تعد مقالة استجابات الفجأة الثانية في كتاب أشكال الكلام، التي كتبت ما بين سنتي 1974 و1980 حيث كانت منشورة في الجرائد الامريكية قبل أن تجمع في نفس الكتاب المنشور سنة 1981 تبدأ فيه من الصفحة الثامنة وسبعون الى الصفحة مئة وثلاثة وعشرون. ناقش فيها الكاتب أفكارا تتعلق بالحياة اليومية وبالتركيز على مكوناتها الدقيقة المرتبطة بالحديث في علاقة مع الذات وأليات المجتمع في توجيه الحديث، كما أنه أزال الستار عما لم يكن مهما في التحليل عند اللسانين الكلاسيكيين، ومن وجهة نظر تفاعلية رمزية قدم غوفمان مقاربة جديدة لأساليب الاتصال الإنسانية فكيف فكر الكاتب في هذه المواضيع المختلفة في المعاني السطيحة والمتشابكة في بعدها التفاعلي الرمزي؟
عرف غوفمان استجابات الفجأة بأنها مجموعة من الاعتراضات التعجبية، وهي تمثلات لفظية تخص المتكلم الذي يريد أن يظهر إحساسا كرد فعل في وضعيات غير متحكم فيها أو غير متوقعة، انها تعبيرات متكاملة. لكي يوضح قوة هذا التعريف الجديد ان ذاك في حقول العلوم الاجتماعية، انطلق من مجموعة من المعلومات وهي كالاتي؛ حسب تصوره يرى أن الألفاظ تنبثق عن طريق التناوب في الحديث وليست مكتوبة في فقرات مسبقة، بمعنى أن أخذ الكلمة لا يكون متاحا من قبل، والدليل على هذا الإقرار أننا نجد المنعطفات في الحديث، التي تتم حسب المناسبة المقترنة بشكل طبيعي في تقاطعات الطرفين؛ المرتبطة بدورها بتشغيل أشواط المحادثة. هذه النظرة تفترض اذا أن الكلام يكون بيان تحديد كلمات المتحدث أو ردا على ما أنشأه المتحدث السابق بل و أيضا قد يكون مزيجا بين الاثنين، لعل تأكيده أن الألفاظ لا تعيش لوحدها في الواقع بل تصنع أي يتم بناؤها من أجل التفاهم الاجتماعي الذي يحقق التعاون البيني، أي أن الكلمة المنطوقة موجودة في التفاعل اللفظي لا غير لأنه عندما نسمع كلمة دون اطار تكون بلا معنى لماذا؟ حسب غوفمان لأنها تكون خارج ما تم ايجادها له خارج التصميم بلغته، أي في جدول لا يعرف حساب الأغراض الاجتماعية.
ومنه سيركز الكاتب على سلوكيات لفظية غريبة تشتغل في مناطق وأماكن سيئة التي بالنسبة له ليست تواصلا، اما في المقابل هناك ألفاظ غريبة لكن في هذه الحالة تنتج لنا تواصلا رغم أن الأولى التي ليست تواصلا جمل كلامية طويلة، والثانية التي هي تواصل تتجسد في بعض الصوتيات التي لم تفشل في أن تكون تواصلية سواء على المستوى السوسيونفسي أو حتى في المقترح النقدي الذي سيقدمه غوفمان للسانيات.
التكلم مع الذات
تتسم المنظومة الإنسانية بالكلام الذي يختلف حسب الوضعيات النفسية و الاجتماعية، البشر يثرثرون داخل المجتمع في المناسبات عن طريق تبادل التعليقات بصوت عال، لكن هناك نوع من التحدث مع الذات و الحكم عليها مثلا عندما يوجه المرء ملاحظات لأحد ليس موجودا كي يستقبلها، هذا حوار مع الذات بشكل خاص رغم أن الحوار يكون فيه متحدث و مستمع الا أن في هذه الوضعية يحدث شيء سيء غير معتاد و هو ما يشير له الكاتب بأنه ليس سوى توجيه الملاحظات لأحد في أنفسنا، يمكن فهم الأمر عندما يكون الشخص مألوفا في عالمنا و الذي يسهل ذلك مراجع مشفرة في العلاقات؛ لكن المشكلة ليست في كل هذا سواء كان في المنظور أو المعايير و حتى العبارات بل المشكلة في الأدوار لأن التحدث للنفس هو انشاء لمجموعة كاملة من الأدوار الاتصالية دون أن يوجد -متحدث و مستمع حيث أن الأدوار تكون غير متكاملة، صاحب الدور لا يؤدي مؤداه الحقيقي، هذه التجربة نوع من التمركز حول الذات تبدأ في مرحلة الطفولة في لحظات النمو لكنها تعود بشكل لاحق اذ لم يتعلم الفرد الفطرة السليمة بشكل كاف؛ التي تعني أن الغاية من الكلام هي نقل الأفكار للأشخاص سواء كانت تهديدا اقناعا أو توسلا...لكن الأسوأ في كل هذا هو عندما يغذو الحديث مع النفس انحرافا.
يجد الفرد نفسه في هذه الحالة منغمسا في الحديث الذاتي، دون البحث عن رفقة او شراكة محادثة، يتم كل هذا على حساب الحياة الاجتماعية، وفي تحليله يشبه ارفينغ غوفمان هذه التجربة بزنا المحارم والاستمناء لأنها مجرد نسخة من الخيال، حيث ليست شيئا محترما في المجتمع؛ بما أنه لا توجد ظروف يمكننا القول فيها أننا اسفون لا نستطيع القدوم فنحن منشغلون بالتحدث لأنفسنا؛ بل أن المستمع لحديثنا الذاتي حتى في طريقة رده سيكون توبيخا عن طريق استعمال كلمة ماذا؟! ربما هي نفسها الطريقة التي يقوم فيها المعلم بإسكات الثرثرة في الجزء الخلفي من قاعة الدرس.
لكن التحليل لم يتوقف عند ما قيل سابقا، التفاعلية الرمزية تخبرنا بأن المجتمع يحرم الكلام مع الذات عن طريق جعلنا نراقب أنفسنا بواسطة الملاحظة الذاتية كما أنه جعلنا نخاف من الاشاعات التي ويعرفها الجميع نصبح مثل الجناة وتلتصق بنا الإساءة كما، نلقيها بدورنا. لهذا المتكلمون مع أنفسهم عندما ينهون سلسلة الحديث هذه يوبخون أنفسهم والقضية السوسيولوجية التي يمكن أن نستخلصها هنا هي أن المجتمع قد سمح لنا جميعا بالتوقف عن التحدث لأنفسنا.
عند السقوط في هذه الجنحة الاجتماعية لابد لنا من اللجوء الي ايماءات كوميدية لنغير من القالب الذي وضعنا فيه أنفسنا، عن طريق ماذا؟ الغناء الصفير والتثاؤب... لكن من الواجب الانتباه لحقيقة كبيرة هي أن الشخص قد فشل في إخفاء الحديث مع نفسه، هذا ما يحيلنا الى وضعية شخص في ورطة الهلوسة اللفظية الذي يعزوه الناس الى ضعف في اللياقة العقلية.
من المعلوم أن التنشئة الاجتماعية هي السياق الذي يتم فيه توجيه الفرد من التحول من نهج تنمية وسائل التحدث الى نهج تفاعلي، أي اجراء التحدث في المكان المسموح به و هو ضمنيا ما يتم التعبير عنه في اللقاءات الاجتماعية و ترتيب المشاركة في الكلام، لعل المتحدث لنفسه من هذه الرؤية يقسم نفسه لقسمين شخصية تتحدث و أخرى يمكن التحدث اليها لذلك هذا التعبير يمكن وصفه بأنه رفع لشكل من أشكال التفاعل الكلامي عن مكانه الطبيعي.
أنماط الحديث تمكننا من فهم العالم الاجتماعي، لذلك استعمل مفهوم-الموقف الاجتماعي- للتعبير عن المنطقة التي تجمع شخصان أو أكثر في نطاق بصري وسمعي؛ تتمثل الغاية هنا في الشعور بالمشاركة في نفس حالة الحديث الاجتماعي، لكن هذا لا يمنع من ظهور بعض أنواع الانحرافات الكلامية أو لنقل التواصلية، هنا يستحضر غوفمان بدقة ممنهجة دور لاستجابات الفجأة التي تتم تعبئتها في لهجات ضمنية. ومنه فالقوة التي تتميز بها هي جعل مسافة التغير سريعة، طرق التعبير عن احترام الوضع العام كذلك توفر لنا بشكل مؤكد القدرة على التدخل في منظور الأخرين اجتماعيا.
يستطرد صاحب المقالة في إشارة الى أن التحدث مع الذات يجعلنا نحس أننا في وضع غير مناسب، أي أن المرء يشعر وكأنه مختل عقليا، لكن لبد من الالتفات لمعلومة مهمة وهي أن هذه الجريمة الاجتماعية المرموز لها تكون أخطر خاصة في العلن أكثر منه في السر، يضيف القراءة أيضا نفسها مشكوكة من هذه الناحية، فعند تحريك الأفواه بصوت مسموع يدل اننا منغمسون في مشهد خاص، ويتفاقم التصوير الاجتماعي خطورة إذا لم نحمل معنا مبررا مثل المظهر الذي يشير لمكانة ثقافية أو تعليمية عالية.
لا يكتفي غوفمان بتقديم هذه الأمثلة من المعاش اليومي، حتى المتكلم مع نفسه المتعثر بقطعة اسمنت على الرصيف يتمعن فيها نظرا للقيمة التحليلية أي أن هذه الومضات الاجتماعية لأنه يفترض أن توقف هذا المتعثر المتكلم ليفحص سبب ما حدث له دليل على أن المجتمع يقوم بعمل علاجي، يتجلى في محاولة تصحيح التهديد العلاجي كأنه يخبر الجماعة التي التقطت وضعيته؛ بأنه يقدرها ، و يحترم ذكاءها و كفاءة حضورها بالفعل عندما يقوم بتوجيه ابتسامة صغيرة ساحرة لنفسه ليبين أنه تعامل مع الأمر بنوع من المزاح، فكل هذه الوسائل تعمل في دائرة إخفاء الانحراف بواسطة حركات التهريج مثلا...و منه يبدو أن الفرق بين الحيوان و الانسان أن الأول مشدود لتهديدات بيولوجية بينما الثاني في خطر يهدد سمعته.
في أصل الحديث عند الأطفال
استمرارا في فهم الأمر بشكل جيد لاحظ الباحث مجموعة من الأطفال في تفاعلات يسيطر عليها الإحباط والصعوبات، في محاولة لتعلم الرسم؛ لكن فجأة عندما يجد الطفل نفسه دون ورق أو قلم رصاص أو اللون الذي يحتاجهن يعيش مرحلة عرقلة نشاطه؛ يترتب عنها نتائج مهما من بينها توسع التمركز حول الذات التي هي في الأصل محاولة لفهم الموقف، هذا ما يسميه ارفينج غوفمان "محاولة معالجة الحدث بالتحدث للنفس" يخدم الحديث وظيفة التوجيه الداخلي حيث يحيلنا هنا على إشارة العالم فيجوتسكي التي تصف هذه العملية بأنه إشكالية في غاية الأهمية تستوجب ضرورة مراقب بالغ على مسافة من الاستماع.
نقد اللسانيات
عرض غوفمان موهبة فكرية جديدة في توجيه النقد للطريقة التي تتناول بها اللسانيات نماذجها التحليلية للكلام بالاعتماد فقط على الكلام النموذجي، حيث يكشف أنها أغفلت مكونات مهمة في الخطاب اليومي، مؤكدا على أن ظاهرة الكلام ليست كما يبدو للسانيين خاصة وأنه عالم اجتماع لسانيات يرد على ما تفترضه و يضيف أن الالفاظ مثل: WOOPS ! OUPS ! ردود كلامية تعجبية انها تبدو مستهلكة لأنها مشتركة، لكن المتخصصين في اللسانيات لم ينتبهوا الى أنها تظهر لحظات التوتر ويغفلون أهميتها التحليل حيث قال غوفمان "We look to the light the ventings provide not to the heat they dispel"
ما يمكن فهمه من القولة المذكورة هنا ة بشكل مجازي ، يقصد صاحبها بأننا ننظر الى الضوء الذي توفره لنا الفتحات و ليس الحرارة التي تتسبب فيها، أي انه من المفروض لهذه الاشكال من الالفاظ في التحليل لأنها تلعب دورا كبيرا بالنسبة له، خاصة عندما نفرض على الجميع الانتباه في مختلف الوضعيات الاجتماعية، لأنها تعبير عن ما يجول في خواطرنا لغاية أن يكون لدي المتلقي بشكل مباشر و القوة التي تتجسد في تقليصها للمدة الزمنية التي سنقول فيها الشيء الكثير، انها تتحول لعرض دون أن تكون كلاما ؛ انها صوتيات / اصطلاحات vocalizations حسب الموقف الاجتماعي حسب المناسبات و الخيال الاجتماعي كذلك للتجربة الاجتماعية، لذلك يحث الكاتب على ضرورة أن تدرس بشكل مشترك لأنها تخبرنا كثيرا حول النظام الاجتماعي للحياة اليومية، لكن غوفمان يتمنى أن تذهب اللسانيات الى نقاط أبعد في التحليل، لأن الطابع الذي منحه لهذه التعبيرات و الاعتياد الذي تتميز به يمكنها من أن تضمن في قالب معياري للقاءات و المحادثات.
مثال توضيحي
في الصفحة 117 من الكتاب نفسه المذكور سابقا أشكال الكلام أورد غوفمان مثالا مهما و هو أن المتكلم عندما يكتشف أنه ابتعد عن اللباقة و البراعة، يمكنه التوقف و الاعتراف ضمنيا بأن كلماته ذهبت بعيدا و هذا ما يبدو جليا في استعمال كلمة !oups و لكي يحدد غوفمان القوة التواصلية لهذه التعبيرات يعتبر أن صاحب التعبير كأنه يستحضر صورة شخص ما يتناسب مع هذه الصوتية الخاصة؛ و هذا هو الطابع المسرحي المهم عنده في مقاربته للوضعية، اذا: حسب عالم الاجتماع الأمريكي هذه الردود تمثل جزءا من المحادثة و من يرى أنها غير قابلة للتحليل فهو يتعامل معها دون الانتباه للمرجعيات التي تأسست عليها، أي أن رفض تحليلها هو التعامل معها خارج الأصول الوظيفية للحوار، و بعد هذه الحجة ينهي غوفمان مقالته بتذكير حقل اللسانيات أن التبرير لتوسيع شبكة تحليلها و بأن الالفاظ القابلة للتحليل ليست بالضرورة كلاما نموذجيا؛ كما أن هذه الإضافة ستمكن اللسانيات الاقتراب أكثر من الوضعيات الاجتماعية لأن الصوتيات لها قيمة كما سبق التحديد و ليست مجرد استمرار مع الكلام النموذجي.
لوائح بيبليوغرافية يمكن الاستعانة بها
-Goffman, Erving :Forms of Talk 1981 (University of Pennsylvania publications in conduct and communication)
- Jacques Girin : façon de parler (« Forms of Talk ») ,1987In: Sociologie du travail, 30ᵉ année n°3, Juilletseptembre 1988. pp. 489-492
-Forms of Talk. Erving Goffman. Philadelphia:University of Pennsylvania, Reviewed by AMY ZAHARLICK, Ohio State University
عرف غوفمان استجابات الفجأة بأنها مجموعة من الاعتراضات التعجبية، وهي تمثلات لفظية تخص المتكلم الذي يريد أن يظهر إحساسا كرد فعل في وضعيات غير متحكم فيها أو غير متوقعة، انها تعبيرات متكاملة. لكي يوضح قوة هذا التعريف الجديد ان ذاك في حقول العلوم الاجتماعية، انطلق من مجموعة من المعلومات وهي كالاتي؛ حسب تصوره يرى أن الألفاظ تنبثق عن طريق التناوب في الحديث وليست مكتوبة في فقرات مسبقة، بمعنى أن أخذ الكلمة لا يكون متاحا من قبل، والدليل على هذا الإقرار أننا نجد المنعطفات في الحديث، التي تتم حسب المناسبة المقترنة بشكل طبيعي في تقاطعات الطرفين؛ المرتبطة بدورها بتشغيل أشواط المحادثة. هذه النظرة تفترض اذا أن الكلام يكون بيان تحديد كلمات المتحدث أو ردا على ما أنشأه المتحدث السابق بل و أيضا قد يكون مزيجا بين الاثنين، لعل تأكيده أن الألفاظ لا تعيش لوحدها في الواقع بل تصنع أي يتم بناؤها من أجل التفاهم الاجتماعي الذي يحقق التعاون البيني، أي أن الكلمة المنطوقة موجودة في التفاعل اللفظي لا غير لأنه عندما نسمع كلمة دون اطار تكون بلا معنى لماذا؟ حسب غوفمان لأنها تكون خارج ما تم ايجادها له خارج التصميم بلغته، أي في جدول لا يعرف حساب الأغراض الاجتماعية.
ومنه سيركز الكاتب على سلوكيات لفظية غريبة تشتغل في مناطق وأماكن سيئة التي بالنسبة له ليست تواصلا، اما في المقابل هناك ألفاظ غريبة لكن في هذه الحالة تنتج لنا تواصلا رغم أن الأولى التي ليست تواصلا جمل كلامية طويلة، والثانية التي هي تواصل تتجسد في بعض الصوتيات التي لم تفشل في أن تكون تواصلية سواء على المستوى السوسيونفسي أو حتى في المقترح النقدي الذي سيقدمه غوفمان للسانيات.
التكلم مع الذات
تتسم المنظومة الإنسانية بالكلام الذي يختلف حسب الوضعيات النفسية و الاجتماعية، البشر يثرثرون داخل المجتمع في المناسبات عن طريق تبادل التعليقات بصوت عال، لكن هناك نوع من التحدث مع الذات و الحكم عليها مثلا عندما يوجه المرء ملاحظات لأحد ليس موجودا كي يستقبلها، هذا حوار مع الذات بشكل خاص رغم أن الحوار يكون فيه متحدث و مستمع الا أن في هذه الوضعية يحدث شيء سيء غير معتاد و هو ما يشير له الكاتب بأنه ليس سوى توجيه الملاحظات لأحد في أنفسنا، يمكن فهم الأمر عندما يكون الشخص مألوفا في عالمنا و الذي يسهل ذلك مراجع مشفرة في العلاقات؛ لكن المشكلة ليست في كل هذا سواء كان في المنظور أو المعايير و حتى العبارات بل المشكلة في الأدوار لأن التحدث للنفس هو انشاء لمجموعة كاملة من الأدوار الاتصالية دون أن يوجد -متحدث و مستمع حيث أن الأدوار تكون غير متكاملة، صاحب الدور لا يؤدي مؤداه الحقيقي، هذه التجربة نوع من التمركز حول الذات تبدأ في مرحلة الطفولة في لحظات النمو لكنها تعود بشكل لاحق اذ لم يتعلم الفرد الفطرة السليمة بشكل كاف؛ التي تعني أن الغاية من الكلام هي نقل الأفكار للأشخاص سواء كانت تهديدا اقناعا أو توسلا...لكن الأسوأ في كل هذا هو عندما يغذو الحديث مع النفس انحرافا.
يجد الفرد نفسه في هذه الحالة منغمسا في الحديث الذاتي، دون البحث عن رفقة او شراكة محادثة، يتم كل هذا على حساب الحياة الاجتماعية، وفي تحليله يشبه ارفينغ غوفمان هذه التجربة بزنا المحارم والاستمناء لأنها مجرد نسخة من الخيال، حيث ليست شيئا محترما في المجتمع؛ بما أنه لا توجد ظروف يمكننا القول فيها أننا اسفون لا نستطيع القدوم فنحن منشغلون بالتحدث لأنفسنا؛ بل أن المستمع لحديثنا الذاتي حتى في طريقة رده سيكون توبيخا عن طريق استعمال كلمة ماذا؟! ربما هي نفسها الطريقة التي يقوم فيها المعلم بإسكات الثرثرة في الجزء الخلفي من قاعة الدرس.
لكن التحليل لم يتوقف عند ما قيل سابقا، التفاعلية الرمزية تخبرنا بأن المجتمع يحرم الكلام مع الذات عن طريق جعلنا نراقب أنفسنا بواسطة الملاحظة الذاتية كما أنه جعلنا نخاف من الاشاعات التي ويعرفها الجميع نصبح مثل الجناة وتلتصق بنا الإساءة كما، نلقيها بدورنا. لهذا المتكلمون مع أنفسهم عندما ينهون سلسلة الحديث هذه يوبخون أنفسهم والقضية السوسيولوجية التي يمكن أن نستخلصها هنا هي أن المجتمع قد سمح لنا جميعا بالتوقف عن التحدث لأنفسنا.
عند السقوط في هذه الجنحة الاجتماعية لابد لنا من اللجوء الي ايماءات كوميدية لنغير من القالب الذي وضعنا فيه أنفسنا، عن طريق ماذا؟ الغناء الصفير والتثاؤب... لكن من الواجب الانتباه لحقيقة كبيرة هي أن الشخص قد فشل في إخفاء الحديث مع نفسه، هذا ما يحيلنا الى وضعية شخص في ورطة الهلوسة اللفظية الذي يعزوه الناس الى ضعف في اللياقة العقلية.
من المعلوم أن التنشئة الاجتماعية هي السياق الذي يتم فيه توجيه الفرد من التحول من نهج تنمية وسائل التحدث الى نهج تفاعلي، أي اجراء التحدث في المكان المسموح به و هو ضمنيا ما يتم التعبير عنه في اللقاءات الاجتماعية و ترتيب المشاركة في الكلام، لعل المتحدث لنفسه من هذه الرؤية يقسم نفسه لقسمين شخصية تتحدث و أخرى يمكن التحدث اليها لذلك هذا التعبير يمكن وصفه بأنه رفع لشكل من أشكال التفاعل الكلامي عن مكانه الطبيعي.
أنماط الحديث تمكننا من فهم العالم الاجتماعي، لذلك استعمل مفهوم-الموقف الاجتماعي- للتعبير عن المنطقة التي تجمع شخصان أو أكثر في نطاق بصري وسمعي؛ تتمثل الغاية هنا في الشعور بالمشاركة في نفس حالة الحديث الاجتماعي، لكن هذا لا يمنع من ظهور بعض أنواع الانحرافات الكلامية أو لنقل التواصلية، هنا يستحضر غوفمان بدقة ممنهجة دور لاستجابات الفجأة التي تتم تعبئتها في لهجات ضمنية. ومنه فالقوة التي تتميز بها هي جعل مسافة التغير سريعة، طرق التعبير عن احترام الوضع العام كذلك توفر لنا بشكل مؤكد القدرة على التدخل في منظور الأخرين اجتماعيا.
يستطرد صاحب المقالة في إشارة الى أن التحدث مع الذات يجعلنا نحس أننا في وضع غير مناسب، أي أن المرء يشعر وكأنه مختل عقليا، لكن لبد من الالتفات لمعلومة مهمة وهي أن هذه الجريمة الاجتماعية المرموز لها تكون أخطر خاصة في العلن أكثر منه في السر، يضيف القراءة أيضا نفسها مشكوكة من هذه الناحية، فعند تحريك الأفواه بصوت مسموع يدل اننا منغمسون في مشهد خاص، ويتفاقم التصوير الاجتماعي خطورة إذا لم نحمل معنا مبررا مثل المظهر الذي يشير لمكانة ثقافية أو تعليمية عالية.
لا يكتفي غوفمان بتقديم هذه الأمثلة من المعاش اليومي، حتى المتكلم مع نفسه المتعثر بقطعة اسمنت على الرصيف يتمعن فيها نظرا للقيمة التحليلية أي أن هذه الومضات الاجتماعية لأنه يفترض أن توقف هذا المتعثر المتكلم ليفحص سبب ما حدث له دليل على أن المجتمع يقوم بعمل علاجي، يتجلى في محاولة تصحيح التهديد العلاجي كأنه يخبر الجماعة التي التقطت وضعيته؛ بأنه يقدرها ، و يحترم ذكاءها و كفاءة حضورها بالفعل عندما يقوم بتوجيه ابتسامة صغيرة ساحرة لنفسه ليبين أنه تعامل مع الأمر بنوع من المزاح، فكل هذه الوسائل تعمل في دائرة إخفاء الانحراف بواسطة حركات التهريج مثلا...و منه يبدو أن الفرق بين الحيوان و الانسان أن الأول مشدود لتهديدات بيولوجية بينما الثاني في خطر يهدد سمعته.
في أصل الحديث عند الأطفال
استمرارا في فهم الأمر بشكل جيد لاحظ الباحث مجموعة من الأطفال في تفاعلات يسيطر عليها الإحباط والصعوبات، في محاولة لتعلم الرسم؛ لكن فجأة عندما يجد الطفل نفسه دون ورق أو قلم رصاص أو اللون الذي يحتاجهن يعيش مرحلة عرقلة نشاطه؛ يترتب عنها نتائج مهما من بينها توسع التمركز حول الذات التي هي في الأصل محاولة لفهم الموقف، هذا ما يسميه ارفينج غوفمان "محاولة معالجة الحدث بالتحدث للنفس" يخدم الحديث وظيفة التوجيه الداخلي حيث يحيلنا هنا على إشارة العالم فيجوتسكي التي تصف هذه العملية بأنه إشكالية في غاية الأهمية تستوجب ضرورة مراقب بالغ على مسافة من الاستماع.
نقد اللسانيات
عرض غوفمان موهبة فكرية جديدة في توجيه النقد للطريقة التي تتناول بها اللسانيات نماذجها التحليلية للكلام بالاعتماد فقط على الكلام النموذجي، حيث يكشف أنها أغفلت مكونات مهمة في الخطاب اليومي، مؤكدا على أن ظاهرة الكلام ليست كما يبدو للسانيين خاصة وأنه عالم اجتماع لسانيات يرد على ما تفترضه و يضيف أن الالفاظ مثل: WOOPS ! OUPS ! ردود كلامية تعجبية انها تبدو مستهلكة لأنها مشتركة، لكن المتخصصين في اللسانيات لم ينتبهوا الى أنها تظهر لحظات التوتر ويغفلون أهميتها التحليل حيث قال غوفمان "We look to the light the ventings provide not to the heat they dispel"
ما يمكن فهمه من القولة المذكورة هنا ة بشكل مجازي ، يقصد صاحبها بأننا ننظر الى الضوء الذي توفره لنا الفتحات و ليس الحرارة التي تتسبب فيها، أي انه من المفروض لهذه الاشكال من الالفاظ في التحليل لأنها تلعب دورا كبيرا بالنسبة له، خاصة عندما نفرض على الجميع الانتباه في مختلف الوضعيات الاجتماعية، لأنها تعبير عن ما يجول في خواطرنا لغاية أن يكون لدي المتلقي بشكل مباشر و القوة التي تتجسد في تقليصها للمدة الزمنية التي سنقول فيها الشيء الكثير، انها تتحول لعرض دون أن تكون كلاما ؛ انها صوتيات / اصطلاحات vocalizations حسب الموقف الاجتماعي حسب المناسبات و الخيال الاجتماعي كذلك للتجربة الاجتماعية، لذلك يحث الكاتب على ضرورة أن تدرس بشكل مشترك لأنها تخبرنا كثيرا حول النظام الاجتماعي للحياة اليومية، لكن غوفمان يتمنى أن تذهب اللسانيات الى نقاط أبعد في التحليل، لأن الطابع الذي منحه لهذه التعبيرات و الاعتياد الذي تتميز به يمكنها من أن تضمن في قالب معياري للقاءات و المحادثات.
مثال توضيحي
في الصفحة 117 من الكتاب نفسه المذكور سابقا أشكال الكلام أورد غوفمان مثالا مهما و هو أن المتكلم عندما يكتشف أنه ابتعد عن اللباقة و البراعة، يمكنه التوقف و الاعتراف ضمنيا بأن كلماته ذهبت بعيدا و هذا ما يبدو جليا في استعمال كلمة !oups و لكي يحدد غوفمان القوة التواصلية لهذه التعبيرات يعتبر أن صاحب التعبير كأنه يستحضر صورة شخص ما يتناسب مع هذه الصوتية الخاصة؛ و هذا هو الطابع المسرحي المهم عنده في مقاربته للوضعية، اذا: حسب عالم الاجتماع الأمريكي هذه الردود تمثل جزءا من المحادثة و من يرى أنها غير قابلة للتحليل فهو يتعامل معها دون الانتباه للمرجعيات التي تأسست عليها، أي أن رفض تحليلها هو التعامل معها خارج الأصول الوظيفية للحوار، و بعد هذه الحجة ينهي غوفمان مقالته بتذكير حقل اللسانيات أن التبرير لتوسيع شبكة تحليلها و بأن الالفاظ القابلة للتحليل ليست بالضرورة كلاما نموذجيا؛ كما أن هذه الإضافة ستمكن اللسانيات الاقتراب أكثر من الوضعيات الاجتماعية لأن الصوتيات لها قيمة كما سبق التحديد و ليست مجرد استمرار مع الكلام النموذجي.
لوائح بيبليوغرافية يمكن الاستعانة بها
-Goffman, Erving :Forms of Talk 1981 (University of Pennsylvania publications in conduct and communication)
- Jacques Girin : façon de parler (« Forms of Talk ») ,1987In: Sociologie du travail, 30ᵉ année n°3, Juilletseptembre 1988. pp. 489-492
-Forms of Talk. Erving Goffman. Philadelphia:University of Pennsylvania, Reviewed by AMY ZAHARLICK, Ohio State University