منقول - الحلاقة أيام زمان، من الحلاقة إلى قلع الأضراس!!!

في زمن قصات ” البانكي ” و” المارينز” و”الفيرزاتشي” وغيرها من المسميات أصبح العثور على حلاق من أيام زمان أشبه بالبحث عن “إبرة في كومة قش” كما يُقال ، وأيام زمان التي نقصدها هي النصف الأول من القرن الماضي حيث كان الحلاق يحمل حقيبته المحملة بعدة الشغل من مقصات وأمشاط ومرايا وزيوت شعر محضَّرة يدوياً وقطع ” الشبَّة ” ويتجول على قدميه في الشوارع والأزقة وبين القرى أيضاً ، وربما ظل أكثر من أسبوع أو أسبوعين خارج منزله وهو يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن لقمة العيش التي يقطفها من رؤوس الناس ، وكان هذا الحلاق يقوم بما يقوم به الطبيب اليوم من معالجة للأسنان والعيون واللوزات وغيرها من أعضاء الجسم ، ويذكر الباحث “أحمد حلمي العلاف” في كتابه ( دمشق مطلع القرن العشرين ) أن الجراحة وطبابة الأسنان والعيون مجتمعة كانت داخلة في اختصاص الحلاقين. فالحلاق كان جراحاً وكحالاً وطبيب أسنان ومزيناً لقص الشعور وختان الأولاد ، كما كان حجاماً ” . ويرسم المؤرخ محمد سعيد القاسمي في كتابه ( قاموس الصناعات الشامية ) صوراً كاريكاتورية غاية في الغرابة والطرافة لحلاق أيام زمان ولاسيما حلاق الفقراء والفلاحين ، وهو من لا دكان له بل كان يطوف في الشوارع والأسواق يفتش عن زبائنه ، فإذا قصده أحد الفلاحين أو الفقراء علق عدته في حائط كشارع ” السنانية” – إحدى مناطق دمشق القديمة – وأجلسه على كرسي من قش ليحلق له بموسى كالمنشار فلا يتم له الحلاقة حتى يخضِّب رأسه بحنَّاء الدماء من كثرة الجروح التي يسببها موسه الصدئ ، وكان بعض الحلاقين – كما يقول القاسمي – له معرفة بالفصادة والحجامة وعنده آلاتها كـ ” المحجم ” وهو آلة كالقرن مجوفة رفيعة الرأس مثقوبة الفم ” ويمتص الحاجم الدم بعد شرط الجلد بآلة حادة كالموس ، وقد يحجم بغير القرن كـ ” كاسات الزجاج ” من غير حاجة إلى مص الدم ، أو قد يستخدم ( العلق ) لسحب بعض دم الجسم المريض ، وإلى عهد ليس ببعيد كان الحلاق يمارس مهمات طبيب الأسنان ذاته فيشرط اللثة ويعالج الأضراس والأسنان وقد يقتلعها بالإضافة إلى معالجة أمراض ” بنات الأذنين ” ورفعها وقطعها أحياناً ومن هنا شاع المثل الشعبي ( بيكون عم يحلق بيصير يقلِّع أضراس) كناية عن الشخص الذي يشغل نفسه بأمور عدة في وقت واحد . الحلاق الجوال نادراً ما نرى اليوم حلاقاً جوالاً كأيام زمان باستثناء حلاق واحد رصدناه يجوب شوارع وأزقة دمشق القديمة حاملاً حقيبته التي تضم عدة الشغل من مقصات وأمشاط وزجاجات الكولونيا ومناشف الزبائن وكثيراً ما يدور على المحال والمستشفيات أو يدخل إلى بعض البيوت تلبية لطلب أصحابها ، وعندما يتعب من تجواله يدلف إلى مقهى الكمال الشعبي في منتصف المدينة ليأخذ قيلولة وربما مارس عمله فيها أيضاً بين قرقعة الأراجيل ورنين حجر الزهر على الطاولات وصيحات الهرج والمرج التي تملأ أجواء المقهى ، وعندما اقتربنا منه للحديث معه رفض بداعي الخوف من الضرائب والتموين كما قال ولذلك اتجهنا إلى حلاق “نظامي” يمارس هذه المهنة منذ أكثر من ستين عاماً وهو الحاج “عبد القادر غنام” الذي تحدث لكاتب هذه السطور عن مهنة الحلاقة أيام زمان قائلاً : قبل أكثر من خمسين سنة كان الحلاق يحلق لزبائنه على كرسي خيزران له مسند متحرك يُوضع خلف رقبة الزبون ليستند عليه ، وأمام هذا الكرسي كرسي آخر صغير يُوضع تحت قدميه ولا يزال بعض الحلاقين القدامى يحتفظون بهذه الكراسي القديمة كذكرى عزيزة من أيام الماضي الجميل . وأضاف غنام: في الماضي كان الحلاق يحلق للناس مقابل مد حنطة أو مد ونصف مد ذرة صفراء أو خمس ليرات سورية للشخص الواحد ” طوال عام كامل ، وكل ولدين بحلاقة رجل واحد . هذا بالنسبة للقرى والأرياف ، أما بالنسبة للمدينة فكان قص الشعر بنصف ليرة سورية والذقن بربع ليرة ، وحلاقة الولد بربع ليرة تُدفع مباشرة ، وبعد سنوات أصبحت حلاقة الرجل بليرة سورية و” قش الذقن ” بنصف ليرة وهناك من الزبائن من يحلق بمعدل ثلاث مرات شهرياً ويدفع له خمس ليرات في نهاية كل شهر ، وكانت الحلاقة تتم بموسى ( الكرة الألماني الأخرس ) أي بلا صوت وبموسى ( أمريكي أو أوروبي ) مجفف يُسمع صوته على مسافة أمتار، وبعد فترة من الاستعمال يقوم الحلاق بسن الموسى على قطعة جلدية تُدعى ” الآيش ” من الجلد الحيواني ( جلد جاموس أو جمل ) حلاقة على السراج ! ويؤكد الحاج عبد القادر غنام أن حلاق أيام زمان كان يقوم بمهمة الطبيب حيث يعالج الأسنان ويخلع التالف منها و( يقبع ) للأولاد و(يرفِّع) لهم أي يوسع لهم اللوزتين حينما تلتهبان ، ولا تزال هذه العملية تجرى عند بعض الحلاقين من ذوي الخبرة اليوم رغم تطور وسائل الطب ، وكان الحلاقون يقومون بهذا العمل مجاناً من دون مقابل وربما يعطيهم والد الطفل هدية بسيطة . وكان بعض الحلاقين يجوبون القرى والأرياف حاملين عدة الشغل فيحلقون للفلاحين في بيوتهم أو ربما اجتمع أكثر من زبون في منزل المختار فيقوم بحلاقة رؤوسهم وفي الليل يحلق لزبائنه على ضوء سراج الكاز ثم أصبح يحلق على ” اللوكس ” قبل أن تدخل الكهرباء إلى القرى السورية وفي الأعياد والمناسبات الاجتماعية وبخاصة في حمص كان للحلاق حضور بارز إذ يخرج إلى الاحتفالات كـ ” خميس المشايخ ” أو ” خميس الأموات ” ويقوم بجمع البيض البلدي الذي يعطى له وتُسمى هذه الأعطية ” خميسية ” وكان من المعتاد قبل حلول الأعياد والمناسبات الاجتماعية أن يكتب الحلاق على مرآة صالونه عبارة ” كل عام وأنتم بخير ” فيفهم الزبائن المقصود ويعطونه ” عيدية ” فوق أجرته ولا تزال هذه العادة سائدة إلى اليوم .
المزيد: الحلاقة أيام زمان، من الحلاقة إلى قلع الأضراس !!! موقع سوريات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى