عن الذهن العربي قبل البعثة، لأنه -أي الكلام القرآني- يبدو كفائض لثقافة دينية عميقة تهتم بمشكلة الشر، وتنظر إلى مسيرة البشرية كوحدة عضوية واحدة. وهذا ما لا نجد له تاريخا ولا أثرا عند العرب.
ليس هذا فحسب، بل إن الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- إلا أنه يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره. فإذا عدنا إلى قضية الاستكبار في الأرض التي سلفت، نجده بعد أن نص على وجود سنن إلهية ثابتة لا تتخلف عن المستكبرين، يذكر في موضع آخر تفصيلة إضافية تصور كيفية سقوط المستكبرين، حيث يقول: "بلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". البقرة 81. فالمستكبر الظالم يخطئ الخطيئة وراء الخطيئة، والسيئة وراء السيئة، فتتحول هذه الخطايا إلى عصابة تطوقه وتحصره حتى يهلك. فالآية هنا لا تقدم تفسيرا سحريا لسقوط الطاغية والطغيان. وإنما تقدم تفسيرا موضوعيا لا يختلف عليه اثنان. لكن في أسلوب استعاري مؤثر، ومنظور علوي أكثر تأثيرا.
وفي موضع ثالث يضيف لقطة سيكلوجية إلى مشهد الاستكبار يقول فيها الحاكم المستكبر: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ". القصص 38. ومن المنطقي أن يقول بعدها: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ". فاطر29. هذه صورة متسقة لسيكلوجية المستبد الطاغية، لا يعرفها إلا من درس التاريخ وتأمل نماذجه الإنسانية. وبتجميع آيات الاستكبار والظلم والفرعنة، في نسق واحد، تكتشف أنك أمام رؤية مفصلة ومتسقة لمشكلة أساسية من مشكلات المجتمعات الإنسانية، يقدمها القرآن من زوايا مختلفة، بعضها سيكلوجي وبعضها الآخر تاريخي وبعضها الثالث في فلسفة التاريخ، كل ذلك في قالب أخلاقي يضعها في النسق الكبير لصراع الخير والشر. وهذا عمل مركب فوق طاقة العقل العربي في القرن السابع الميلادي.
ليس من اليسير على شخص في القرن الواحد والعشرين أن يقّيم -من الناحية الفنية- نصاً كالقرآن الكريم. لأسباب منها عدم امتلاكه الخبرة الكافية بمستوى النصوص المحايثة زمنيا لظهور القرآن. فلا نستطيع اليوم الحكم على النص القرآني بالتفوق الفني والبلاغي ما لم نعرف مستوى النصوص المنافسة له في زمنه. وأعني بالنصوص هنا الشعر والخطابة. لكن هذه المهمة ليست مستحيلة بالطبع. فمن حسن الحظ أن العرب قد حفظوا لنا عينات كافية من نخبة النصوص الأدبية التي صاغها كبار الأدباء العرب قبل الإسلام. أعني نصوص الشعر الجاهلي -وعلى رأسها معلقات الشعر- وبعض الخطب المشهورة، كتلك التي حفظها الجاحظ في "البيان والتبيين".
وبنظرة مقارنة بين النص القرآني والنصوص الجاهلية يمكننا القول إن القرآن لم يكن متفوقا على تلك النصوص وحسب، بل كان متفوقا على المستوى الفني للعصر نفسه. ولتقريب المعنى يمكننا القول إن الفرق بينه وبين تلك النصوص -على مستوى الأسلوب- كالفرق الفني بين رواية "آنا كرنينا" لتولستوي ومقامات الهمداني. وأول ما تلحظه في نصوص القرآن هو هذا الرواء الذي وصفه الوليد بن المغيرة بالحلاوة و"الطلاوة". ولن تدرك هذا المعنى إلا إذا عرفت الشعر الجاهلي وأساليب العرب اللغوية آنذاك معرفة جيدة. لقد أراد الوليد بن المغيرة أن يقول بلغتنا إن الفرق بين السورة القرآنية والقصيدة الجاهلية في أذن السامع كالفرق بين شلال الماء والموسيقى العسكرية. إنها حلاوة الإيقاع الداخلي في الجملة القرآنية، وطلاوة النظم الخالي من وحشي الكلام والتركيب والموسيقى الصاخبة الناتجة عن الإيقاع الرتيب للبحور والصيغ والقوافي.
الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- فهو يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره
الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- فهو يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره
أما إذا زوجت هذه الحلاوة وتلك الطلاوة بمعنى سام كريم ليس من معهود الكلام في الخطاب العربي آنذاك فأنت أمام القرآن. تأمل قوله: "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا". فاطر 43. تجد مظاهر عدة للجمال والمفارقة. فعبارة "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ" -على سبيل المثال- لا تبدو من مقولات العرب في تلك البيئة والفترة. إذ لا يبدو العقل العربي آنذاك مشغولا بمشكلة الاستكبار في الأرض. ولا يبدو أنه كان معتادا على الحديث عن "أرض" مجهولة الهوية. فهذا التجريد للمفاهيم ليس مما نألفه في الخطاب الجاهلي. فما بالك بالحديث عن السنن الإلهية في المستكبرين الماكرين. إننا نجد هذا النوع من الحديث بعيد الورود عن الذهن العربي قبل البعثة، لأنه -أي الكلام القرآني- يبدو كفائض لثقافة دينية عميقة تهتم بمشكلة الشر، وتنظر إلى مسيرة البشرية كوحدة عضوية واحدة. وهذا ما لا نجد له تاريخا ولا أثرا عند العرب.
ليس هذا فحسب، بل إن الخطاب القرآني -على الرغم من خصوصيته البنيوية التي تفرق آيات الموضوع الواحد على سور عديدة- إلا أنه يقدم في النهاية لوحة متسقة لمقولاته ومفهوماته، تدل على اتساق التصور في مصدره. فإذا عدنا إلى قضية الاستكبار في الأرض التي سلفت، نجده بعد أن نص على وجود سنن إلهية ثابتة لا تتخلف عن المستكبرين، يذكر في موضع آخر تفصيلة إضافية تصور كيفية سقوط المستكبرين، حيث يقول: "بلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". البقرة 81. فالمستكبر الظالم يخطئ الخطيئة وراء الخطيئة، والسيئة وراء السيئة، فتتحول هذه الخطايا إلى عصابة تطوقه وتحصره حتى يهلك. فالآية هنا لا تقدم تفسيرا سحريا لسقوط الطاغية والطغيان. وإنما تقدم تفسيرا موضوعيا لا يختلف عليه اثنان. لكن في أسلوب استعاري مؤثر، ومنظور علوي أكثر تأثيرا.
وفي موضع ثالث يضيف لقطة سيكلوجية إلى مشهد الاستكبار يقول فيها الحاكم المستكبر: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ". القصص 38. ومن المنطقي أن يقول بعدها: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ". فاطر29. هذه صورة متسقة لسيكلوجية المستبد الطاغية، لا يعرفها إلا من درس التاريخ وتأمل نماذجه الإنسانية. وبتجميع آيات الاستكبار والظلم والفرعنة، في نسق واحد، تكتشف أنك أمام رؤية مفصلة ومتسقة لمشكلة أساسية من مشكلات المجتمعات الإنسانية، يقدمها القرآن من زوايا مختلفة، بعضها سيكلوجي وبعضها الآخر تاريخي وبعضها الثالث في فلسفة التاريخ، كل ذلك في قالب أخلاقي يضعها في النسق الكبير لصراع الخير والشر. وهذا عمل مركب فوق طاقة العقل العربي في القرن السابع الميلادي.