عبدالرحيم التدلاوي - بين المحلي والكوني، قراءة في مجموعة "جيوب الخوف" لسعيدة لقراري

"جيوب الخوف" مجموعة قصصية للقاصة المغربية "سعيدة لقراري"، صدرت عن المطبعة والوراقة الوطنية في طبعتها الأولى سنة (2022) وتضم 18 قصة قصيرة، تتوزع على 100 صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت القصص مختلفة الأحجام بين القصيرة التي لا تتجاوز الصفحة ونصف الصفحة والتي تتعدى ذلك إلى سبع صفحات؛ رصدت من خلالها، كما أشار الباحث لحبيب الدايم ربي، مخاوفها الذاتية والجمعية...عبر حالات ومواقف يجد فيها الإنسان نفسه وجها لوجه أمام هشاشته في واقع شديد القسوة. وكما افردت لتداعيات جائحة كورونا أكثر من نص فإنها سافرت في الذاكرة لتشخيص الآثار النفسية والاجتماعية التي شكلت اختبارات حقيقية للكينونة البشرية ...بأسلوب تأملي رشيق ولغة تمتح من براءة الطفولة...
وللإشارة، فهذه ثالث مجموعة قصصية تصدر للمبدعة "سعيدة لقراري" بعد: "وداعا أحلام الغد" و"عراة خلف الستار".
تؤكد سعيدة لقراري بمجموعتها القيمة "جيوب الخوف" أنها كاتبة موهوبة تمتلك قدرات سردية مرهفة يؤكد على أنها امتلكت قدرا كبيرا من أدوات القص، وأنها قد تمكنت من أسراره، وأدواته النصية، واستراتيجياته البنائية، هكذا، قدمت لنا مجموعة قصصية أضاءت بها جوانب كثيرة من الواقع المغربي الذي صدرت عنه، ومن النفس الإنسانية في آن.
عن العتبات النصية:
تفطنت الدارسات الحديثة والمعاصرة إلى أهمية الجوانب الأخرى للنص
من غلاف وعناوين، واسم الكاتب، وهو ما سمي بالعتبات النصية أو النصوص الموازية.
فمما لا شك فيه أن الفضل في دارسة العناصر المحيطة بالنص يعود إلى الفرنسي "جيرار جينيت"، وهو من الدارسين الأوائل الذين أولوا النص ومكوناته عناية فائقة، إذ أنه لا يمكن أن يقدم أي نص خاليا من مكوناته الأساسية، فهي تعتبر وسيلة للقارئ تقوده إلى الغوص في عالم النص و الأهم من هذا خدمتها للإبداع من الناحية الجمالية واستقطاب القراء وإثارة اهتمامهم وطرح افتراضاتهم المرتبطة بأفق توقعاتهم.
وبناء على ما سبق نستنتج أن العتبات النصية عبارة عن عتبات أولية لابد للقارئ
أن يمر بها ومنها قبل الدخول إلى الفضاء النصي، ولا يمكن تجاوز هذه العتبات ووضعها جانبا لأنها تفتح المجال أمام القارئ للاطلاع على النص واستكشاف خباياه الدلالية والوظيفية.
والأكيد أن العتبة مفتاح إجرائي أولي للتوغل التدريجي في عوالم النص، ويعد النص بدوره فرصة تعويضية بعدية لتعديل ثغرات القراءة الأفقية القبلية.
وسينصب الاهتمام على عتبتين دون غيرهما، هما: عتبة العنوان وعتبة الغلاف، وتجدر الإشارة إلى أن الغلاف كاملا جاء بلون أخضر كما لو به نمش ، يحمل في وسطه الأعلى اسم المبدعة، وتحت الاسم غير بعيد عنوان المجموعة، وتحت العنوان الجنس الذي تنتمي له ومباشرة لوحة الغلاف التي شغلت ثلثه، وجاءت بداخل مستطيل عمودي، وفي وسط الأسفل سنة الإصدار.
بالنسبة للعنوان:
تفيد كلمة جيب المعاني التالية:
فتحة للقميص الذي منه يدخل الرأس عند لبسه.
ما توضع فيه النقود.
وفتحة من فُتح عظام الجمجمة، تتَّصل مع ثقوب الأنف قد تصاب بالتهاب في الجيوب الأنفيَّة.
وجيوب المقاومة: (سك) بقايا القوات المدافعة عن بلادها بعد احتلال الجيش الغازي لهذه البلاد، وتكون على أطراف البلدة، كما تكون معزولة في مناطق صغيرة تواجه قوات الاحتلال صعوبات متعددة من جيوب المقاومة.
وجَيْبُ الأَرض: مَدْخَلُهَا
والبين أن الكلمة تحمل دلالات ومعاني مختلفة؛ فهي في الغالب، تفيد تجويفا مغلق الأسفل أو مفتوحه، كدلالة مباشرة، أو تفيد المقاومة كدلالة معنوية.
أما الخوف، فهو شعور بالفزع والرهبة من شيء خارجي يثير انفعالاٌ في النفس يَحدُثُ لتوقُّع ما يرد من المكروه أو يفوت من المحبوب.
وعليه، نجد أن التركيب إضافيا ينبني على محورية الخوف من أمر ما يهدد سلامة الإنسان أو الحيوان، ويثير فزعه، وقد يرتبط هذا الخوف بعنصر يتسرب من الجيوب مما يستدعي مقاومته قصد البقاء على قيد الحياة. وهذا الاستنتاج الافتراضي نجده الأقوى بناء على ما جاء في ظهر الغلاف الذي اقتطفت سطوره من إحدى قصص المجموعة والذي تكررت فيه كلمة الخوف مرات عدة وبضمير المتكلم المفرد.
"حين نرتدي ثيابا تخلو من الجيوب، نضطر إلى استبدالها بشكل آخر يقوم مقامها، لتصبح جيوبا بديلة، كاستعمال الحقيبة، أو المحفظة، واللائحة طويلة..
فنكتشف أن الجيوب مكان لا مفر له من مرافقتنا أينما حللنا في الزمن والمكان، لأنه زاوية خاصة، بنا ملتصقة، آهلة بأشيائنا الصغيرة والكبيرة، المهمة والتافهة، قد نضع بها هاتفنا الذكي، الذي يحملنا داخله بكل خصوصياتنا، وقد نضع في تلك الجيوب أيضا قطعة علكة، نؤجل مضغها إلى وقت مغادرتنا مقر العمل..
جيوب نحتمي بعتمتها، بصمتها، بأمانتها أيضا، جيوب تذكرني بالعلبة السوداء للطائرة، خاصة حين يتجاوز دورها حمل الأشياء إلى حمل الأحاسيس وعلى رأسها بدون منازع الخوف لأنه يقتات من عتمة المكان وصمته، ليكبر ويتسع، ليزهر هناك ويكسر قضبان الأقفاص ويتجاوز عرقلة الحواجز، أو يحرق الأخضر واليابس..
بالنسبة للوحة الغلاف:
توقف عيون " جيوب الخوف " عند لوحة الفنان عبد الفتاح عبد الوالي، لم يكن عابرا ولا عبثا، بل تحول في رمشة قرار إلى إصرار وتأكيد على الاختيار، إذ أني لم أتردد في تبني اللوحة وجعلها لوحة لغلاف مجموعتي " جيوب الخوف "، ولم يتردد الفنان اليمني النبيل عبد الفتاح عبد الوالي بدوره في موافقته على ما أقدمت عليه بعد اطلاعه على محتوى المجموعة، إذ أنه بارك الاختيار وأيده..
وكان أول ما شدني إلى اللوحة، تلك النظرات الناطقة، بلغة خوف متفاوت الأحجام من وجوه متعددة الملامح، يشير الفنان إليها بألوان معتمة مختلفة تطل من تلك العيون، التي تنتمي إلى أجساد نحيلة ومنهكة لنساء، تتكئ على مساحات متصدعة، ملامح التكسير بها صارخة، تلك تداعيات لرعب وخوف فرضه تواجد وجه غريب، أجزاؤه متنافرة، إلا نظراته المخيفة فعلى بث الخوف والرعب مصرة، هو غول يتعمد الفنان في إبراز أنفه الكبير، شعره الأشعث، وعينيه الجاحظتين القاسيتين.. وهو إحالة إلى خاصية في الحكايات العربية التي يعتبر الغول فيها البطل الغير المستحب..
كما أشرت بالنسبة للألوان فلها كلمتها في صياغة مضمون اللوحة إلى جانب الأشكال والخطوط، إذ أني ذكرت طغيان اللون المعتم، تجسد خاصة في اللون البني المائل إلى السواد، هناك مساحات ضيقة من اللون الأصفر الذي يرمز إلى الإشراق والسطوع، إلا أن الفنان ألحق به الانكسار والتصدع، بحيث لم يفلت من هذا المصير إلا حيز صغير من اللون ذاته، رغم أن التلاشي باد عليه.. وكأن نظرات الغول وقعت عليه هو كذلك..
جاءت اللوحة متعددة الألوان والشخصيات، وحيث يهيمن الوجه والجسد الأنثوي، هذا الجسد الذي ظهر مؤطرا اللوحة من جهة اليمين ناظرا في الاتجاه نفسه، ومن جهة اليسار ناظرا إلى الجهة نفسها، فيما أتت الوجوه إما جميلة أو بشعة صحبة أشكال هندسية متنوعة، وتجدر الإشارة إلى حضور أشكال بشرية مرعبة بسبب إما انمساخها لأنها أتت تشبه كائنات حيوانية مخيفة، وإما لأنها جاءت بلباس أسود غريب يرتبط في المخيال بالسحرة تتكئ على عصا، وحتى تلك الوجوه الجميلة مقارنة بالبشعة في اللوحة، جاءت نظراته زائغة تعبر عن رعب ما، إضافة إلى أن نصف وجهها جاء بلون رمادي والنصف الآخر بلون أخضر وكأنه طارئ؛ أي وجد كلمسة عابرة في آخر لحظة. ومعظم ألوان اللوحة تعبر عن الخوف الداخلي للإنسان، فيما أتى اللون الأخضر المعبر عن الأمل قليلا. فالدكناء غلبت المفتوحة والمبهجة
اللغة في المجموعة:
لا تشتغل اللغة في مجموعة "جيوب الخوف" وفق منظومة ثابتة محنطة موميائية لا تتغير، تتخذ الزخرف البلاغي غايتها كما هو شأن السرود التقليدية أو ذات الطابع الكلاسيكي، وإنما ترسم المتخيل من خلال مستويات مختلفة لعل ما يميزها: اللغة الشعرية التي ليست غاية في ذاتها، ولا تنبني على وظيفة ترصيعيةتقوم على إمتاع القارئ فحسب، ولكنها لغة ثائرة متمردة تقول ما لم تتعود اللغة العادية قوله _بتعبير أدونيس_ فهي اللغة الإشارة التي تقول وتقوض ما تقول، وتهدم لتشيد وتستنطق خبايا الذات الساخطة، وتعري الشرخ النفسي والقلق الوجودي للشخصيات المسحوقة بالانتظارات الفارغة، والأحلام التي لا تتحقق، والهباء والهوان الذي يجلد الذات المتشظية..ص 20 و21. 1
وقد تميزت هذه اللغة بتنوع أنماطها من مجاز : " هذا الهدوء الذي يلبس الشوارع ... " ص 13، في تصوير لحالة الهدوء الذي يخيم على الشوارع ، والتي ما تفتأ في الابتسام : " الشارع كعادته يبتسم لها وللمارين ... " ص48 ، إلى التوسل باللهجة العامية : " واااناري الرجل تْسَطا !!!" ص68 ، " أو باللغة الفرنسية:
ص 27" Je crois qu’ elle suspecte"
إلى استخدامات لغوية تشذ عن الشائع والمألوف : غيوما تزرعني فأهطل مني غزيرة ، أراقص البرك والزخات .. ص60 بإلصاق أفعال تنزاح عما هو معتاد بالإنسان كفعل ( أهطل ) المرتبط بالمطر ليغدو مقترنا بالبشر ، في منحى انزياحي مختلف. 2
وينبغي التنبيه إلى أن المجموعة قد تميزت بخصيصة أسلوبية تخترق كل قصصها وتقوم بخلخلة ترتيب الجملة الاسمية بحيث نجد تقديم الخبر على المبتدإ وبخاصة حين يكون شبه جملة، من ذلك: مستعينا بذراع شمس عن وجهه لا تغيب..ص7
وكذلك: من غفلة بعضنا يسخر، ومن جد بعضنا الآخر يحذر، بخوفنا يتسلى، وبشجاعتنا في مواجهته، عند حدوده يتوقف، صراعنا على حلبته يقويه، واتحادنا ضده، يلوي ذراعه، وفي شر فعلته يلقيه. ص 15
ويخضع التقديم والتأخير لعنصر بلاغي يتمثل في التحبيب والتركيز والإعلاء من المقدم على حساب المؤخر
كما يلاحظ اعتماد المبدعة على اللغة الطبيعية المرتبطة بالصوت من مثل شششششش المعبرة عن قلي السمك في الزيت
التجريب القصصي:
يشمل التجريب القصصي المتخيل السردي أيضا، فالسرد يمزج الخطابات والمواد بحثا عن نص جديد يكسر الرتابة. فلم نعد نتحدث عن خطابات واتجاهات صافية، لكننا نعثر على خطابات مهجنة تبني جمالياتها على اختراق الوحدة وتنويع اتجاهات الكتابة، فيمتزج الواقعي بالرومنطيقي أو الأسطوري أو السريالي أو الغرائبي، ويتخذ الفعل التخييلي اتجاهات مختلفة.3
هكذا، نجد في قصة "جيوب الخوف" استحضارا لملحمة كلكاميش، وهي ملحمة تعبر عن الرغبة في الخلود، ولعل سياق الوباء يستدعيها رغبة في تجاوز الخوف من الموت والعبور إلى ضفة النجاة/الحياة. فضلا عن استدعاء قط إدغار آلن بو، وتوظيف قصيدة الشاعر محمود درويش ص 24. مما يعني أن الحدود بين ألوان الكتابة مائعة، وأن التداخل بين الأجناس صار سمة من سمات التجريب.
في هذه القصة جمعت المبدعة المتنافر مكانا وزمانا في توليفة واحدة معبرة على أن الإبداع واحد، وأن الاختلاف في زوايا النظر والخلفية المعرفية وأدوات الكتابة وتقنياتها، لكن الهدف يظل واحدا، هو إمتاع القارئ وإغناء رصيده الثقافي والمعرفي...اجتمع المبدعون مجهولو الهوية ومعروفوها حول طاولة الإبداع كل يساهم من زاويته بقدراته وطاقاته لإثراء الكتابة والمعرفة الإنسانية وتعميق خبراتها بالحياة والوجود.
عن ظاهرة المحلية:
تروم القصة القصيرة بشكل خاص والإبداع بشكل عام تحقيق المتعة والتسلية والفائدة كما تروم تحقيق المعرفة بالإنسان ومحيطه، وكيفية تبادل التأثر والتأثير بين الطرفين. وهذا الفعل هو الذي يمنح الكتابة أصالتها ويعبر عن خصوصيتها، ويقدم مساهمة المحلي في قراءة الواقع بمختلف تجلياته، ويثري الخبرة الإنسانية لاسيما حين يجابه هذا الإنسان بمعضلة عامة لا تخص مكانا دون آخر بل تمسه بالمطلق، مما يستوجب كيفية التعامل مع المستجد المهدد للكينونة، ونوعية الأسئلة المطروحة لتحقيق الانتصار عليه. وهكذا، نجد تنوعا واختلافا وتباينا في التعامل مع الطارئ القاتل باختلاف البيئات والثقافات، لكن ذلك كله يصب في مصلحة الإنسان لأنه يستفيد من كل هذه الخبرات في إنجاز برنامج قادر على تحقيق التجاوز ومواصلة الحياة بسلام. ولذلك كانت الكتابة الإبداعية من خلال محليتها وخصوصيتها باب لتحقيق التراكم في المعرفة والتجارب لمقاومة ما قد يأتي به المستقبل.
وأفترض أن المحلية ليست مجرد ظاهرة بحسب محمد أنقار بل هي سمة أدبية تحضر دوماً في الإبداع الإنساني مهما تتلون أشكاله وتتغير أنواعه وأجناسه. ذلك أن الأدب مهما يوغل في التجريد، أو يغدو سريالياً، أو برناسياً لا بد أن يظل مشتملاً على قدر من المحلية. غير أن السائد في تاريخ الآداب العالمية ارتباط المحلية بالمدرسة الواقعية أو الطبيعية حسبما تجلت لدى الكتاب الروس، والفرنسيين، والإسپان، وبعض الكتاب العرب.
ويستشهد بمقتطف من كتاب لمصطفى يعلى "ظاهرة المحلية في السرد المغربي:"" الذي تناول القضية نفسها بقوله
«إن المحلية في الأدب، تعني التناول الفني لبيئة معينة مادياً ومعنوياً، تنعكس فيه مختلف المظاهر الطبيعية، والعلائق البشرية، والعواطف الإنسانية. مع بروز تأثير التقاليد والعادات والأعراف المختلفة..كل ذلك بصورة مشخصة وبعيدة عن أي تجريد أو ضبابية. وإن مجال المحلية يتحدد في المجتمع المحلي الصغير بشكل خاص. إلا أنه قد يتسع فيشمل المدينة الكبيرة، أو الإقليم، أو الوطن كحقل مناسب. وليس هناك أي تعارض بين المحلية من جهة، والقومية والعالمية من جهة أخرى. فالأدب المحلي هو الرافد الذي يصب في بحر الأدب القومي. هو أيضاً المنطلق السليم نحو تحقيق مطمح العالمية» ص 38
وهذا الملمح المرتبط بالمحلية نجده في الكثير من القصص وبقصة "جيوب الخوف" التي رصدت الكثير من الأمكنة المشهورة في مدينة مراكش الحمراء، كجنان الحارثي، وصومعةالكتبية، وساحة جامع لفنا وما تعرفه من أشكال فرجوية وأنشطة موازية، وهي بذلك تكاد ترسم طوبغرافية هذه المدينة التاريخية التي عرف بها المغرب. ويمتد المحلي من خلال اللغة أو اللهجة المحلية التي تميز المكان عن غيره من الأمكنة.
وبناء عليه، يمكن القول: إن المحلية تدخل ضمن مكونات العمل القصصي لسعيد لقراري، حيث يمكن أن تشم عطر مدينة مراكش من خلال الأوصاف وطبغرافية المكان، وعطوره وتوابله، ولغته المميزة؛ تحضر مراكش في هذا العمل بنكهتها المعروفة التي تميزها عن بقية مدن المغرب وقراه.
تسم المحلية العمل القصصي دون أن يعني ذلك انغلاقا عليها أو سعيا إلى خلق ممايزة وتميز عن بقية التراب الوطني، بل بالعكس، إنها تسعى إلى رفد الساحة الثقافية بطعم آخر يدخل ضمن تفريعات التميز المغربي، الذي بدوره يقوم بتغذية الثقافة العالمية بما تمتاز به الثقافة المغربية من تنوع وتفرد.
إن الكتابة التي لا تنطلق من المحلي وتعلي من قيمته، وتشير إلى ما يتميز به هذا المحلي من ثراء وغنى وتنوع، لا يمكن أن يحقق لا ذاته ولا العالمية.
وحين نتحدث عن العالمية فليس ذلك معناه الانغلاق بل سرد الخصوصية بما أنها عنصر يدل على فعل الإنسان في بيئته بطريقة خلاقة تنسجم مع إيقاع الذات في محاورتها لنفسها ومحيطها. فمحمد شكري لم ينشد العالمية بل سعى إلى رصد خصوصية بيئته التي تميزت بشظف العيش وسياط التسلط والتهميش. رصد واقعه بكل تجلياته وخاصة واقع الفقر والفقراء بلغة جافة وصادمة قامت بتعرية واقعها البئيس ورصدت صمود الإنسان وقدرته على التجاوز. وهنا تكمن عالميتها. فهي إذ تتحدث عن الإنسان المحلي فهي تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان؛ هذا الإنسان التواق للحرية والرافض للظلم.
ونجد المبدعة لقراري لا تنشد العالمية بل تقوم برصد أثر الوباء على المغاربة وكيف تعاملوا مع هذا الكائن المجهري الدقيق الذي أرعب الناس وأثار مخاوفهم في المغرب وفي مختلف بلدان المعمور. إذن؛ كانت المبدعة تقدم لنا لوحات عن هذا الخوف المشترك بين بني الإنسان. وهي إذ ترصد المحلي فإنها في الوقت نفسه ترصد الكوني انطلاقا من أن الوباء يثير مخاوف الإنسان في كل مكان وزمان وخاصة حين يكون مجهولا. والخوف جبلة إنسانية. وغريزة حياة يقتسمها سكان هذا الكوكب جميعهم.
صيغت موضوعة الخوف بمتخيل قصصي يطرح أسئلة تؤرق الإنسان وتعبر عن قلقه ومعاناته الوجودية
هكذا، نجد المجموعة تعرض الخوف من كرونا، وانعكاساته النفسية والاجتماعية. في هذا الصدد، تروي الساردة (والسارد) محيطها المعطوب، انطلاقا من الجار والجارة، إلى مرافق المدينة، إلى حياة العمال. طبعا المجموعة لا تقدم ذلك، بتسجيلية باردة، بل اعتماد الحواس والتأمل في التفاصيل التي تجسد حياة مضطربة، في ظل وباء يعيد طرح أسئلة الحياة والوجود اليوم بإلحاح.
الخوف من الآخر المخيف، ومن المستقبل الغامض. إنه الخوف وسلطانه الذي يتخذ تمظهرات اجتماعية ونفسية عدة، ما أثر وأربك الروابط والصلات الإنسانية.
لهذا فهذه اللمسة تمنح روحا ونفسا جديدين للقصة، لتغدو أداة بحث وتأمل، قصد طرح أسئلة الحياة والوجود بين الواقع والمتخيل.4
وطرح أسئلة الحياة والوجود هو المشترك الإنساني، ففيه تتقاطع الاهتمامات والانشغالات الإنسانية بمختلف ألوانها وانتماءاتها وزوايا نظرها ومخزونها المعرفي والثقافي.
وأفترض أن جدلية المحلي والعالمي بمثابة جلوس إلى طاولة مستديرة تحضر فيه كل الأطراف المبدعة لتقدم خبراتها وتجاربها وما راكمته من معارف حول قضية من القضايا التي تشغل بال الإنسان منذ حط أقدامه على هذه الأرض، ومنها سؤال الوجود والعدم. تلك الأوراق المقدمة لا وجود فيها للتكرار أو النسخ، بل تعبر عن أصالة كل طرف، وما يمكن أن يقدمه من إضافة قيمة حول الموضوع.
استطاعت المبدعة أن تقدم لنا عملا سرديا مضاعف طبقات المعنى، متعدد التأويل، ولغات القص، يقود إلى تعدد القراءات المحتملة له، بحيث يصعب اختزاله في قراءة واحدة، الأمر الذي يدعو من القارئ والناقد على السواء الاهتمام به، وتسليط الضوء عليه.

**

** تنبيه: تقدم المبدعة سعيدة، في حوار خاص دار بيننا، أسباب اختيارها للوحة الغلاف، مع تقديم تحليل لها، وأشكرها على تعاونها في إرشادي وتفاعلها مع قراءتي، في لحظاتها الأولى والأخيرة.
كما قدمت قراءة في العنوان أدرجتها صحبة قراءتي الخاصة.

1_ عبد النبي بزاز، موضوع الوباء والخوف في قصص " جيوب الخوف "
2_ جماليات الخطاب السردي. قراءة في قصص "ألق المدافن" للقاص رشيد شباري. مجموعة من النقاد من تقديم وتنسيق فاطمة الزهراء المرابط. منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة. مطبعة سليكي أخوين. الطبعة الأولى سنة 2018
.3_ رياض خليف، لعبة التهجين السردي في المجموعة القصصية «لاعب الظل»
جريدة القدس
.4_ عبد الغني فوزي، القلق وشعريته في "جيوب الخوف" للمغربية سعيد لقراري، جريدة القدس العربي







1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى