حان الوقت الذي يجب أن يكون اسم "محمد رجب البيومي" متداولًا على ألسنة الأدباء!
ولنا أملٌ بعد سلسلة هذه المقالات برعاية جريدة "الديوان الجديد" لرائدها الأستاذ الطلعة عمرو الزيات أن يعرف الشباب المتطلع إلى الأدب قيمة البيوميّ الحقيقية، فهو مضرب المثل في أكثر من اتجاه بلغته الرائعة التي تجذب القارئ إليها في اهتمام وشوق، وهو من أدلة تميزه الأصيل.
إنّي أستعير هنا ما قاله أستاذي محمد رجب البيومي في أستاذه محمد فريد وجدي حين قال: "لا أرى أن ظلماً فادحاً نزل بسيرة مفكر عظيم؛ كهذا الظلم الذي حاق بذكرى البحاثة الموسوعة الضليع، والكاتب الإسلامي الأكبر الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله، فإننا نشهد الكتب تؤلف، والمقالات تنشر، والأحاديث تذاع، دائرة حول أناس لم يبلغوا مبلغ تلاميذه في التفكير، ولم يعطوا معشار ما أعطى من العلم، ولم يرزقوا بعض ما تحلى به من مكارم الأخلاق، وسمو النفس، ولين الجانب، وتلك حالٌ تدعو إلى التساؤل حقاً". [محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والمفكر الموسوعي، ص7]
وما كتبه البيوميّ عن أستاذه ينطبق عليه تماماً، فقد لحقه الكثير من أمثال هذا الظلم، وإنّي أتساءل لماذا يعيش العظماء في عزلةٍ من التاريخ وفي بعد عن التكريم الحقيقي؟!
وهذا الغبن الذي لحق أستاذنا البيومي بعد وفاته لحقه أيضاً في حياته، فلم ترفع له رتبة، أو يقم له حفل تكريم يليق بقيمته العلمية، ولم يسع أحدٌ إلى إقامة تأبين يحفظ مكانته بعد وفاته، وإذا كنا قصرنا فيما مضى فإني أرى أنه من غير اللائق أن تحل علينا ذكرى ميلاده الشريفة دون الاحتفاء به وتجديد ذكراه في النفوس، ودون أن تتبوأ شخصيته مكانتها اللائقة بها في عالم الأدب والتاريخ وغير ذلك من ضروب الفنون.
إنّي أعترف أن عزلته العلمية التي فرضها على نفسه وشخصيته المتواضعة وترفعه عن المناصب والزلفى إلى الكبار ألقى على اسمه الكريم شعاراً من النسيان أحياناً، ومن الجحود أحياناً أخرى، فنسيه البعض، وتجاهله آخرون رغم علو قدره ومكانته وما قدّمه من تراث معرفيّ زاخر.
لقد حفظ لنا البيومي تاريخاً باهراً لعظماء القرن الماضي، فعرفنا عن طريقة مجموعة هائلة من الأحداث النفيسة والروايات النادرة التي رواها مباشرة عن أصحابها، وفي تراثه خزانة حكايات وأحداث، ولا يعرف أحد يماثله في كثرة ما ينقله من أخبار عن تلك الشخوص الذين اجتمع بهم، وهو أقرب الأدباء المعاصرين في نقولاته ونوادره وفرائده محاكاة للأوائل، حتى عدّ من النماذج الفريدة التي تظهر علينا في النواحي العلمية والثقافية بين آن وآخر.
وفي كتابي "الفيض القيوميّ بمرويات البيوميّ ... شُخُوص وأحداث في حياة محمد رجب البيوميّ" جمع تلك النوادر والروايات العزيزة مع ترتيب مبتكر، وتفصيل شامل لأحداثها، وتراجم لأشخاصها، فقد تهيأ لي أثناء قراءة تراثه ومقالاته كثير من المواد التي أعتاد على قراءتها بصفة مستمرة؛ لأشبع رغبة نفسية في استجلاء تلك الشخصيات الخالدة في تاريخنا الحديث، فرأيت أن تكون في كتاب يضمها؛ اختار عنوانه صديقي فضيلة الدكتور أحمد ممدوح سعد Ahmed Mamdouh -أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- العالم الجليل والباحث المبرز، وهذه بعض الروايات المختارة؛ لتكون دليلًا على الأصل.
نشر الأستاذ عبد العزيز مخيون ديوان "عبد الرحمن شكري" تخليداً لذكراه وإحياء لآثاره الأدبية، وشاء بعد طبعه أن يهدي الديوان للأستاذ عباس محمود العقاد، فاصطحب معه أستاذنا محمد رجب البيومي في ندوة الجمعة، وقد حدثهم العقاد في هذا المجلس عن الخلاف بين الشاعر وبين صديقه إبراهيم المازني، وأنّه: "لم يلبث أن انقشع؛ لأنّ المازني قد ترضى صاحبه، وعاد الود كما كان، لا كما يزعم من يحاولون تأريث العداء ظالمين". [من أعلام العصر، ص13]
وبعد احتجاب مجلة "الرسالة الزياتية" شكا للأستاذ إبراهيم سليمان حداد المشهور بإبراهيم المصري في إحدى جلسات دار الهلال غربته في الكتابة، فقال له: "إن مجلة الأديب بلبنان تحاكي مجلة الرسالة في أمور كثيرة، وهي ترحب بالبحوث المستفيضة، وستسر بها إذا تابعتها". [من أعلام العصر، ص232] فقضى بعدها أستاذنا يومين بمعهد الدراسات العربية يطالع مجموعتها، وقد سرّ بطابعها الأدبي كثيراً، ثم دفع بمقال إلى صاحبها الأستاذ ألبير أديب، فرحب به كاتباً إلى احتجاب المجلة بعد الحرب الأهلية بلبنان.
ولأستاذه محمد هاشم عطية جلسات أدبية كثيرة معه، دار الحديث في أغلبها عما شهده في مصر من المحافل الدولية، وفي بعضها حول الأستاذ علي الجارم، وكان له رأي مختلف في الجارم ناقشه البيومي فيه كثيراً، وفي إحدى المناقشات احتدّ عليه الأستاذ محمد هاشم قائلًا: "أتراني أجهل مكانة الجارم حتى تحاول أن تعرفني به، إن للجارم موقفاً خالداً في نفسي لا أستطيع أن أمحو أثره مهما تطاولت عليه الأيام". وقد اشتاق أستاذنا أن يسمع منه هذه الحادثة، فحين مات أحمد شوقي أقيم له حفل تأبين، حضره جماعة من شعراء بلاد العرب؛ كبشارة الخوري وأنطون الجميل، ثم ألقى الدكتور منصور فهمي كلمة أكاديمية متخصصة، وقد لاحظ الجمع تفوق الشاعرين بشارة وأنطون تفوقاً طامن من الكبرياء الأدبية لأدباء مصر، فقام الشاعر علي الجارم وألقى قصيدة رنانة تفوق فيها على صاحبيه، وبعد سماعها صاح الأستاذ عبد العزيز البشري هاتفاً: "هذا أبدع ما يقال، الجارم ستر مصر". [طرائف ومسامرات، ص250]
وروى أستاذنا البيومي عن شيخه الفقيه اللغوي إبراهيم محمد نجا أنه حظي بزمالة العلامة الأديب المجري عبد الكريم جرمانوس أثناء تردده على كلية اللغة العربية زائراً، وكان يذاكر معه دروس النحو والصرف من الكتب الأزهرية في أوقات كثيرة، وكان في الجامع الأزهر حلقة تضم "الطلبة الغرباء" يتردد عليها، فلاحظ أن زميله المجري يستمع إلى الدرس الواحد من عدة مدرسين في المادة الواحدة؛ كالنحو، وهو أمر غير معتاد من الطلبة في تلك الأيام، فشرح له جرمانوس وجهة نظره، وهي: "أنّه يقارن بين ما يسمع ومن يسمع في الجانبين ليعرف أوجه الزيادة والحذف، وبهذه المقارنة تثبت المادة". [من أعلام العصر، ص30]
وبعدها بسنوات التقى أستاذنا البيومي بجرمانوس، فحدثه بما هو أغرب من ذلك، وهو أنه استمع إلى درس في فضائل الصوم في مسجد إستانبول بالتركية، وبالأوردية بمسجد دلهي بالهند، وبالعربية في مسجد سيدنا الحسين بالقاهرة، ودون خلاصة هذه الدروس في دفتره، ثم طلبت إذاعة المجر درساً عن الصوم وفضائل شهر رمضان باللغة المجرية، فراجع ما حوته تلك الدروس في دفتره، ورأى من غرائب الاتفاق والاختلاف ما جعله يندم أنه لم يتنقل بين مساجد الإسلام طالباً للعلم، يدون ما يسمع من علوم الشرق والغرب؛ فلكلّ مدرسة علومها الخاصة.
وقد زار أستاذنا الأكبر البيومي الشاعر الكبير الحجازي أحمد بن إبراهيم الغزاوي لتعزيته في زوجته الراحلة، فشكا الشاعر هجوم البعض على شعره قائلًا: "إنه يبارك الجيل الجديد من الشعراء، ويتمنى أن يعيدوا للمملكة عهود السالفين من شعراء الجزيرة الكبار، ولكنّ احترام الآباء واجب الأبناء". [طرائف ومسامرات، ص10]
وقد عرف عن الأستاذ الشهير محمد إسعاف النشاشيبي علامة فلسطين كتابة بحوثٍ أدبية متصلة الحلقات بمجلة "الرسالة الزياتية" منسوبة إلى اسم "أستاذ جليل" دون الإفصاح عن اسم كاتبها الحقيقي، وكان أستاذي البيومي يتساءل كيف لمن بلغ هذه الرتبة الرفيعة في العلم ألا يسفر عن وجهه؟! وقد سأل عن ذلك أساتذته، فلم يلمس منهم جواباً شافياً، وقد عرف أستاذنا أنه النشاشيبي من خلال المقارنة بين مقالاته التي ينشرها باسمه الصريح، وتلك التي يخفي فيها اسمه، فهي متفقة في السمت العام منهجاً وطريقة، ثم حصل بينهما مجلس، وتطرق الحديث إلى سر الاستتار، فحدث النشاشيبي البيومي عن حقيقة الأمر، وأن أباه من كبار الأثرياء، ولديه من الموظفين عدد هائل ينظرون إلينا بإكبار، فكان يدخل النشاشيبي في معارك أدبية كثيرة على صفحات الجرائد والمجلات في كثير من البلدان، وكانت الردود عنيفة، حتى ربما وصلت إلى حد التراشق اللفظي والسباب، وهو ما كان يحزن والده كثيراً، فصار يقدم على الكتابة في الصحف دون توقيع حتى لا تسب أسرته، ومضى على هذا حتى بعد وفاة والده إحياء لذكراه في نفسه. [من أعلام العصر، ص42]
وحدثه مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني أنه أزهريّ النشأة والهوى، فقد تعلم عدة سنوات في صحن الجامع الأزهر، ثم التحق بمدرسة "الدعوة" التي أنشأها السيد محمد رشيد رضا، تلك المدرسة التي أراد رشيد رضا – على حد تعبير المفتي- أن تخرج دعاة للإسلام يفهمون روح العصر، فثقافة المفتي مصرية خالصة، ويعني بالمصرية الخالصة: الثقافة الإسلامية. [من أعلام العصر، ص46]
وتعجب أستاذنا البيومي حين كان مشغولًا بكتابة بحثٍ عن الخطابة في العصر النبوي أن للفقيه محمد أبو زهرة كتاباً في تاريخ الخطابة وأساليبها، وسبب ذلك أنّ اختصاصه بالفقه فكيف ينتقل من الفقه إلى الأدب؟! وقد وجه هذا السؤال إلى شيخه أبي زهره فأخبره أن: "الثقافة الإسلامية جزء لا يتجزأ، وكمٌ لا ينفصل، فلا بد لدارس الفقه والحديث والتفسير أن يدرس علوم الأدب؛ لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه إلّا إذا رزق البيان الناصع، والأئمة الكبار من الفقهاء كانوا يملكون نعمة البيان، فاستطاعوا أن يضعوا المؤلفات القيمة، وما انحطت كتب الفقه في العصور المتأخرة إلّا لأنها كتبت بأقلام لم تتذوق البيان العربي، فجاء أكثرها شبيهاً بالأحاجي والألغاز". [من أعلام العصر، ص76]
وأخبره أستاذه زكي مبارك أن معاركه الأدبية هي التي حرمته حقه في بلده قائلًا: "لقد نلتُ ثلاث دكتوراهات من الشرق والغرب، وطمعت أن أكون أستاذاً بكلية الآداب مثل الذين لم يحملوا أية دكتوراه، وليس لهم سلاح غير الخضوع والاستسلام، فأخذوا يترقون في السلك الجامعي وهم تلاميذ بالنسبة إلي، وقضي على أن أظل بوزارة المعارف، فقبلت على مضض، ثم استُكثر على أن يدوم لي التفتيش بالوزارة، ففصلني السنهوري، والسبب كله كلمة الحق التي أزعجت أمثال طه حسين والسنهوري والجارم والنقراشي والقباني". [من أعلام العصر، ص92]
ومن حسنات دهره أن التقى بالشاعر الكبير أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف في لقاء سمح به الدهر على غير انتظار مرة واحدة، وقد استقبله الشاعر مع غيره في بيته بحفاوة بالغة، واختص أستاذنا بالحديث بدءاً، فقال له: "مرحبًا بالشاعر الشيخ"، وكان شيخنا يلبس الزي الأزهري العمامة والكاكولة، فقال له البيومي: "أما شيخ فنعم، وأما شاعر فأنا تلميذ صغير للكاشف الكبير" وهنا ضحك الكاشف قائلًا: "في الأزهر أساتذة كبار فكيف تكون تلميذي؟!" فأجابه أستاذنا البيومي: "إننا جميعاً في كلية اللغة العربية نحفظ شعر الكاشف، فهو قريع شوقي وحافظ ومطران ومحرم! لقد كان موسم الشعر الماضي يجمع أكثر شعراء مصر، ولم يكن فيهم من فاق الكاشف، حيث كانت قصيدته عروس الموسم". [من أعلام العصر، ص138]
وفي فندق "سميراميس" التقى بالأستاذين محمود تيمور وعبد الكريم جرمانوس، فخص البيومي الأستاذ تيمور بحديث عن قصته عن امرئ القيس التي لقيت إعجاباً من القراء كبيراً، وقد وازن البيومي بينها وبين قصة محمد فريد أبي حديد عن الملك الضّليل، فوجد أبا حديد حريصاً على تجلية امرئ القيس كما سجله التاريخ، وأما قصة تيمور فقد قذفت به إلى مشاعر ومواقف لا تعلم عن امرئ القيس، فقال تيمور: "أنا أقصد دائماً تجلية المشاعر الإنسانية كما يمكن أن تتفق، ولا يهمني إن كانت قد اتفقت بالفعل لامرئ القيس قدر ما يهمني أن أصور انطباعي الخاص عنه كما أحسه". [من أعلام العصر، ص166]
ولقي مع أستاذه زكي مبارك الشاعر الكبير خليل مطران في مشفاه بحلوان، فأخبره زكي مبارك بأن البيومي يحفظ ديوانه ويعده شاعر العرب، فأشرق وجه مطران وقال: "الشعر عريق بين أصحاب العمائم، ومن زملائنا الكبار الذين سبقونا إلى رحمة الله الكاظمي، وعبد المطلب، وعثمان زناتي، وممن لا يزالون بيننا القاياتي، والأسمر، والأستاذ، وأشار إليّ (أي البيومي)". [من أعلام العصر، ص189]
وفي منزل صديقه الدكتور أحمد الشرباصي سعد برؤية الأستاذ محمد عبد الغني حسن، وقد شكا الأستاذ محمد عبد الغني: "من مؤلف سوري سطا على كتابه (بطل السند) فكتب مؤلفاً اغتصب فيه ما ذكره جميعه دون أن يذكر اسمه، ولو مرة واحدة، ولم يستطع المؤلف الدعي أن يبدل من ترتيب كتابه، وتبويب أحداثه، بحيث يخفى معالم اغتصابه عن القارئ العادي، فضلًا عن القارئ الناضج، وهذه سرقة بلقاء لا نزاع فيها". [من أعلام العصر، ص183]
وفي إحدى حفلات التأبين الكبرى لبعض الراحلين رأى العقاد من المتكلمين مع الزعماء الكبار، فخرج الكثير منهم في هالة مصطنعة، أما العقاد فقد خرج وحده وقد رآه زميله الأزهري الشيخ سيف المجلي "فسارع إلى اصطحابه، فهش له العقاد، ووضع يده تحت ذراعه، ومضيا معاً إلى الخارج، هذا والعقاد لم يعرف الشيخ سيف المجلي من قبل، ولكنه يرحب بمصاحبة الناشئين، ويأنف من مسايرة المرموقين". [طرائف ومسامرات، ص102]
وقد ظنّ أن العلامة محمود أبو العيون يتكسب مما ينشره بجريدة "الأهرام" فحدثه أستاذه أحمد شفيع السيد أن العلامة أبا العيون: "مجاهد مصلح، يسعى إلى نشر دعوته الإصلاحية، ومثل هذا الداعية لا ينافق ولا يداهن، وقد يأتي بما يخالف منحى الجريدة، ولكنها تنشر مقالاته استجابة لحب الجمهور، وفي هذه الحالة لا يكسب شيئاً، وهو سعيد مغتبط، لأنّ الأجر الأخرويّ مضمون غير ضائع". [من أعلام العصر، ص263]
وحدثه الشاعر إبراهيم مصطفى الدباغ عن مناسبة أبياته الشعرية التي كتبها في ديوان الطليعة قائلًا: "لقد كنتُ بعد مرض عيني أغشى بعض حفلات الغناء استجابة لعاطفة مشبوهة لديّ، ولكن بقدر محدود بالنسبة إلى ما كان قبل المرض، إذ كنت لا أدع احتفالًا غنائياً أقدر على الذهاب إليه، وكانت صلتي بكبار المطربين مثل الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش مشتهرة، وفي بعض الحفلات عبرت بي الآنسة أم كلثوم، فبادرت بتحيتي بالإشارة ظناً منها أني أقدر على رؤيتها، فلما لم تجد الرد سألت من حولها، فعرفت ما أصابني، فاتجهت إليّ مواسية، وبكت فتساقط دمعها على كفّي وأنا أسلم عليها، فتأثرت كثيراً، وقلت من أبيات:
بكت فالتقى دمعي انسجاماً ودمعها = ولكنها كانت على الدمع أقدرا
فويحك يا قلبي أما كنت شاهداً = سني الحسن أو معنى النسيم الذي سرى
أأنت كعيني غافل حين أقبلت = بربكما ردّا التحية وانظرا
وبكى الشاعر، فغلبنا التأثر، ومضت مدة كان الصمت فيها أبلغ من الكلام". [من أعلام العصر، ص272]
وروى الأستاذ الأكبر عن الأستاذ علي محمد إسماعيل مدير مطبعة السعادة بباب الخلق أن العلامة الشهير محمد محيي الدين عبد الحميد كان "يجلس أمام البروفات أكثر من عشر ساعات، لا يمل، إذ كان له أكثر من خمسة كتب في وقت واحد، فهو يحرص على أن يراجع كل ما يجمعه العامل، ومن حوله مراجعه الكثيرة التي يدأب على استشارتها. وإذا اقتضت بعض أعماله الرسمية ألا يأتي إلى المطبعة فإن الصبية من العمال ينتقلون إليه عدة مرات في اليوم الواحد، وإذا أراد أن يعيد طبع كتاب للمرة الثانية أو ما فوقها، جاء بالنسخة مثقلة بالإضافات الجديدة مما يدل على أنه يدأب على مراجعة القديم مع اشتغاله بالجديد". [النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ج2، ص141]
محمد رجب البيومي جدير بهذا السفر الضخم "الفيض القيوميّ بمرويات البيوميّ" الذي يجمع كل ما نقله أو رواه من كلام وأحداث عن مشايخه وأساتذته من عظماء القرن الماضي، وهو ميدان يحفظ للرجل تميزه ومكانه الرائد بين أبناء جيله، وفي هذا تكريم لذاته، وإحياء لروايات وأخبار يجب أن تبقى في النفوس بقاء الحياة!
د. علي زين العابدين الحسيني | كاتب أزهري
ولنا أملٌ بعد سلسلة هذه المقالات برعاية جريدة "الديوان الجديد" لرائدها الأستاذ الطلعة عمرو الزيات أن يعرف الشباب المتطلع إلى الأدب قيمة البيوميّ الحقيقية، فهو مضرب المثل في أكثر من اتجاه بلغته الرائعة التي تجذب القارئ إليها في اهتمام وشوق، وهو من أدلة تميزه الأصيل.
إنّي أستعير هنا ما قاله أستاذي محمد رجب البيومي في أستاذه محمد فريد وجدي حين قال: "لا أرى أن ظلماً فادحاً نزل بسيرة مفكر عظيم؛ كهذا الظلم الذي حاق بذكرى البحاثة الموسوعة الضليع، والكاتب الإسلامي الأكبر الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله، فإننا نشهد الكتب تؤلف، والمقالات تنشر، والأحاديث تذاع، دائرة حول أناس لم يبلغوا مبلغ تلاميذه في التفكير، ولم يعطوا معشار ما أعطى من العلم، ولم يرزقوا بعض ما تحلى به من مكارم الأخلاق، وسمو النفس، ولين الجانب، وتلك حالٌ تدعو إلى التساؤل حقاً". [محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والمفكر الموسوعي، ص7]
وما كتبه البيوميّ عن أستاذه ينطبق عليه تماماً، فقد لحقه الكثير من أمثال هذا الظلم، وإنّي أتساءل لماذا يعيش العظماء في عزلةٍ من التاريخ وفي بعد عن التكريم الحقيقي؟!
وهذا الغبن الذي لحق أستاذنا البيومي بعد وفاته لحقه أيضاً في حياته، فلم ترفع له رتبة، أو يقم له حفل تكريم يليق بقيمته العلمية، ولم يسع أحدٌ إلى إقامة تأبين يحفظ مكانته بعد وفاته، وإذا كنا قصرنا فيما مضى فإني أرى أنه من غير اللائق أن تحل علينا ذكرى ميلاده الشريفة دون الاحتفاء به وتجديد ذكراه في النفوس، ودون أن تتبوأ شخصيته مكانتها اللائقة بها في عالم الأدب والتاريخ وغير ذلك من ضروب الفنون.
إنّي أعترف أن عزلته العلمية التي فرضها على نفسه وشخصيته المتواضعة وترفعه عن المناصب والزلفى إلى الكبار ألقى على اسمه الكريم شعاراً من النسيان أحياناً، ومن الجحود أحياناً أخرى، فنسيه البعض، وتجاهله آخرون رغم علو قدره ومكانته وما قدّمه من تراث معرفيّ زاخر.
لقد حفظ لنا البيومي تاريخاً باهراً لعظماء القرن الماضي، فعرفنا عن طريقة مجموعة هائلة من الأحداث النفيسة والروايات النادرة التي رواها مباشرة عن أصحابها، وفي تراثه خزانة حكايات وأحداث، ولا يعرف أحد يماثله في كثرة ما ينقله من أخبار عن تلك الشخوص الذين اجتمع بهم، وهو أقرب الأدباء المعاصرين في نقولاته ونوادره وفرائده محاكاة للأوائل، حتى عدّ من النماذج الفريدة التي تظهر علينا في النواحي العلمية والثقافية بين آن وآخر.
وفي كتابي "الفيض القيوميّ بمرويات البيوميّ ... شُخُوص وأحداث في حياة محمد رجب البيوميّ" جمع تلك النوادر والروايات العزيزة مع ترتيب مبتكر، وتفصيل شامل لأحداثها، وتراجم لأشخاصها، فقد تهيأ لي أثناء قراءة تراثه ومقالاته كثير من المواد التي أعتاد على قراءتها بصفة مستمرة؛ لأشبع رغبة نفسية في استجلاء تلك الشخصيات الخالدة في تاريخنا الحديث، فرأيت أن تكون في كتاب يضمها؛ اختار عنوانه صديقي فضيلة الدكتور أحمد ممدوح سعد Ahmed Mamdouh -أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- العالم الجليل والباحث المبرز، وهذه بعض الروايات المختارة؛ لتكون دليلًا على الأصل.
نشر الأستاذ عبد العزيز مخيون ديوان "عبد الرحمن شكري" تخليداً لذكراه وإحياء لآثاره الأدبية، وشاء بعد طبعه أن يهدي الديوان للأستاذ عباس محمود العقاد، فاصطحب معه أستاذنا محمد رجب البيومي في ندوة الجمعة، وقد حدثهم العقاد في هذا المجلس عن الخلاف بين الشاعر وبين صديقه إبراهيم المازني، وأنّه: "لم يلبث أن انقشع؛ لأنّ المازني قد ترضى صاحبه، وعاد الود كما كان، لا كما يزعم من يحاولون تأريث العداء ظالمين". [من أعلام العصر، ص13]
وبعد احتجاب مجلة "الرسالة الزياتية" شكا للأستاذ إبراهيم سليمان حداد المشهور بإبراهيم المصري في إحدى جلسات دار الهلال غربته في الكتابة، فقال له: "إن مجلة الأديب بلبنان تحاكي مجلة الرسالة في أمور كثيرة، وهي ترحب بالبحوث المستفيضة، وستسر بها إذا تابعتها". [من أعلام العصر، ص232] فقضى بعدها أستاذنا يومين بمعهد الدراسات العربية يطالع مجموعتها، وقد سرّ بطابعها الأدبي كثيراً، ثم دفع بمقال إلى صاحبها الأستاذ ألبير أديب، فرحب به كاتباً إلى احتجاب المجلة بعد الحرب الأهلية بلبنان.
ولأستاذه محمد هاشم عطية جلسات أدبية كثيرة معه، دار الحديث في أغلبها عما شهده في مصر من المحافل الدولية، وفي بعضها حول الأستاذ علي الجارم، وكان له رأي مختلف في الجارم ناقشه البيومي فيه كثيراً، وفي إحدى المناقشات احتدّ عليه الأستاذ محمد هاشم قائلًا: "أتراني أجهل مكانة الجارم حتى تحاول أن تعرفني به، إن للجارم موقفاً خالداً في نفسي لا أستطيع أن أمحو أثره مهما تطاولت عليه الأيام". وقد اشتاق أستاذنا أن يسمع منه هذه الحادثة، فحين مات أحمد شوقي أقيم له حفل تأبين، حضره جماعة من شعراء بلاد العرب؛ كبشارة الخوري وأنطون الجميل، ثم ألقى الدكتور منصور فهمي كلمة أكاديمية متخصصة، وقد لاحظ الجمع تفوق الشاعرين بشارة وأنطون تفوقاً طامن من الكبرياء الأدبية لأدباء مصر، فقام الشاعر علي الجارم وألقى قصيدة رنانة تفوق فيها على صاحبيه، وبعد سماعها صاح الأستاذ عبد العزيز البشري هاتفاً: "هذا أبدع ما يقال، الجارم ستر مصر". [طرائف ومسامرات، ص250]
وروى أستاذنا البيومي عن شيخه الفقيه اللغوي إبراهيم محمد نجا أنه حظي بزمالة العلامة الأديب المجري عبد الكريم جرمانوس أثناء تردده على كلية اللغة العربية زائراً، وكان يذاكر معه دروس النحو والصرف من الكتب الأزهرية في أوقات كثيرة، وكان في الجامع الأزهر حلقة تضم "الطلبة الغرباء" يتردد عليها، فلاحظ أن زميله المجري يستمع إلى الدرس الواحد من عدة مدرسين في المادة الواحدة؛ كالنحو، وهو أمر غير معتاد من الطلبة في تلك الأيام، فشرح له جرمانوس وجهة نظره، وهي: "أنّه يقارن بين ما يسمع ومن يسمع في الجانبين ليعرف أوجه الزيادة والحذف، وبهذه المقارنة تثبت المادة". [من أعلام العصر، ص30]
وبعدها بسنوات التقى أستاذنا البيومي بجرمانوس، فحدثه بما هو أغرب من ذلك، وهو أنه استمع إلى درس في فضائل الصوم في مسجد إستانبول بالتركية، وبالأوردية بمسجد دلهي بالهند، وبالعربية في مسجد سيدنا الحسين بالقاهرة، ودون خلاصة هذه الدروس في دفتره، ثم طلبت إذاعة المجر درساً عن الصوم وفضائل شهر رمضان باللغة المجرية، فراجع ما حوته تلك الدروس في دفتره، ورأى من غرائب الاتفاق والاختلاف ما جعله يندم أنه لم يتنقل بين مساجد الإسلام طالباً للعلم، يدون ما يسمع من علوم الشرق والغرب؛ فلكلّ مدرسة علومها الخاصة.
وقد زار أستاذنا الأكبر البيومي الشاعر الكبير الحجازي أحمد بن إبراهيم الغزاوي لتعزيته في زوجته الراحلة، فشكا الشاعر هجوم البعض على شعره قائلًا: "إنه يبارك الجيل الجديد من الشعراء، ويتمنى أن يعيدوا للمملكة عهود السالفين من شعراء الجزيرة الكبار، ولكنّ احترام الآباء واجب الأبناء". [طرائف ومسامرات، ص10]
وقد عرف عن الأستاذ الشهير محمد إسعاف النشاشيبي علامة فلسطين كتابة بحوثٍ أدبية متصلة الحلقات بمجلة "الرسالة الزياتية" منسوبة إلى اسم "أستاذ جليل" دون الإفصاح عن اسم كاتبها الحقيقي، وكان أستاذي البيومي يتساءل كيف لمن بلغ هذه الرتبة الرفيعة في العلم ألا يسفر عن وجهه؟! وقد سأل عن ذلك أساتذته، فلم يلمس منهم جواباً شافياً، وقد عرف أستاذنا أنه النشاشيبي من خلال المقارنة بين مقالاته التي ينشرها باسمه الصريح، وتلك التي يخفي فيها اسمه، فهي متفقة في السمت العام منهجاً وطريقة، ثم حصل بينهما مجلس، وتطرق الحديث إلى سر الاستتار، فحدث النشاشيبي البيومي عن حقيقة الأمر، وأن أباه من كبار الأثرياء، ولديه من الموظفين عدد هائل ينظرون إلينا بإكبار، فكان يدخل النشاشيبي في معارك أدبية كثيرة على صفحات الجرائد والمجلات في كثير من البلدان، وكانت الردود عنيفة، حتى ربما وصلت إلى حد التراشق اللفظي والسباب، وهو ما كان يحزن والده كثيراً، فصار يقدم على الكتابة في الصحف دون توقيع حتى لا تسب أسرته، ومضى على هذا حتى بعد وفاة والده إحياء لذكراه في نفسه. [من أعلام العصر، ص42]
وحدثه مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني أنه أزهريّ النشأة والهوى، فقد تعلم عدة سنوات في صحن الجامع الأزهر، ثم التحق بمدرسة "الدعوة" التي أنشأها السيد محمد رشيد رضا، تلك المدرسة التي أراد رشيد رضا – على حد تعبير المفتي- أن تخرج دعاة للإسلام يفهمون روح العصر، فثقافة المفتي مصرية خالصة، ويعني بالمصرية الخالصة: الثقافة الإسلامية. [من أعلام العصر، ص46]
وتعجب أستاذنا البيومي حين كان مشغولًا بكتابة بحثٍ عن الخطابة في العصر النبوي أن للفقيه محمد أبو زهرة كتاباً في تاريخ الخطابة وأساليبها، وسبب ذلك أنّ اختصاصه بالفقه فكيف ينتقل من الفقه إلى الأدب؟! وقد وجه هذا السؤال إلى شيخه أبي زهره فأخبره أن: "الثقافة الإسلامية جزء لا يتجزأ، وكمٌ لا ينفصل، فلا بد لدارس الفقه والحديث والتفسير أن يدرس علوم الأدب؛ لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه إلّا إذا رزق البيان الناصع، والأئمة الكبار من الفقهاء كانوا يملكون نعمة البيان، فاستطاعوا أن يضعوا المؤلفات القيمة، وما انحطت كتب الفقه في العصور المتأخرة إلّا لأنها كتبت بأقلام لم تتذوق البيان العربي، فجاء أكثرها شبيهاً بالأحاجي والألغاز". [من أعلام العصر، ص76]
وأخبره أستاذه زكي مبارك أن معاركه الأدبية هي التي حرمته حقه في بلده قائلًا: "لقد نلتُ ثلاث دكتوراهات من الشرق والغرب، وطمعت أن أكون أستاذاً بكلية الآداب مثل الذين لم يحملوا أية دكتوراه، وليس لهم سلاح غير الخضوع والاستسلام، فأخذوا يترقون في السلك الجامعي وهم تلاميذ بالنسبة إلي، وقضي على أن أظل بوزارة المعارف، فقبلت على مضض، ثم استُكثر على أن يدوم لي التفتيش بالوزارة، ففصلني السنهوري، والسبب كله كلمة الحق التي أزعجت أمثال طه حسين والسنهوري والجارم والنقراشي والقباني". [من أعلام العصر، ص92]
ومن حسنات دهره أن التقى بالشاعر الكبير أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف في لقاء سمح به الدهر على غير انتظار مرة واحدة، وقد استقبله الشاعر مع غيره في بيته بحفاوة بالغة، واختص أستاذنا بالحديث بدءاً، فقال له: "مرحبًا بالشاعر الشيخ"، وكان شيخنا يلبس الزي الأزهري العمامة والكاكولة، فقال له البيومي: "أما شيخ فنعم، وأما شاعر فأنا تلميذ صغير للكاشف الكبير" وهنا ضحك الكاشف قائلًا: "في الأزهر أساتذة كبار فكيف تكون تلميذي؟!" فأجابه أستاذنا البيومي: "إننا جميعاً في كلية اللغة العربية نحفظ شعر الكاشف، فهو قريع شوقي وحافظ ومطران ومحرم! لقد كان موسم الشعر الماضي يجمع أكثر شعراء مصر، ولم يكن فيهم من فاق الكاشف، حيث كانت قصيدته عروس الموسم". [من أعلام العصر، ص138]
وفي فندق "سميراميس" التقى بالأستاذين محمود تيمور وعبد الكريم جرمانوس، فخص البيومي الأستاذ تيمور بحديث عن قصته عن امرئ القيس التي لقيت إعجاباً من القراء كبيراً، وقد وازن البيومي بينها وبين قصة محمد فريد أبي حديد عن الملك الضّليل، فوجد أبا حديد حريصاً على تجلية امرئ القيس كما سجله التاريخ، وأما قصة تيمور فقد قذفت به إلى مشاعر ومواقف لا تعلم عن امرئ القيس، فقال تيمور: "أنا أقصد دائماً تجلية المشاعر الإنسانية كما يمكن أن تتفق، ولا يهمني إن كانت قد اتفقت بالفعل لامرئ القيس قدر ما يهمني أن أصور انطباعي الخاص عنه كما أحسه". [من أعلام العصر، ص166]
ولقي مع أستاذه زكي مبارك الشاعر الكبير خليل مطران في مشفاه بحلوان، فأخبره زكي مبارك بأن البيومي يحفظ ديوانه ويعده شاعر العرب، فأشرق وجه مطران وقال: "الشعر عريق بين أصحاب العمائم، ومن زملائنا الكبار الذين سبقونا إلى رحمة الله الكاظمي، وعبد المطلب، وعثمان زناتي، وممن لا يزالون بيننا القاياتي، والأسمر، والأستاذ، وأشار إليّ (أي البيومي)". [من أعلام العصر، ص189]
وفي منزل صديقه الدكتور أحمد الشرباصي سعد برؤية الأستاذ محمد عبد الغني حسن، وقد شكا الأستاذ محمد عبد الغني: "من مؤلف سوري سطا على كتابه (بطل السند) فكتب مؤلفاً اغتصب فيه ما ذكره جميعه دون أن يذكر اسمه، ولو مرة واحدة، ولم يستطع المؤلف الدعي أن يبدل من ترتيب كتابه، وتبويب أحداثه، بحيث يخفى معالم اغتصابه عن القارئ العادي، فضلًا عن القارئ الناضج، وهذه سرقة بلقاء لا نزاع فيها". [من أعلام العصر، ص183]
وفي إحدى حفلات التأبين الكبرى لبعض الراحلين رأى العقاد من المتكلمين مع الزعماء الكبار، فخرج الكثير منهم في هالة مصطنعة، أما العقاد فقد خرج وحده وقد رآه زميله الأزهري الشيخ سيف المجلي "فسارع إلى اصطحابه، فهش له العقاد، ووضع يده تحت ذراعه، ومضيا معاً إلى الخارج، هذا والعقاد لم يعرف الشيخ سيف المجلي من قبل، ولكنه يرحب بمصاحبة الناشئين، ويأنف من مسايرة المرموقين". [طرائف ومسامرات، ص102]
وقد ظنّ أن العلامة محمود أبو العيون يتكسب مما ينشره بجريدة "الأهرام" فحدثه أستاذه أحمد شفيع السيد أن العلامة أبا العيون: "مجاهد مصلح، يسعى إلى نشر دعوته الإصلاحية، ومثل هذا الداعية لا ينافق ولا يداهن، وقد يأتي بما يخالف منحى الجريدة، ولكنها تنشر مقالاته استجابة لحب الجمهور، وفي هذه الحالة لا يكسب شيئاً، وهو سعيد مغتبط، لأنّ الأجر الأخرويّ مضمون غير ضائع". [من أعلام العصر، ص263]
وحدثه الشاعر إبراهيم مصطفى الدباغ عن مناسبة أبياته الشعرية التي كتبها في ديوان الطليعة قائلًا: "لقد كنتُ بعد مرض عيني أغشى بعض حفلات الغناء استجابة لعاطفة مشبوهة لديّ، ولكن بقدر محدود بالنسبة إلى ما كان قبل المرض، إذ كنت لا أدع احتفالًا غنائياً أقدر على الذهاب إليه، وكانت صلتي بكبار المطربين مثل الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش مشتهرة، وفي بعض الحفلات عبرت بي الآنسة أم كلثوم، فبادرت بتحيتي بالإشارة ظناً منها أني أقدر على رؤيتها، فلما لم تجد الرد سألت من حولها، فعرفت ما أصابني، فاتجهت إليّ مواسية، وبكت فتساقط دمعها على كفّي وأنا أسلم عليها، فتأثرت كثيراً، وقلت من أبيات:
بكت فالتقى دمعي انسجاماً ودمعها = ولكنها كانت على الدمع أقدرا
فويحك يا قلبي أما كنت شاهداً = سني الحسن أو معنى النسيم الذي سرى
أأنت كعيني غافل حين أقبلت = بربكما ردّا التحية وانظرا
وبكى الشاعر، فغلبنا التأثر، ومضت مدة كان الصمت فيها أبلغ من الكلام". [من أعلام العصر، ص272]
وروى الأستاذ الأكبر عن الأستاذ علي محمد إسماعيل مدير مطبعة السعادة بباب الخلق أن العلامة الشهير محمد محيي الدين عبد الحميد كان "يجلس أمام البروفات أكثر من عشر ساعات، لا يمل، إذ كان له أكثر من خمسة كتب في وقت واحد، فهو يحرص على أن يراجع كل ما يجمعه العامل، ومن حوله مراجعه الكثيرة التي يدأب على استشارتها. وإذا اقتضت بعض أعماله الرسمية ألا يأتي إلى المطبعة فإن الصبية من العمال ينتقلون إليه عدة مرات في اليوم الواحد، وإذا أراد أن يعيد طبع كتاب للمرة الثانية أو ما فوقها، جاء بالنسخة مثقلة بالإضافات الجديدة مما يدل على أنه يدأب على مراجعة القديم مع اشتغاله بالجديد". [النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ج2، ص141]
محمد رجب البيومي جدير بهذا السفر الضخم "الفيض القيوميّ بمرويات البيوميّ" الذي يجمع كل ما نقله أو رواه من كلام وأحداث عن مشايخه وأساتذته من عظماء القرن الماضي، وهو ميدان يحفظ للرجل تميزه ومكانه الرائد بين أبناء جيله، وفي هذا تكريم لذاته، وإحياء لروايات وأخبار يجب أن تبقى في النفوس بقاء الحياة!
د. علي زين العابدين الحسيني | كاتب أزهري
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com