حواس محمود - الحلاق عبر الزمن

كل إنسان يتردد إلى حلاق خاص به وذلك نتيجة اعتياده وارتياحه له عبر سنين طويلة من عمره الزمني، ومهنة الحلاقة هي مهنة عريقة جداً وموغلة في القدم، وتكاد تتجاوز إطارها المهني البحت إلى دائرة العلاقات الاجتماعية العامة، وفي كثير من الأحيان يتحول صالون الحلاقة إلى ديوانية لمناقشة شؤون الحياة والثقافة والسياسة والاقتصاد. .. الخ.

ظهر الحلاق أول ما ظهر عندما اهتم الإنسان بشعر رأسه، ونظراً لارتباط هذا الاهتمام في المجتمعات البدائية القديمة بمعتقدات خرافية ووثنية، كان الحلاق أقرب ما يكون إلى الكاهن، وفي هذا السياق يشار إلى أن بعض قبائل آسيا الوسطى كانت مهنة الحلاقة عندهم هي طرد الشر من النفس (التطهر من الأرواح الشريرة) عبر قص الشعر، وهذا ما أدى إلى تقريب الحلاق من معالجة مشكلات صحية أخرى، فلعب دور الطبيب بالإضافة للمهنة الأساسية وهي الحلاقة.

الاقتصاد تُحدد أسعار الحلاقة في البيضاء | قناة 218

ولعل أقدم توثيق للحلاق ودوره يعود إلى مصر الفرعونية، إذ تؤكد الآثار الفرعونية أن المصريين القدماء كانوا يحلقون شعر رأسهم وذقونهم وكانت حلاقة شعر الفرعون جزءاً أساسياً من مراسيم التنصيب، وكان كبير الكهنة يتولى هذه المهمة باعتباره وحده صاحب الحق في لمس شعر الفرعون، وفيما يتعلق بالحلاق المصري القديم الذي يتولى حلاقة شعر العامة، فقد كان متجولاً في شوارع البلدة، يحمل عدة الحلاقة معه في سلة مفتوحة من القش، وأهم أداة كانت الموس.

وفي اليونان القديمة ظهرت محلات الحلاقة الثابتة وشهدت ازدهاراً ملحوظاً في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد اعتنى حكماء أثينا وشيوخها بمظهر ذقونهم ولحاهم التي شاؤوها أن تكون على أحسن شكل ممكن، وفي رواية طريفة – في القرن الثالث قبل الميلاد- أن الفرس كانوا يربطون الأسرى المقدونيين من ذقونهم أو شعر رؤوسهم الطويل إلى الخيل لتسحلهم في الطرقات والشوارع الأمر الذي دعا الاسكندر المقدوني إلى أن يأمر جنوده بحلاقة شعر رؤوسهم وذقونهم تماماً.

ويشار إلى أن الرومان أضافوا– آنذاك- إلى هذه المهنة جملة من أعمال أخرى مثل التصفيف والتدليك وتقليم الأظافر وطليها…، أي كل ما نعرفه اليوم من خدمات إضافية تعرضها علينا اختيارياً محالُّ الحلاقة بعد قص الشعر.

علاقة الحلاقة بالطب:

أدت الحروب الصليبية وعملية الاحتكاك بين الأوروبيين والعرب إلى اهتمام الأخيرين بدراسة الطب، فبدأت المنافسة بين الأطباء المحترفين والحلاقين الذين سارعوا إلى إنشاء أول منظمة لهم في مدينة روان الفرنسية، وفي القرن الرابع عشر أنشأ الحلاقون الجراحون أول معهد لتدريس مهنتهم في باريس وهي المدرسة التي أصبحت لاحقاً أول مؤسسة لتعليم الجراحة في أوربا.

وفي منتصف القرن الثامن عشر انفصلت مهنة الطب عن الحلاقة بقرار من البرلمان في انجلترا، ثم في فرنسا بقرار من الملك لويس الرابع عشر، ولم يأفل القرن الثامن عشر إلا وكانت مهنة الطب قد استقلت تماماً عن مهنة الحلاقة.

كيف بدأت: كيف بدأت مهنة الحلاقة

حلاق أيام زمان:

وفي البلدان العربية كان الحلاق الجوال يتنطَّحُ لبعض المهمات الطبية مثل قلع الأضراس أو ختان الأولاد، ولهذا عُرِفَ باسم ” حلاق الصحة ” (وحتى وقتنا الراهن لا زال الحلاق يقوم ببعض الإجراءات الطبية السابقة وغيرها، وكمثال معالجة مرض جلدي يسمى الثعلبة) .

لقد كانت القرى والبلدات الصغيرة في أرياف بلاد الشام مثلاً على موعد مع الحلاق الجوَّال (على غرار السماني المتجول الذي كان يجوب في القرى والأرياف حتى وقت قريب جدا) الذي يزورها مرة في الأسبوع أو في الشهر وفق عدد السكان وحاجتهم إلى قص شعرهم.

أما في المدن فكان الحلاق الجوال يقصد أماكن تجمع الرجال كالمقاهي وأماكن العمل المزدحمة والأسواق، حاملاً حقيبته التي تحتوي على عدة الحلاقة بشكل كامل وتتألف من: مشط- مقص- موس- حزام جلدي لسنِّ الموس وصابون حلاقة مع وعائه، بودرة بيضاء، وفرشاة لتنظيف العنق بعد الحلاقة ولم يستقر الحلاق في العالم العربي في دكانه إلا في فترة الانتداب الفرنسي والانجليزي نتيجة لما جاء به هذا الانتداب من مفاهيم وتقاليد جديدة إلى بلاد الشام ومصر.

ويتألف الدكان من كرسي مرتفع نسبياً يسمح للحلاق الواقف بجواره بالتعامل مع رأس الزبون من دون الإنحناء عليه، ومرآة مستطيلة أمام الكرسي ليتابع الزبون مجريات العملية، وبضعة مقاعد للمنتظرين أدوارهم، أما أدوات الحلاقة فقد شهدت هي الأخرى بعض التطور، إذ ظهرت آلة القص الميكانيكية إلى جانب المقص التقليدي، والموس للحلاقة الناعمة والأمشاط وفرشاة التنظيف وغيرها.

وابتداء من أربعينيات القرن المنصرم، أضافت بعض محلات الحلاقة إلى أصولها جهاز الراديو الذي يبث الموسيقا والأغاني فيشيع جواً من المرح في المحلّ، ويتمُّ الاستماع للأخبار السياسية التي تعزز مناقشتها متانة العلاقة بين الحلاق وزبائنه.

الحلاق والثرثرة:

هنالك انطباع سائد عند الناس أن الحلاق يتكلم كثيراً مع زبائنه”ثرثار”، وفي هذا الصدد هنالك حكاية طريفة تقول: أن شخصاً ظريفاً وعصبي المزاج قد دخل ذات مرة دكان حلاقة، وبعد جلوسه على الكرسي سأله الحلاق ذلك السؤال الاعتيادي المعروف: كيف تريد أن أقص لكَ شعرك؟ فأجاب الرجل بصمتٍ، ولعل التفسير السيكولوجي لثرثرة الحلاق هو تسلية الزبون وتلهية النفس للترويح عنها، وللنأي بنفسه عن الشعوربالتعب الجسدي.

حلاق روؤساء مصر:

محمود لبيب هو حلاق الرئيسين المصريين أنور السادات وحسني مبارك، ونتيجة لخبرته الطويلة بهما استطاع أن يكشف فرقاً واضحاً بينهما في تعاملهما معه، إذ وصف السادات بأنه منطلق، أما مبارك فهو حريص جداً وقليل الكلام وهادئ الطباع، لدرجة أنه طوال تلك السنوات الماضية لم يفتح معه حواراً إلا في السنوات الأربع الأخيرة.

تشارلي شابلن الحلاق الأشهر في السينما:

الحلاق الأشهر بين الحلاقين السينمائيين هو ” تشارلي شابلن” في ” الدكتاتور” حيث يلعب دوراً مزدوجاً: حلاقاً يهودياً ودكتاتوراً جائراً يشبه “هتلر”، حقق شابلن هذا الفيلم سنة 1940 م في أمريكا ضد هتلر والنازيين طبعا، حيث جعل الدكتاتور الحقيقي يثمل ويختفي، مما اضطر معاونيه إلى الإتيان بالحلاق الشبيه له رغم يهوديته، كي يحل محله في الاحتفال الكبير، ملقياً خطبة تقول كل ما هو مناقض لما كان يريد الدكتاتور الحقيقي قوله.

حلاق إشبيلية الحلاق الأشهر في التاريخ الموسيقي:

تسربت مهنة الحلاقة وشخصيات الحلاقين منذ قرون إلى الأدب وإلى الموسيقا، ففي القرن الثامن عشر وضع المؤلف المسرحي الفرنسي الشهير ” بو مارشيه” (1732-1799) ثلاث مسرحيات عن شخصية ” فيجارو” حلاق من مدينة إشبيلية الإسبانية الأندلسية، حوَل الموسيقار النسوي الأشهر موزار، واحدة منها إلى أوبرا بعنوان ” زواج فيجارو ” غير أن الأوبرا التي لحنها بعد ذلك الموسيقار الإيطالي الشهير روسيني كانت بعنوان ” حلاق إشبيلية”.

الحلاق ومنتخب كرة القدم:

يذكر أن حلاق المنتخب التونسي لكرة القدم قد احتج على قرار اللجنة المنظمة بتعيين حلاق من أصل غير تونسي لحلاقة اللاعبين التونسيين خلال مباريات كأس العالم لعام 2006 في ألمانيا، وذكر تقرير أخباري أن الحلاق ويدعى ” خالد” اعتاد مرافقة اللاعبين التونسيين للخارج في مختلف المناسبات الرياضية، انتقد قرار اختيار حلاق من أصل عراقي ويقيم في ألمانيا لحلاقة اللاعبين التونسيين.

معتبراً أن ذلك سيحرمه من الاستجابة لرغبات اللاعبين في كل ما يتعلق بشؤون الحلاقة، كما انتقد الحلاق ” خالد” عدم اهتمام الاتحاد التونسي لكرة القدم بالموضوع، وبقي لنا أخيراً لنذكر أن هنالك من امتهن الحلاقة في العالم العربي في مقتبل عمره وفيما بعد أضحى روائياً عربياً كبيراً وهو حنا مينة (الروائي السوري المعروف) الذي نشأ عصامياً وكون نفسه بنفسه دون المرور بالمراحل الاعتيادية من مدارس ومعاهد وجامعات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى